السبت 20 ابريل 2024

جفِّفي دموعك يا أفريقيا

مقالات14-12-2022 | 19:44

«الكتابة بالنسبة إليّ هي الرغبة في درء الظلام.. والرغبة في فتح نافذة على العالم لكل إنسان »...!! برنارد دادييه الملقب ب ( فيكتور هوجو الإيفواري )
يالهاتين الجملتين المشرقتين؛ هكذا ترونهما قصيرتين، وعلى عجل تمر أعينكم بهما دونما اكتراث..!! لكن بقليلٍ من التمعُّن يتبدى لنا اكتنازهما بأهم ما يجب أن يحرص عليه أدباؤنا الأكارم، وأن يديروا بوصلة أعمالهم الإبداعية وكتاباتهم تجاه هذين المبدأين.... صحيح ... إذا لم يستهدف قلم المبدع درء الظلام ، وطرد المعوقات التي تمنع الفجر من البزوغ ... فما فائدة قلمه ؟ !! وإذا لم تكن أدوات المبدع نوافذ حقيقية يطلُّ منها الإنسان على أخيه الإنسان ... فما قيمتها ...؟ !!

لكننا منذ نهاية السبعينات ومبدعونا الأفاضل نفضوا أيديهم من قضايانا، وانغلقوا على ذواتهم يجترون تجاربهم الخاصة وهزائمهم النفسية ... نقرأ لهم فلا نرى ما يشير إلينا من ملامح أو قضايا نكاد لا نفهم كثيرا مما ينقشون ، وكأنها أضغاث أحلام لا رابط بين أحرفها، ولا علاقة لها بما يدور حولنا ... !! والأعجب أننا إذا طالبناهم ببعض الإيضاح وصمونا بالتقليدية وعدم الفهم .. وبسبب ذلك غادر الجمهور العربي فعاليات معظم الشعراء غير آسفٍ !!!                                                        ويظل الكاتب ( برنارد دادييه ) أحد أكثر الشخصيات شهرةً في الأدب الإفريقي الناطق بالفرنسية ، حيث لا يمكن تجاهل دوره في التاريخ الأدبي لإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى من خلال ممارساته الإبداعية لأجناس أدبية مختلفة. أو من خلال قدرته على الموازنة بين انغماسه في الإبداع ، ومشاركاته فيما واجه من وقائع سياسية لا مفر من مواجهتها ؛ فقد كان الإيفواري ( برنارد دادييه ) شاعرًا، وروائيًّا، ومسرحيا، وسياسيًّا أيضًا، ووزيرًا للثقافة ، والكاتب للكثير من الأعمال التي أصبحت من كلاسيكيات الأدب الإفريقي، وأول كاتب إفريقي يحتفل بمرور مئة عام على ولادته.

وُلِد ( برنارد دادييه ) في عام 1916م بالقرب من أبيدجان، على ضفاف المحيط الأطلسي، ونشأ وسط  عائلةٍ تعيش النضال والسياسة والالتزام الحقيقي . أسس  أبوه أول اتحاد زراعي إفريقي. وحرص هذا الأب المناضل -الذي واجه المزارعين البيض والإدارة الاستعمارية- على أن يتلقى ابنه تعليمه غربيًّا بعد الدراسة الابتدائية والثانوية، حيث أرسله إلى مدرسة ( ويليام بونتي ) المدرسة الفرنسية المرموقة في داكار، التي تعلم فيها العديد من قادة دول أفريقيا المستقلة.                                                                                                                                     
ومدرسة ( ويليام بونتي ) لمن لا يعرفها تقع في جزيرة ( غوريه )، هذه الجزيرة الرمز التاريخي لمعاناة الإنسان الأسود ، كانت مركزا لتجميع العبيد وإرسالهم إلى ما وراء البحار ، جزيرة « ذات منازل متهدمة تسيطر عليها قلعة مليئة بالمدافع »، حيث يتلقى ( برنارد دادييه ) تدريبه العسكري ، ويتجول وقت فراغه في الجزيرة ورفاقه ، ويحضر المناورات العسكرية، ويزور مرات عدة « بيت العبيد » وزنازينه . ومن خلال قسوة الماضي  يتعزز اشمئزازه من الظلم ، ويستمد قوته من خلال إدراكه مهمة الكاتب ودوره في مواجهة جرائم المستعمر الأبيض : تجارة الرقيق، والعبودية ، واستنزاف مقدرات الشعوب الأفريقية ، واجه ذلك كله من خلال مسرحه وشعره ؛ فقد كان غزير الإنتاج فهو بحقٍٍ ودونما مبالغةٍ أبو الأدب الإيفواري ورائده.                                                                               
لقد أطلْتُ استعراض حياة شاعرنا الأفريقي العظيم الملقب ب ( فيكتور هوجو الإيفواري ) ؛ للتأكيد على دور بدايات الطفولة وأثرها في إبداع الحقيقيين من الأدباء كما يزخر تاريخنا بهم ، لولا ما نراه اليوم من انهزامية الكثيرين من متصدري الواجهة ، فهيا معاً .. هيانغني للأمل ... للحياة ... للغد المشرق القادم وإن طال انتظاره!! هيا مع برنارد دادييه نغني ... « جففي دموعك يا أفريقيا » !!

