الجمعة 26 ابريل 2024

التحول الرقمي.. «العلم والتكنولوجيا» تفاعل وتجدد مستمر (1 – 2)

مقالات18-10-2022 | 12:54

تعيش البشرية الآن في عصر زاه من عصور العلم والتكنولوجيا وبداية كشف الكون وارتياده، وربما تسخير بعض مكوناته لصالح الإنسان ورفاهيته بصورة قد يصعب تخيلها. فعندما تدير جهاز التليفزيون لتراقب البرامج العلمية التعليمية. فإنك تشاهد الكثير من الآلات الكبيرة والمحركات التي تدور دون أن تهدأ للحظة واحدة. يلقمها عدد قليل من العمال كتلاً من المعدن فتدور بين أسنان الآلة وتتحرك في أمعائها، فتدور هنا وهناك لتتساقط من الطرف البعيد للآلة في عدة صور من المصنوعات الاستهلاكية التي نحتاج إليها في حياتنا العامة ولا غني لنا عنها. فإن هذا كله إنما هو ثمرة جهاد وكفاح أفراد آخرين لساعات طوال حتى يوفروا لنا هذه الحياة الهنية السهلة السعيدة.

عزيزي القارئ إن الحديث عن العلم والتكنولوجيا نهر لا ينضب ولا يجف، وعلى الرغم من اختلافها الجوهري إلا أنه توجد حلقة وصل بينهما تجعلهما في حالة انسجام وتآلف وكأنهما شيء واحد. فالعلم والتكنولوجيا وجهان لعملة واحدة، فإذا كان العلم هو المعرفة وإذا كانت التكنولوجيا هي التطبيق فسوياً يقدمان مصطلح واحد "المعرفة التطبيقية".

كما أن التداخل بين هذين الضربين (العلم – التكنولوجيا) هو في أساسه ظاهرة جديدة، يتميز بها عصرنا هذا بالذات عن غيره من العصور، بحيث لا نكون مبالغين إذا قلنا إنها هي السمة الأساسية المميزة للعلم في مرحلته الراهنة.

        ونستطيع أن نُعرف "التكنولوجيا" بأنها الأدوات او الوسائل التي تُستخدم لأغراض عملية تطبيقية، والتي يستعين بها الإنسان في عمله لإكمال قواه وقدراته، وتلبية تلك الحاجات التي تظهر في إطار ظروفه الاجتماعية ومرحلته التاريخية الخاصة. والسؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن، هل كان العلم والتكنولوجيا في حالة تلاق أو تفاعل في العصور السابقة؟

        عزيزي القارئ إن ابسط نظرة نُلقيها على التطور التكنولوجي للإنسان عبر العصور المختلفة، تقنعه بأن الاتصال الوثيق بين العلم والتكنولوجيا ظاهرة حديثة العهد. فكل ما توصل إليه الإنسان في العصور القديمة، قد تحقق بمعزل عن العلم.

بمعني أننا لو تتبعنا علاقة العلم بالمجتمع بالتكنولوجيا لوجدنا تاريخاً معقداً من الشبكات والتفاعلات المتداخلة حيث إن لكل منها أثر على الآخر، وسيتضح ذلك فيما يلي:

أ- العصر الحجري:

ففي العصر الحجري كانت أهم الأدوات المستخدمة لمساعدة الإنسان في عمله مصنوعة من الحجر، ومن المؤكد أن الانتقال من عصر إلى آخر يعبر عن تطور تكنولوجي هائل، بمقياس العصور القديمة، ولكن هذه التطورات كلها لم تكن تدين للعلم بشيء فالذين قاموا بها لم يكونوا علماء، ولم يكونوا قد درسوا نظريات علمية معينة ثم طبقوها، بل كان هؤلاء صُناعًا مهرة، توارثوا خبراتهم جيلاً بعد جيل، وأضافوا إليها من تجاربهم الخاصة فتطورت صنعتهم ببطء شديد، مما جعل الانتقال من عصر إلى آخر يستغرق آلاف السنين.

