أنتم لا تعرفون ابنى هادى.. وأشك فى أن يعرف الكثيرون الإنجليزية جيليان لين.. ورغم معرفتكم تشارلز داروين وألبرت أينشتاين دعونى أبدأ حكايتى برجل نعرفه جميعا ناهيك عن أنى أحبه كما تحبونه..
طاف التلميذ مجدى يعقوب مع والده حبيب يعقوب جراح وزارة الصحة محافظات مصر، وكان عليه أن ينتقل من مدرسة إلى أخرى تبعا لتنقلات الوالد.. من أسوان لقنا لشبين الكوم لبلبيس للقاهرة لـ.. ، وكان ذلك يثير غضب الطفل كثيرا، لأنه ما يكاد يوثق صداقاته مع أقرانه، حتى يقطع الترحال- فى كل مرة- الوصال..
لكن لطبيعة مجدى النفسية البناءة أكسبه الترحال المبكر فى صحبة أبيه، عادة لصيقة بالنبوغ فى كل المجالات، وفى الجراحة على وجه الخصوص، وهى القدرة على الانفصال عن الوسط المحيط، والتركيز عامة، إلى جوار التركيز مع النفس، فيما يصفه العامة بالانطواء، بينما تستدعى الظلال السلبية للكلمة التأكيد أنه انطواء طوعى خلاق، لكونه أكثر لوازم الإتقان والإبداع والنبوغ. ومما سبق ما ذكره مجدى يعقوب عن طفولته: «كنت طفلًا هادئًا جدا.. ما بيتكلمش خالص.. لدرجة أن الناس كانوا بيفتكرونى عبيط، حتى أن أبى فكر يوما فى عرضى على طبيب نفسي.. وكانوا بيستغربوا، إنى دايمًا كنت باطلع الأول أو التانى فى الفصل».
أما مناسبة ما ورد من ذكر لداروين وأينشتاين فى المقدمة أن أمر «الانطواء واتهامات العبط» فى الطفولة أمر لا يخص مجدى يعقوب وحده، بل ينطبق عليه، وعلى كثير من المبدعين الحقيقيين الجهابذة، إذ يتهم به كل من لا يخضع لمتطلبات المدرسة المتخلفة، التى تحاول أن تقصقص أجنحة الإنسان، وتصبه فى قالب الطاعة والالتزام بالترديد والحفظ و«نموذج المعارف»، الذى لا يحتمل إلا إجابتين فقط: صواب أو خطأ، وإن كان نموذجا متدنيا لا يبعث على التفكير، وإن كان يسهل الأمر على المدرس، كما يسهل التصحيح والامتحان و...
وأشك أن القارئ سيسأل وما دخل ابنى بالموضوع. ولعل اسمه (هادى) يشى بالأمانى العريضة، التى راودتنا عند تسميته، لكنه تمرد على أمانينا وحين اصحطبناه لأداء «اختبارات الالتحاق بالحضانة؟؟!!» ما لبث المشرفون أن صاحوا بعد دقيقة واحدة «هادى إيه؟!» بدلا من الحضانة روحوا شوفوا له طبيب نفسى فهو مريض بـ«فرط الحركة».. لكننى لم أعر نصيحة المربين الحدوبين اهتماما، فالدال التى تسبق اسمى نلتها على دراسة مسهبة لموضوع «النبوغ والفنون»، لهذا كنت أعرف حكاية مجدى يعقوب وألبرت أينشتاين وتشارلز داروين، وأكثر منهم حكاية الإنجليزية جيليان لين.
حين كانت جيليان فى المدرسة (ثلاثينيات القرن الماضي)، وصلت وعمرها ثماني سنوات إلى حالة ميؤوس منها.. قطع المربون الأذكياء الحدوبون لأهلها: «إن جيليان لديها اضطراب فى القدرة على التحصيل وهى دائمة التململ لا تستطيع التركيز (لم تكن تسميات أدواء مثل قصور الانتباه وفرط الحركة و.. قد ظهرت بعد) وهى فى حاجة إلى تدخل طبى عاجل.
أخذتها أمها إلى طبيب متخصص. جلست الطفلة بعيدا بعض الشيء فى غرفة الطبيب على كفيها متململة لمدة ٢٠ دقيقة، بينما راح الرجل يستمع إلى والدتها عن «المعضلات» التى تواجهها جيليان فى المدرسة.
اقترب الطبيب منها فى النهاية وقال «جيليان لقد استمعت لكل ما قالته والدتك، وأحتاج أن نعرض الأمر معا على زميل آخر.. انتظرينا هنا.. لن نتغيب طويلا». غادرا الحجرة إلا أن الطبيب أدار المذياع الذى كان على مكتبه، قبل خروجهما وإغلاق الباب خلفهما. وهما بالخارج قال لوالدتها، «انظرى من ثقب الباب». كانت جيليان لحظة تركهما للغرفة قد نهضت على قدميها، وراحت تتحرك مع الموسيقى.. وبعد برهة بادر والدتها: «سيدة لين.. جيليان ليست مريضة.. إنها راقصة بالفطرة.. عليك أن تلحقيها بمدرسة للرقص».
