السبت 4 مايو 2024

بيرم.. المقاومة بالسخرية

اللواء إيهاب عطية

فن9-3-2023 | 16:46

اللواء إيهاب عطية

• كان أول صدام بين بيرم والسلطان فؤاد بعدما كتب زجل "القرع السلطانى" أسقط فيه على سلوك كريمته فوقية من زوجته الأولى شويكار بعد شيوع علاقتها العاطفية بحسين فخرى
• أقنع فؤاد السلطات الأجنبية المهيمنة بإبعاد بيرم لتونس لتبدأ رحلة نفيه وعذابه التى استمرت لما يقرب من الــ 16عاما تنقل فيها ما بين تونس وفرنسا وسوريا
• لم نر من مدعى التنوير سوى التهجم على الدين والتشكيك بأصوله وثوابته وإثارة الشبهات حوله وتصيد العثرات لرجاله دون أن نرى لهم أثرا بمنتج ثقافى حقيقى
• لم يتسامح بيرم مع المحتل الإنجليزى أو السلطة الظالمة أو المجتمع الفاسد، وعندما هاجم رجال الدين لم يكن مدعياً بغير الحقيقة، فهجاؤه كان منصرفاً لشيوخ السلطان
ظنى أن مكانة بيرم التونسى لاتعود فحسب لموهبته أو بساطته أو سهولة بيانه وعذوبته أو قدرته البالغة على ملامسة الواقع بأوجاعه وأفراحه وإنما بالأساس لبداياته المقاومة لعسف السلطة وظلمها ووقوفه بمواجهة التيار السائد سواء على المستوى السياسى أو الاجتماعى وما دفعه من أثمان فادحة جراء موقفه المناضل نفياً وتنكيلاً وإفقاراً.
فبيرم لم يكن ببداياته خاصة من شعراء السلطان أو دهاقنة السلطة  القاسية، فاختياره منذ الوهلة الأولى كان للمواجهة، فكان هجومه على سلطة الإنجليز المحلية بالإسكندرية بقصيدة المجلس البلدى التى كانت سبباً فى شهرته بل ودافعاً لتفرغه لقرض الشعر والزجل واحتراف الكتابة بالصحف. 
ثم كان صدامه بالسلطان فؤاد بعدما كتب زجلا بعنوان " القرع السلطانى " أسقط فيه على سلوك كريمته " فوقية " من زوجته الأولى شويكار بقوله ( البنت ماشية من زمان تتمخطر .. والغفلة زارعة فى الديوان قرع أخضر ) بعد شيوع علاقتها العاطفية بمحافظ القاهرة حسين فخرى الذى رفض الزواج منها على نحو دفع فؤاد لعرضها على شقيقه محمود الذى قبل بعد وعده له بمنصب مرموق.
وبتلك المرة أفلت "بيرم " من غضب " فؤاد "  لحصانته أمام القضاء المصرى باعتباره تونسياً (منح الجنسية المصرية قبل عام من وفاته سنة 1961) يخضع للحماية الفرنسية، لكنه ما لبث أن كتب زجلين آخرين بعد ميلاد الملك فاروق فى 11 فبراير 1920حملا عنوان "البامية السلطانى "," وهاء هاء ماء ماء " ألمح فيهما لما أشيع عن حمل أمه نازلى صاحبة المسيرة المليئة بسوء السير والسيرة فيه قبل عقد قرانها على "فؤاد ".
غربة النفى 
وهنا كان العقاب، ففؤاد أقنع السلطات الأجنبية المهيمنة بإبعاد بيرم لتونس لتبدأ فى 25 أغسطس 1920رحلة نفيه وعذابه التى استمرت لما يقرب من الــ 16عاما تنقل فيها مابين تونس وفرنسا وسوريا قبل أن يتمكن من العودة متخفياً لمصر بعد أن فشلت كل جهوده فى العوده لها بشكل طبيعى.
