أعتبر نفسي وجيلي من آخر الأجيال المحظوظة بالحصول على مصادر تثقيفية ثقيلة القيمة إلى جانب الدور التعليمي للمؤسسات التعليمية، فقد كانت لحملة "القراءة للجميع" المُطَبَقة على نطاق الجمهورية المصرية على مدار سنين طويلة فضلاً كبيراً في تكوين شخصيتنا كنشء، وتحصين عقولنا بالكثير من المعلومات، وفتح آفاق تخيلاتنا لكل ما يمكن ولا يمكن إدراكه ضمن إطار العملية التعليمية التقليدية، وقد كان والدي من جانبه يحرص على ذلك منذ عمر إدراكي فكان يشتري لي كتباً مترجمة من الروسية للعربية عن علوم الفلك -أول وأعظم من اخترق الفضاء- وساعدنا في ذلك فترة بقاؤنا في الاتحاد السوفيتي السابق لعدة سنوات، تلك الكتب كانت تأخذني إلى عالم بعيد من الحقائق الغائبة عن كتبنا وعالمنا الدراسي آنذاك.
وكبرت وأنا على اهتمامي بفكرة الاطلاع على ما يحمله الآخر في كتبه، ما يقرأه عنا، ولا نعلم عنه شيئا، ما يفهمه عن عالمنا ونحن لا نفهمه، وما يُنقَل إلى هذا الآخر عن آدابنا وعلومنا وفنونا ولا نعلم كيف استقبلوه، تلك الحالة من الشغف سارت معي حتى العمر الذي التحقت فيه بالعمل وعلمت "بمشروع المليون كتاب" الذي بدأ في مطلع الألفية الجديدة، واحتفل مع بداية 2006 بإصدار الكتاب رقم 1000 ضمن المشروع الذي تولى مسؤوليته المركز القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة.
كنت شديدة التعلق بالفكرة في حد ذاتها، وقلت في نفسي مصر التي كانت أول أمة عرفت الكتابة بالنحت البارز والغائر على الجدران، وأول أمة انتقلت علومها وآدابها وفنونها وتجارتها عبر البحار والأنهار، هي بالطبع خير رائد وخير من يقوم بهذا المشروع العظيم في المنطقة بأكملها، لتفردها بالعديد من العظماء في هذا مجال اللغات والترجمة، والأكثر كونهم محترفون ومتفوقون في عدة لغات (منها النادر ومنها الطارد) لا اللغات الأساسية فقط.
ولمن لا يعلم فإن المشروع القومي للترجمة يعد أهم الحلقات في سلسلة طويلة من الجهود المبذولة في مجال الترجمة في تاريخنا الحديث، التي بدأت مع إنشاء "مدرسة الألسن" في مطلع القرن التاسع عشر، واستمرت في جهود لجنة التأليف والترجمة والنشر، ومشروع "الألف كتاب" الذي أصدر ما يقرب من ستمائة كتاب عند توقفه، أضف إلي ذلك مشروعين لم يكتملا أولهما لجامعة الدول العربية بإشراف الدكتور طه حسين، وثانيهما لهيئة الكتاب المصرية بإشراف الدكتور سمير سرحان، لكن للأسف بمرور السنوات في كل مرة لم يكتب لأحد من هذه المشاريع النجاة من بحر الظلمات الرافض لأي فكر نهضوي من شأنه كسر القاعدة النمطية من العزلة الثقافية.
على نفس المسار، وخلال دراستي للإعلام بالجامعة، كان للإعلام الموجه نصيباً دراسياً عظيماً كشكل من أشكال الإعلام متغير النمط الذي يستهدف جمهوره من خارج دولة البث بحسب أهداف بعينها، قد تكون وفق رؤية الدولة أو سياسة القائمين على القناة ذاتها، مستهدفاً بذلك تحقيق رسالة أو عدة رسائل ما، وكانت لشبكة أخبار CNN الريادة في هذا النطاق، مع إذاعتها أحداث حرب الخليج في مطلع التسعينيات على الهواء مباشرة، وبدأت في نقل الأخبار لنا لحظة بلحظة، وقام مراسلوها بنقل الرسائل الإخبارية والصواريخ تمر من خلفهم والكاميرا تنقل ونحن نتابع بشغف، كانت تبدو وقتها لجماهير التسعينيات وكأنها فيلماً هوليوودي الصنع من نوعية سلسة أفلام روكي.