ذهبت جيليان لغرفة الدرس الجديدة فوجدتها مليئة بأناس مثلها. أناس لا يستطيعون الوقوف دون حراك. أناس يحتاجون إلى الحركة لكى يعيشوا ويفكروا. يرقصون الباليه والحديث والمعاصر.. يتحركون مع كل ألوان الموسيقى الكلاسيك والجاز و.. . ولم تلبث جيليان أن أثبتت تفوقها واختيرت للالتحاق بالمدرسة الملكية للباليه، وسرعان ما أصبحت راقصة انفرادية (سوليست)، وتخرجت فى المدرسة لتسطر تاريخا مهنيا رائعا. بل وأسست «شركة جيليان لين للرقص»، وباتت السبب وراء نجاح بعض من أكثر المسارح الغنائية تميزًا فى التاريخ، ناهيك عن إنها أمتعت الملايين، فهى التى صممت عروض «كاتس» و«أوبرا فانتوم» و.. .
ولك أن تتصور مصيرها لو كان طبيبا محفلطا آخر قد استمع لنصيحة «التربويون» ووصف لها بعض الأدوية «وأمرها أو ساعدها على أن تهدأ».
لنرفع أيدينا عن قدرات وطاقات أبنائنا ونكف عن محاولات صبهم فى قوالب جامدة وقصقصة ما يتجاوزها من صفاتهم المتألقة المتنوعة.
بقيت إشارات إلى أن اختيار يعقوب وأينشتاين وداروين ولين وهادى هنا لم يكن خلطا عشوائيا. فداروين الغبى العبيط هو من قنن التباين بين الأحياء الذى يقود إلى التطور، مما جلى المفهوم أمام البشرية، ولا نقصد هنا كتابة «أصل الأنواع» فقط، ذلك أن التباين والتطور مفهوم يسرى على كل مجالات الحياة وعلى تألق الإنسان والمجتمع وكل مؤسساته.
وأينشتاين الغبى المتوحد هو من قنن مفهوم النسبية، وجلاه أمام البشرية، ومرة أخرى لا نقصد مجرد «نظريته الفيزيائية»، ذلك أن النسبية مفهوم يسرى على كل أحوال الإنسان والمجتمع وكل مؤسساته.
ولين هى من كشفت عن ذروة رفيعة من الذرى التى يمكن أن يصلها ناموس تطور حركة الإنسان (التقلب- الحبو- المشي- الجري- الحنجلة..) لتصل إلى ذروة فنون الباليه والاستعراض. أما السير مجدى يعقوب فيكفى أن تصفه الأميرة ديانا التى تربعت ببساطتها وتلقائيتها وقبولها فى أفئدة الناس، بعد أن صارت من مريديه «ملك القلوب».هذا رغم أن قدرات هؤلاء جميعا كانت معرضة- كقدرات وطاقات أبنائنا التى ضاعت وتضيع- للوئد، نتيجة مفاهيم ضيقة وغبية وقاصرة و.. .
أما الإشارة الثانية فهى إلى أن ما يراه البعض عيوبا مرضية يأخذ مع التجلى البشرى مسارات إيجابية.. فقد علم الانتقال المتكرر مجدى يعقوب إلا يخاف الغرباء، إلى جوار التوق لمعرفه الآخرين، ناهيك عن أنه- من وقتها- رضع عشق الترحال، وبات يراه سنة من سنن الحياة، فلم يتوقف عنه يوما.. ومع ذلك كله راحت دوائر صداقاته تتسع رويدا، حتى باتت تشكل، بالذات حين ضمت مرضاه، والأسر التى تصاحبهم وتستضيفهم تبرعا (مساهمة فى تقليل تكاليف الجراحات)، باتت تشكل شبكة واسعة لا تضاهى تنتشر فى زوايا عالمنا الأربع.
والمدرسة نفسها التى اتهمت طفلى بالحاجة إلى طبيب نفسى هى التى كرمته يوم تخرجه فيها (بنسبة تجاوزت ٩٧٪ فى الثانوية العامة) بكأس التفوق الرياضى لأنه فاز قبل أن يغادر صفوفها ببطولة مصر للجودو (٢٠١٦ تحت ١٨ سنة) ومثل مصر دوليا.. ذلك بينما احتار زملائه فى اللقب الذى يتوجونه به: الأكثر تفوقا رياضيا أو الأكثر ظرفا أو.. ليستقروا فى النهاية على الأطيب (TheKindest)، وقد اخترته هنا لما هو أبعد من كونه إبنى أو إنه حالة دالة على موضوع هذه العجالة.. اخترته لجوهر «لعبة الجودو»: كيف تستغل قوة خصمك بذكاء فى الانتصار عليه، فهذا ما فعله يعقوب وأينشتاين ولين، وما تحتاجه مصر والمصريين فى عالمنا الملبد بالغباء والغيوم.