لكنه لم يتوقف طوال سنوات اغترابه رغم قسوتها وفقرها عن متابعة الحياة بمصر ومواصلة الهجوم على السلطة فيها ورموزها وحواريها من الإقطاعيين والفاسدين وبطليعتهم بالطبع الأسرة العلوية التى لم ترحم الشعب حتى بأيام أزمة الكساد العالمى بثلاثينيات القرن العشرين فأخذت فى اغتصاب الثروات على نحو لم يجد معه سبيلا سوى مناجاة الرب بقوله :-
قد دعاك المحزون فى غسق الليل وقد نام كل حى سواك
رب أنت اللطيف بالبر والعاصى مجيب لكل عبد دعاك
لك اللطف فى الخطب لو أمعن المكروب فى وقعه يكاد يراك
أنا مستمسك بحبك فى أليم إذا الكائدون مدوا الشباك
فوق من دبروا على الأرض كيداً
كيد رب يدبر الأفلاك
أصل فؤاد
وبمناسبة حديثنا عن فؤاد ينبغى الالتفات لحقيقته بعيداً عن عبارات التفخيم التى يفرضها البعض بحكم جلوسه على عرش مصر بمرحلة ما من الزمن، ففؤاد فى أصله رجل صُعلوك سِكير مُفلس زبون دائم لموائد القمار لم يكن يستحق الصعود لكنها الأقدار التى يصعب الوقوف على حكمتها، فكثيرما نرى من يسود الحكم أبعد ما يكون عن مواطن الشرف والحكمة أو الكفاءة، وهكذا كان فؤاد مستبداً غشوماً لا يهمه سوى نفسه وعرشه أما ما جاء بأيامه من منجزات فمرجعها لطبيعة الحياة التى غالباً ما تسير بطبعها للأمام بحكم سننها.
فنادراً ما نجد عبر التاريخ حاكماً لم ينجز أو يبنى أو يعمر، فذاك ليس مقياساً لصلاحه أو كفاءته، فالمعيار الحقيقى  يعود لحسابات أوسع مثل .. كم وكيف أنفق ؟ ماذا أضاع ؟ كم انتهز من فرص ؟ وكم فاته منها ؟ مدى رضاء شعبه عنه ؟ هل أرهقهم وتجبر عليهم وتسلط على مافى جيوبهم المنهكة ؟ و.... و .... .
قضايا الشعب
    بالطبع لم يكن موقف بيرم من فؤاد بعيداً عن موقفه من الاحتلال البريطانى وهبة الشعب عام 1919، وقد عبر عن هذا كثيراً سواء برواية شهرزاد التى لحنها سيد درويش أو بقصائده الشعرية وأزجاله ، كـ " يا متعتع الحجر " التى وصف فيها الإنجليز بالضيف البارد ، و" طريق الهند " التى عبر فيها عن انتفاضة الشعب بقالب فكاهى بعد أن بين كيف كان موقع مصر سبباً فى طمع الإنجليز فيها بعد أن أخذوا من الديون التى اقترضها الخديو إسماعيل وسيلة لتدخل بشئونها .
و" القنال " التى أسقط فيها على الشعب لعدم قيامه بشراء أسهم قناة السويس التى باعها اسماعيل للإنجليز لسداد ديونه، فمصر لا يكسرها إلا الديون والطموح النرجسي لحكامها، و"المفاوضات" و" متفائلون ومتشائمون" التى شرح فيهما إخفاقات رجال الحكم  فى التفاهم مع الإنجليز على الجلاء وكيف غطوا على فشلهم بإقامة المهرجانات وتوزيع الوظائف والترقيات على المحاسيب.
المُثقف .. المعنى والمضمون
فبيرم بتلك المرحلة العمرية بما تحمل من جسارة لا تلتفت لحسابات العقول المهزومة المكبلة بخيبات الماضى أوالخوف من القادم، فالأمل فى التغيير والتحسن دائماً أبداً معقودا بأبناء ذاك العُمر الفتى، لم يكن من الذين يفهمون الثقافة على انها لسان ذرب وقلم سيال وعقل يملك مهارة الاحتيال على الحق ليصبح باطلاً وعلى الأسود ليجعله أبيض على حد قول كاتبنا صلاح عيسى.