وعليه أصبح الشعب العربي فريسة سهلة لإعلام الـCNN الذي نقل لنا أخبارنا من داخلنا دونما أية منافسة تذكر، ولا حتى على سبيل شرف المحاولة، لكن المبرر الوحيد أن الفجوة التكنولوجية وقتها كانت بعيدة على الجميع، وتلتها بأعوام محاولات عديدة من عدة شبكات إخبارية كلها كانت في مقام التوصيف بالإعلام الموجه، وكانت منهم محاولة مصرية جيدة جداً بمعايير الوقت آنذاك هي قناة "النايل تي في"، وقامت بدور ملحوظ لعدة سنوات، وكانت المرآة العاكسة لقدرة الدولة المصرية على تصدير الصورة الحقيقية عن المجتمع المصري باللغتين الإنجليزية والفرنسية، ولا نعلم أيضاً لماذا لم تكمل مسارها بنفس القوة رغماً عن عظمة إمكانياتنا وطاقاتنا البشرية الهائلة، والتي مع كل أسف أصبحت مطمعاً لباقي الشبكات الإخبارية العربية التي سبقتنا وسلبتنا ثورتنا البشرية التي هي أعز ما نملك.
سبقت "النايل تي في" في ذلك الإذاعة المصرية الموجهة التي احتلت مكانة رفيعة بين سائر الإذاعات الدولية، باعتبارها الثالثة على العالم بعد إذاعة بي بي سي، وإذاعة صوت أمريكا، وهي التي بدأ تأسيسها مع بداية إنشاء إذاعة "صوت العرب" عام 1953، وكانت موجهة إلى الجمهور في أمريكا الشمالية وأستراليا وجنوب شرق آسيا وغرب أفريقيا، وكان عدد ساعات البث يومياً 61 ساعة.
وكانت أولى المحطات التي جرى تأسيسها هي "البرنامج العبري" أقدم الإذاعات المصرية الموجهة، وبعدها بشهور قليلة جرى تأسيس "البرنامج الإندونيسي"، ثم "البرنامج الإنجليزي"، وفي عام 1954، جرى تأسيس الإذاعة الموجهة إلى جمهور أفريقيا باللغة السواحيلية باعتبارها من أكثر اللغات انتشاراً في دول حوض النيل، وبعدها بعامٍ واحد جرى تأسيس محطة "البرنامج الأمهري" وهي موجهة لجمهور دولة إثيوبيا، وفي عام 1955 جرى إنشاء "البرنامج الإسباني والبرتغالي" وكانت موجهة إلى الجمهور في أمريكا الجنوبية، وفي عام 1956، تم تأسيس محطة موجهة لغرب إفريقيا، بلغة الهوسا والفرنسية والإنجليزية، إذ تُعد الأولى هي الأكثر انتشاراً في نيجيريا وغانا وتوجو.
كل تلك الجهود العظيمة، لم يحدد لها قياساً لرجع الصدى، ولا للأهداف المرجو تحقيقها، فالتدقيق في اختيار الرسالة الموجهة لابد وأن يكون دقيقاً محدداً متجدداً مواكباً لكل التغيرات الحادثة بوتيرة سريعة، وبكثافة غير مسبوقة مقارنة بحركة سريان المعلومة في القرن الماضي.
المطلوب بقوة هو ضرورة الالتفات إلى هذا المدخل النفسي شديد التأثير والتأثر في الأمم، إذا لما يكن التحصين الشعبي على المستوى المأمول، وبما أن العالم الحديث أصبح قرية صغيرة كقول العالم/ مارشال ماك لوهان، وأصبح لا يعترف إعلامياً بحدود سياسية للغزو الفكري والاختراق الثقافي بدعوى "العولمة والاندماج"، وممارسة كل أشكال علم نفس الشعوب أوقات السلم أكثر من أوقات الحروب كسابق ممارسات جوزيف جوبلز وزير دعاية وإعلام هتلر.
الرسالات الضمنية الممررة عن طريق العدو غير المرئي هي آفة العصر، ووجب علينا أن نحسن التحصين والالتفات لصناعة رأي عام مبني على علم وثقافة، وتذليل العقبات أمام منحنى الصعود لها وتمددها أفقياً، وأيضاً استحضار روح كل ملهمينا من قوتنا الناعمة المؤثرة في الخارج التي صنعت فوارقاً لم تصنعها آلة الحرب، باعتبارها قوة خشنة معيارها الأساسي الانتصار أو الهزيمة لا إحداث الفوارق في وجدان الشعوب.
الترجمات هي أولى خطوات استكمال طريق معرفة الآخر من الداخل، والإعلام الموجه هو ثاني وأهم خطوات مخاطبة الآخر بلسان الحال المصري كما يستحق أن يُرى ويُدرّك، قوي، ومؤثر، وكصانع للقرار المؤثر في المحيطين الإقليمي والدولي.
مصر تستطيع .. مصر تستحق