ب- العصر اليوناني:

وينطبق ذلك أيضاً على العصر اليوناني القديم، الذي طورت فيه التكنولوجيا في بعض الميادين، ولكنها ظلت منفصلة عن العلم، بل أن هذا الانفصال قد ازداد حدة نظرا إلى ذلك الفهم الخاص للعلم، وهو أن العلم جهد نظري يستهدف إرضاء حب الاستطلاع لدي العقل الانساني، ولا يتجه إلى تحقيق أية أغراض عملية.

ج- العصور الوسطي:

وبالمثل، فإن العصور الوسطي الأوربية والإسلامية، بل وأوائل العصر الحديث، قد شهدت كشوفاً تكنولوجية مهمة لم تكن مبنية على أساس علمي: فاختراع البارود والعدسات المكبرة والمقربة، كل هذه الكشوف تمت على أيدي صُناع مهرة، لا يسترشدون في عملهم بنظرية علمية.

وبهذا نجد أن "التكنولوجيا" هي التي كانت تؤثر في العلم طوال هذه الفترة. بمعني أن كل مرحلة مهمة بين مراحل الكشف كان يسبقها تقدم تكنولوجي يمهد لها الطريق.

د- العصر الحديث:

ومنذ بداية العصر الحديث في العلم الأوروبي (القرن 16 أو 17)، ظهر شيئاً جديداً كان نقطة البدء في تطور أصبح له في عصرنا الحاضر أهمية عظمي في حياة الإنسان. هذا الشيء الجديد هو التفكير في استخدام العلم للأغراض التكنولوجيا، بحيث لا تترك الكشوف التكنولوجية لبراعة الصانع الشخصية أو تدريبه الفعال، وإنما تعتمد على نظرية علمية مؤكدة. وخير مثال علي ذلك، الفيلسوف الإنجليزي "فرانسيس بيكون" كان رائداً في هذا الميدان.

ولقد كانت دعوة "بيكون" إلى نوع جديد من العلم، يكون هدفه تحقيق سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخير قواها لخدمته وإسعاد حياته. وعلى الرغم من أن هذه الدعوة ظهرت في أواخر القرن السادس عشر وأوائل السابع عشر، لم تؤت ثمارها كاملة إلا بعد قرنين أو أكثر من وفاته. إلا أن هذه الدعوة حفزت الإنجليز على إنشاء الجمعية الملكية للعلوم، كما أنطلق "بيكون" إلى إعطاء التقدم التكنولوجي دفعة قوية إلى الأمام عن طريق ربطه بالبحث العلمي. ولم يكن من الممكن أن ظهر ثمار هذه الدعوة دفعة واحدة، بل كانت في حاجة إلى فترة تمهيدية تتراكم فيها المعرفة العلمية، وتقترب فيها من مجال التطبيق التكنولوجي بالتدريج.

إلا أنه كان لابد من مضي فترة انتقالية منذ دعوة "بيكون" حتى الوقت الذي تحقق فيه التلاحم الوثيق بين العلم والتكنولوجيا. وخلال هذه الفترة ظهر نوع جديد من التخصص، هو مهنة "المهندس Engineer" التي لم تكن معروفة من قبل. فالمهندس لم يظهر إلا في العصر الحديث، وهو يجمع في مهنته بين المعرفة النظرية وبين فهم التطبيقات العملية والقدرة على تنفيذها.

وعلي يد هؤلاء المهندسين حدثت في عصر الثورة الصناعية تلك التحولات الكبرى التي غيرت وجه العلم الحديث، فحلت الطاقة البخارية محل الطاقة المائية أو طاقة الحيوانات (الخيل مثلاً)، واستخدم الفحم وقودا للمصانع على نطاق واسع، وبدأت الإنسانية تجني ثمار الجمع بين العلم والخبرة العلمية التطبيقية.