فيبدو أنه على الرغم من ضعف تحصيله الدراسى الذى لم يتجاوز تعلم القراءة والكتابة ومطالعة بعض من مؤلفات علم العروض (أوزان الشعر) كان مدركاً بالسليقة لتعريف المثقف الحقيقى الذى صاغه لاحقاً إدوار سعيد ( فلسطينى / أمريكى ولد بالقاهرة وعاش فيها قبل أن يرحل لأمريكا ويصبح أستاذاً للأدب المقارن بجامعاتها، كان مقاوماً للاحتلال الصهيونى إلى ع أن توفى عام 2003 )  بقوله  :- 
بأن المثقف " هو ذاك الشخص الذى يواجه السلطة بالحقيقة وينتصر أمامها للضعفاء والمقهورين وليس من ينظر للواقع من برج عالٍ بل من ينشغل به ويسعى لتغييره بإثارة مناخ أخلاقى يرفض الظلم والزيف والتسليم، فالمثقف عنده له رواية بديلة من تاريخ آخر مهمش عليه إبرازه وألقاء الضوء عليه ".
لا وصاية أو تخاذل
 فبيرم لا سيما ببدايته لم يكن من أولئك المتخاذلين أوالنفعيين  أوالمنعزلين عن الجماهيرأوممن يحاولون التغطية على الحقائق بالأوهام والتدليس، ولو بدعوى أن بهذا ما يحقق صالح الوطن الذى يصنعون منه رمزا ليموت الغلابة فى سبيله بينما هم يتمتعون بمكاسبه وخيراته.
أو حتى بدعوى تحقيق صالح تلك الجماهير، فالتلاعب بالناس حتى لو كان يحقق مصالح ضيقة وآنية لهم أمرا غير إنسانى، فالوصاية عليهم شأن لا يصح، فالشاعر والقاص والكاتب والممثل ليس له  أن يُصدر للآخرين أحكاما  مسبقة نافذة وإنما يكفيه أن يثيرعقولهم ويحرضها على التفكير على نحو يمكنهم من نزع التوابيت الفارغة الساكنة بين حناياه. .
فهو لم يكن الشيخ الشربتلى الذى كان من أعلام الصحافة بالعهد الملكى بمقالاته سابقة التجهيز التى تهجو وتمدح المسئولين دون مراعاة لواقع أو حق، أو لطفى السيد الذى كان يعارض مصطفى كامل بدعوى العقل والحكمة ويقول ( إن الإحتلال قوة أتت بها ظروف دولية وعالمية مرتبة، وتذهب بها ظروف دولية وعالمية مرتبة كذلك، وإن العناد مع المحتلين أسلوب عقيم، وإن مسالمتهم هى الأجدى، وإن  الجلاء والدستور مطالب متطرفة وغير عملية، لأن الوطن والأمة لم ينضجا).
فكم ضاعت حقوق ونهبت شعوب وأُستبد بها بدعوى أن الحكمة هى نقيض الشجاعة وأن العقلاء هم الذين يقبلون أنصاف الحلول وأن المتزنين هم الذين يساومون على حقوقهم بينما الذين يصرون على المطالبة بها فيقاتلون من أجلها أو يدعون للمقاومة دفاعاً عنها حمقى ومجانين.
التنوير المالح
كما أنه لم يكن من مدعى التنوير ممن يصرون على الفصل بين الدين والدولة أو ممن يفتعلون معارك دنكشوتية بدعوى التعارض بين العلم والدين متغافلين عن أن من حققوا إنجازات علمية حقيقية ابتعدوا عن تلك المعارك التى افتعلها بعض الفلاسفة فى ظروف معينة، فكوبر نيكوس أول من صاغ نظرية مركزية الشمس كان راهباً كاثوليكياً، وبيكون أول فيلسوف تجريبى، وجاليليو رائد العلم التجريبى الحديث، ونيوتن العبقرى، وديكارت لم يدخلوا فى معارك كلامية مع أهل اللاهوت وإنما انصرفوا لتقديم علم صنع التقدم.
بينما مدعو التنوير بأرضنا فى زماننا لم نر منهم سوى التهجم على الدين والتشكيك بأصوله وثوابته وإثارة الشبهات حوله وتصيد العثرات لرجاله دون أن نرى لهم أثرا بمنتج ثقافى حقيقى أو إنجاز علمى أو إصلاح اقتصادى يهون على الناس أعباءهم وحياتهم العثرة.
