الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

قبل أن يستأذن القارئ في الرحيل

  • 18-8-2022 | 12:23
طباعة

لا تتوقف ذاكرتي عن استعراض ذلك المشهد اليومي خلال مرحلة دراستي الثانوية، وأنا أخرج في الصباح الباكر لشراء الصحف وأتطلع إليها بشغف، باحثا فيها عن تلك القصص الإخبارية، والأعمدة الصحفية التي أرتبط بها، كان لدي شعور عميق بكوني صديق الكاتب الراحل عبد الوهاب مطاوع، وانا أطالع ردوده الأسبوعية في بريد الأهرام، كنت انتظر بشغف عدد الخميس من صحيفة الوفد ونقدها اللاذع لبعض مواقف الحكومة، وكاريكاتير أحمد رجب ومصطفي حسين في صحيفة الأخبار، وعمود فكرة للراحل العظيم مصطفي أمين، والمشاغب الراحل صلاح عيسي في جريدة الأهالي، و"الممنوع" في مقال مجدي مهنا.

 

كنت أشاهد العديد من المصريين وهم يطالعون الصحف على المقاهي وفي المواصلات العامة، بعضهم باحثا عن تلك الأخبار اليومية التي تؤثر في حياتنا بشكل مباشر، وبعضهم يطالع أخبار المباريات الرياضية، وغيرها من مواد الترفيه، وحينما أطلت الصحافة المستقلة برأسها على مصر خلال حقبة التسعينات، كان القارئ هو من منحها شهادة الحياة كونها كانت تعبر عنه وتنقل نبضه إلى الحكومة، بعد أن اعتمدت على أشكال أكثر تطورًا في الكتابة مثل القصة الخبرية والإنسانية، وعودة الروح للتحقيقات المصورة، لقد غاب الكثير من القراء عن الصحافة، وعلينا أن ندرك حجم التغير في المشهد الصحفي، قبل أن يستأذن القارئ في الرحيل. 

 

هذا المشهد تغير اليوم، نتيجة لتغيرات مختلفة ومتنوعة على عدة مستويات، فقد أبدعت التكنولوجيا أدوات جديدة جعلت القارئ ينصرف عن الصحافة الورقية التقليدية، دون استئذان، من الصعب على صحفي مثلي هو ابن تجربة الصحافة الورقية أن يكتب ذلك، لكنها الحقيقة التي لا يمكن إغفالها والصمت عنها، فقد أصبح تأثير الصحافة الرقمية أكبر بكثير في صناعة الرأي العام.

فالأدوات الجديدة التي تعتمد عليها الصحافة الرقمية أكثر سحرًا، فهي تعتمد على الفيديوهات القصيرة والأشكال التوضيحية التي تنقل المعلومات للقارئ بشكل سهل (إنفوجراف) و(الفيديو تكست) والمقاطع الصوتية، لقد أصبح بمقدور المتلقي أن يطالع القصة الخبرية في أقل من دقيقتين من على شاشة الهاتف الذكي، ويمكنه أن يحصل على تحديثات للقصة الخبرية التي يطالعها على مدار اليوم وعقب كل تطور فيها.

كان ذلك هو الجانب الإيجابي في الشكل الرقمي الجديد للصحافة، لكن الأمر لا يخلو من وجه آخر، وبحكم أن الصحافة صناعة لديها أعباء وتهدف أيضا لتحقيق الربح من أجل الاستمرار في تقديم خدماتها للقارئ، فهي تبحث عن مصادر تمويل، خاصة مع تراجع حجم الإعلانات التقليدية، الذي جعل المنصات الصحفية تقع في دائرة منصات التواصل الاجتماعي، وتقديم محتوى يحركه ويؤثر فيه المتلقي أكثر من السياسة التحريرية الرصينة للمنصات الصحفية.

بعض من قضايا الرأي العام التي كانت وما تزال حاضرة بقوة على أجندة الصحف، المتابع لها يمكنه أن يلحظ غياب المهنية في التغطية الصحفية عبر تقنية البث المباشر أثناء إجراء المقابلات وتكرر الأسئلة من أجل بقاء الضيف لأطول فترة ممكنه، مما يدل على عدم وجود ضوابط تحريرية للبث المباشر وغياب المعايير المهنية عند اختيار الموضوعات، إلى جانب غياب التوازن والبحث عن الجمل الجدلية ومخاطبة عواطف وانفعالات المتلقي دون عقله.

قد يرى البعض أن المتلقي يبحث عن مواد بعينها لمتابعتها، وهو من يحدد الأجندة التحريرية للبث المباشر، وهو ما يدفع بعض المنصات الصحفية لتقديم تلك المواد وهنا أدعو الجميع لمراجعة تعليقات المتلقي التي تتجاوز حدود النقد وتصل في بعض الأحيان إلى السباب، على خلفية رفضهم لما يجري خلال ذلك البث.

وفي اعتقادي أن المهتمين بأحوال صناعة الصحافة والإعلام والمهنين وممثلي المجالس الصحفية والإعلامية وفي القلب منها نقابة الصحفيين مسئولين عن مناقشة أحوال الصحافة في ضوء الأدوات الجديدة، قبل أن ينصرف القارئ دون أن يستأذن.. فتتحول القوة الناعمة إلى لا شيء.

علينا أن ندرك جميعا أن الصحافة صناعة إلى جانب كونها تؤدي رسالة هامة في بناء الإنسان وغيابها وضعفها يفقدنا التأثير في المحيط الإقليمي، والعالمي، يجب أن ندرس تجارب الصحافة الدولية والاستفادة من تجاربها خاصة تلك التي تتعلق بالنموذج الاقتصادي وسياستها في تحقيق الأرباح.

 

الاكثر قراءة