جففي دموعك يا أفريقيا !!

أطفالك يعودون إليك ... في قلب العاصفة ... وأنواء الرحلات الجدباء.

على ضحكة الموج ... وثرثرة النسيم ... على ذهب الشروق ... وأرجوان الغروب

من قمم الجبال الفخورة ... والسافانا المغمورة بالضوء

يعودون إليك ... في عاصفة وأنواء الرحلات الجدباء.
* * *
جففي دموعك يا أفريقيا !!

شربنا من كل ينابيع النكبات ... والأمجاد

انفتحت حواسنا ... على روعة جمالك ... على عطور غاباتك،

على سحر مياهك ... على صفاء سمائك ... على مداعبة شمسك

وعلى فتنة خضرتك المتلألئة بالندى.
* * *
جففي دموعك يا أفريقيا !!

أطفالك يعودون إليك ... أيديهم مليئة بالألعاب ... والقلوب مفعمة بالحب.

يعودون ... ليكسوك من أحلامهم وآمالهم.
* * *
 بهذا الحنوّ، وهذه العاطفة الجيّاشة من قلب الابن، يربِّت الشاعر بيده الطفولية على كتف أمه مجففاً بها دموعها من خلال جملته المكتنزة بالدفء "جففي دموعك يا أفريقيا " وهي حجر الزاوية في القصيدة ؛ حيث جعلها جملته المحورية يبدأ بها مقطوعاته الثلاث، ومنطلقا من جملته المحورية بالمخاطب (أفريقيا) إلى مساحات رحبة مفعمة بالبراءة، وكأنه بجملته التالية ... (أطفالك يعودون إليك) ... يشير إلى استعادة الأم أملها وغدها، فمن اختطفته يد المستعمر عاد إلى وطنه عودة الطفل الفرح بلقاء أمه ؛ لترسم المقطوعة الأولى وسائل العودة ... ( ضحكة الموج ... ثرثرة النسيم .. ذهب الشروق .. أرجوان الغروب ) إنها وسائل كونية توحي بالرحابة والسعادة ... عودةً لايمكن منعها أو الوقوف في وجوه العائدين من قمم الجبال وامتداد السافانا !!!                                               

تأتي المقطوعة الثانية لترمز في جملة قصيرة ( شربنا من كل النكبات.. والأمجاد ) إلى مجموع التجارب؛ مُرِّها وحلِّوها!! بمردود الخبرات المكتسبة فما زادت الأطفال العائدين إلا ارتباطا بعناصر الحياة فما كفروا بأوطانهم، وما اقتطعوا جذورهم، بل تظل أعينهم أسيرة أول ما رأوا.. وأول ما شمّتْ أنوفهم.. إنها البساطة في التعبير عن عمق الانتماء دون زخارف لفظية ولافتات سياسية !!                                                                                                            

ثم تأتي المقطوعة الثالثة ختاماً رائعاً لصورة العائدين بمشاعر الطفولة وأدواتها (الأيدي مليئة بالألعاب.. والقلوب مفعمة بالحب)؛ ولكنهم كبار الأحلام يدركون دورهم تجاه أمهم (أفريقيا) ... يعودون ليكسوك من آمالهم .. وأحلامهم !!! إنه المزج الرائع بين العام والخاص بواسطة حرف الجر ( من)؛ ليراعي الشاعر بين أحلام العائدين الذاتية وأهدافهم العامة التي لن تتعارض أو تتصادم .. إنها النفوس العظيمة تضع الأوطان في مداراتها الحقيقية.!!