فقط مانراه منهم هجاء لكل ما يتصل بالدين وطنطنة فارغة حول تجديد خطابه وتحديثه، ودعوات عبثية تخاصم المنطق والعقل لتسامح مع الآخر، ولو كان شاهراً لسلاحه طول الوقت، ولإقامة دولة مدنية باعتبار أننا نحيا عن جد بدولة ثيوقراطية دون التعرض للواقع ومشكلاته وأزماته الحقيقية .
وهم يفعلون ما يفعلون تحت يافطة حرية الرأى والاعتقاد، متناسين أن هناك حدودا للتسامح، فالتاريخ أو العقل لا يعرف مجتمعاً تسامح مع المخالفين إلى الحد الذى يهدد وجوده، فالحرية والتسامح وتغليب مقتضيات العقل والعلم والتخلص من الأهواء والتحيزات المسبقة كما يقول المفكر جلال أمين لايمكن فى الحقيقة تصور تحققها بشكل كامل ، كما أن تحققها المطلق حتى لو كان ممكناً لايمكن أن يعتبر دائماً شيئاً مرغوباً فيه.
شيوخ السلطان
فبيرم مثلاً لم يتسامح مع المحتل الإنجليزى أوالسلطة الظالمة أوالمجتمع الفاسد، وعندما هاجم رجال الدين لم يكن مدعياً بغير الحقيقة، فهجاؤه كان منصرفاً لشيوخ السلطان ممن يتاجرون بالإسلام على نحو يُزيد من امتيازاتهم،  فهجومه على الشيخ بخيت مفتى الديار المصرية كان بسبب انحيازه لسلطة الإحتلال ورفضه لالتفاف الشعب حول سعد زغلول عام 1919.
وإسقاطه على الشيخ محمد الغنيمى التفتازانى أحد مشايخ الصوفية كان لاتهامه لسكرتير حزب الوفد عمر لطفى بالخروج عن الدين لدعوته عام 1919 لتكوين هيئة شعبية لمساعدة المواطنين على التغلب على الأزمة  الاقتصادية التى نشبت بسبب استيلاء الإنجليز على مُقدراتهم .
لحظات الهوان
بالطبع لم تخل حياة شاعرنا من لحظات تغير وضعف، فالتجربة القاسية وتقدم العمر والرغبة فى هجران الشقاء ، كلها عوامل كان لها تأثيرها فيما يبدوعلى مواقف جاءت بمراحل لاحقه من عمره، فنظم زجلاً عام 1938أشاد فيه بالملك فاروق احتفالاً بيوم مولده، وإن كان موقفه هذا يمكن استيعابه فى إطار حالة الاحتفاء التى عمت غالبية الشعب ببدايات حكمه، وابتعد عن التعرض لما بدى من السلطة عقب 1952من سلبيات ، وإن كان ذاك أيضاً يمكن فهمه فى سياق الروح التى  كانت سائدة وقتها وما رافقها من احداث هامة كالجلاء والتأميم ومعارك ساخنة كحرب 1956 .
أما ما يثار عن صعلكته وانحرافه لزوايا غير مشروعة، فلا إنسان كامل أبداً، ولعل عودته من رحلة العصيان التى سجلها بأروع ما نظم بقصيدة "القلب يعشق كل جميل"  له أمام خالقه ما كان، فكم من أجيال متعاقبة تأثرت بها وعادت لربها أو ارتقت فى إيمانها بسببها، فالقلب يخشع طائعاً بمجرد سماعه لكلماتها خاصة قوله (دعانى لبيته .. ولما تجلى لى بالدمع ناجيته .. كنت أبتعد عنه .. وكان ينادينى ويقول مصيرك يوم تخضخ لى وتجينى .. طاوعنى ياعبدى .. طاوعنى انا وحدى) . 
عموماً فكل ما أردنا تسليط  الضوء عليه بشخصية بيرم التونسي الشعرية روحها المقاومة بالسخرية لظلم الاستبداد وتجبر من يمارسه ايما كانت مسئوليته خاصة ببواكير عمره وعزوفه غير المعتاد من نظرائه ومن يماثلهم من كتاب وممثلين عن مناوئة السلطة التى غالباً ما يحرصون على التزلف لها ولو على حساب الحق والجماهير التى تمنحهم الشهرة والمال بسخاء وغباء نادر.

Dr.Randa
Dr.Radwa