ومنذ ذلك الحين أخذ ذلك الاتجاه إلى الجمع بين العلم والتكنولوجيا يزداد قوة بالتدريج، بعد أن ظهرت فائدته العملية بوضوح قاطع. بل لقد أصبح ميدانا العلم والتكنولوجيا يستخدمان أساليب مشتركة ولغة واحدة، وظهر نوع جديد من البحث العلمي، أخذ يكتسب أهمية متزايدة، ويحتل موقعًا وسطًا بين العلم النظري والصناعة، هو "البحث التطبيقي".

ولكن الأمر الذي يلفت النظر في عصرنا الحالي هو أن البحوث الأساسية، التي لها طبيعة نظرية خالصة، تتحول في أقصر وقت إلى تطبيقات إنتاجية. بل إن المشكلة في أيامنا هذه قد أصبحت، في بعض الأحيان، هي مشكلة التسرع في التطبيق التكنولوجي قبل القيام بأبحاث علمية كافية.

 

على هذا النحو نجد أن العصر الحالي يشهد تداخلاً وثيقاً بين العلم والتكنولوجيا، زالت معه الحواجز الزمنية التي كانت تفصل بينهما في القرن الماضي. ونتيجة هذا هي أن العلم أصبح هو الأساس المؤكد لكل تحول تكنولوجي، وأن ما كان يقوم به الصانع المخترع أصبح يقوم به الآن عالم تطبيقي متخصص.

عزيز القارئ هذا التحالف الوثيق بين العلم والتكنولوجيا، الذي رأينا أنه مصدر قوة الإنسان المعاصر، كان وما يزال يثير ردود أفعال متباينة بين المفكرين. فهناك آراء مختلفة التي يعرب فيها المفكرون عن تفاؤلهم أو تشاؤمهم إزاء هذه القوة الضخمة التي اكتسابها الإنسان الحديث.

        فهناك رأي متشائم عرضه بعض المفكرين، يذهبون فيه إلى أن هذا التزاوج بين العلم والتكنولوجيا سيخلق آلات ذات قدرات تزداد تعاظمًا على الدوام، حتى يأتي الوقت الذي يفلت فيه زمامها من يد الإنسان، فتنقلب عليه، وربما قضت عليه، أو جعلته عبداً لها.

وهناك رأي آخر يتطرف في الاتجاه المضاد، فيذهب إلى أن الآلة هي التي ستحرر الإنسان من كل أشكال العبودية، وتأخذ بيده في طريق المستقبل الذي يحلم به. أما الرأي الثالث فيخالف الرأيين السابقين في تأكيده ان الآلات، مهما ارتقت، إنما هي أداة طيعة في خدمة الإنسان، وستظل كذلك على الدوام.

ولقد لخص لنا كل هذا أحد الرواد العظام للتكنولوجيا في عصرنا الحاضر، وهو نوربرت فينر N. F. Wiener مكتشف السيبرنطقيا (علم القيادة أو التحكم في الأحياء والآلات ودراسة آليات التواصل في كل منهما)، فيقول: "اعط ما للإنسان للإنسان، وما للعقل الإلكتروني للعقل الإلكتروني". وكان يعني بذلك أن الإنسان يظل له دوره الهام والأساسي في عصر التقدم التكنولوجي المذهل، وأن أرقى أنواع الآلات تظل على الدوام أداة طيعة في يد صانعها.    

مما سبق يتبين لنا، أن العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع يأتي من طبيعة هذه العناصر الثلاثة، فالعلم هو المعرفة، والتكنولوجيا هي تطبيق لهذه المعرفة، ويمثل المجتمع الوضع الإنساني الذي تحدث فيه كافة التغيرات والأحداث العلمية والتكنولوجية، أي أن العلم وثيق الصلة بالتكنولوجيا، فالعلاقة تفاعلية بينهما من جهة ومع المجتمع من جهة أخرى. والسؤال الآن، هل أحدثت هذه العلاقة تغيرًا وتطورًا ساهم في رفع المجتمع وضمه إلى قاطرة التقدم؟ الإجابة عن هذا السؤال ستطلب منا إلقاء نظرة فاحصة عما يدور حولنا في الواقع. وسيكون هذا هو موضوع مقالنا القادم.

Dr.Randa
Dr.Radwa