الإثنين 29 ابريل 2024

بيرم التونسي بين السياسي والاجتماعي

بيرم التونسي

أخبار11-3-2023 | 03:03

سمير الفيل

اتهم بيرم بأنه يحمل على المرأة، ولا يجد فيها غير الجانب السلبى فكتب زجلا رقيقا مزج فيه بين الجمال الظاهرى والمشاعر النابعة من حب عميق للروح التى تسمو على كل الصغائر

تأصلت الصداقة بين بيرم التونسي وسيد درويش، فنظم له كثيرا من الطقاطيق والأدوار الفريدة وبعض الأوبريتات ذائعة الصيت 

حين أغلقت مجلة " المسلة " خرج بجريدة أخرى أسماها "الخازوق"، وينشر فيها قصائده المناوئة للسلطة والقصر فيتم نفيه إلى مارسليا عبر باخرة من الإسكندرية

أعلى بيرم التونسى فى قصائده من مفهوم المقاومة وهو يدرك أن مصر تمتلك من المقومات ما تجعلها قادرة على طرد المحتل، وتحقيق الاستقلال

 

يعد محمود بيرم التونسى من الزجالين الذين عبروا عن الحياة المصرية بقدر كبير من التفهم والاستبصار، بالرغم من كونه ينحدر من عائلة تونسية، وكانت تشمله الحماية الفرنسية تحت مظلتها غير أنه أولع بالنقد والهجوم على كل فساد مستشر فى البلاد، بل ذهب إلى التعريض بالقصر، وإذكاء روح الحماس في النفوس المصرية طلبا للاستقلال، ومقاومة للقهر والعسف ومثالا لذلك قصيدته عن بائع الفجل و"المجلس البلدى" . نحاول هنا أن نتقصى بعض قصائده الزجلية التى حاول فيها أن يتعرض لمسائل اجتماعية كما سنوضح بعض الأدوار الأخرى، ومنها التصدى للقمع السياسى.

البداية مع العاطفة

تعرف بيرم التونسى على سيد درويش، وتأصلت الصداقة بين الاثنين ، فنظم له كثيرا من الأدوار والطقاطيق وبعض الأوبريتات ذائعة الصيت. ويظهر ذلك فى أدوار فريدة:

 أنا عشقت وشفت غيرى كتير عشق .. 

                              عمرى ما شفت المر إلا في هواك.

وكتب أيضا :

 ضيعت مستقبل حياتى فى هواك..

                                وازداد علي اللوم وكثر البغددة.

 وله " الدويتو " الساحر، خفيف الدم، الذى تتناقله الأجيال :

على قد الليل ما يطول..

                    مسترضى بسهرى ونوحي..

في حبك ياللي من ما أول.. 

                  ما أشوفك تترد لي روحي.

وفي شئون القبلة نرى الفتى العاشق يناجى محبوبته بغزل صريح:

شفتى بتاكلني أنا في عرضك..

                      خليها تسلم على خدك..

وتكون الفتاة أكثر صراحة منه، فترد عليه :

ياه يا دين النبي تنك سايح..

                          ما شبعتش من ليلة امبارح.. 

نقد الاحتلال البغيض

لم يقف بيرم عند تلك المحطة الغنائية طويلا، فقد طور أدواته والتقى مع السيدة أم كلثوم فغنت له.. ولكننا نريد التوقف أمام القصائد التي سخر فيها من الإنجليز وغطرستهم في زجل بعنوان :" يا متعتع الحجر" :

 جالنا ضيف بارد وساقع وابن جزمة..

                             نام ومزع في القماش والوقت أزمة

والضيافة بالكتير ما تكونشي لازمة 

                                  غير تلات أيام ، ودى بالتلتمية 

 يصل إلى قمة التصوير الساخر بوخز هذا المستعمر بالكلام لعله يرتدع:

بعت عفشي وبعت ملكي وبعت بابي..

                                  والطحونة والحمار والبطانية

أسأل البنك العقاري وبنك رومة  

                                تعرف المبلغ وشيكات العزومة 

والتلم موش طالع إلا بالحكومة 

                                 إن كانت تنفع وبالقدرة القوية 

ينتقل بيرم بجريدة" المسلة " من الإسكندرية إلى العاصمة القاهرة، ويؤيد ذهاب الوفد إلى باريس لعرض المسألة المصرية في مؤتمر فرساى، فيعترض الشيخ بخيت وغيره، فيتصدى لهم زجالنا:

أول ما نبدى نصلى على النبى 

                                نبى عربي يلعن أبوك يا بخيت

 ثانى كلامى وفد مصر بلادنا 

                                 ولع شموعه والتقى الكبريت

تلاتين سنة يامصر وإحنا في ضلمة

                                     لم حدايتنا ربت الكتاكيت

 سنرى هنا اشتغال الزجال على مفردات البيئة ونسج لوحة بانورامية للأحوال المتردية.

يكتب عن "البامية الملوكى" و"القرع السلطانى"، ويستدعى تراثا شعبيا وهو يضع جملة أثيرة " مرمر زمانى .. يا زمانى مرمر"، حين تغلق مجلة "المسلة" يخرج جريدة أخرى يسميها "الخازوق"، وينشر فيها قصائده المناوئة للسلطة والقصر فيقبض عليه البوليس ويتم نفيه إلى مارسليا عبر باخرة حطت بالإسكندرية، يعمل شيالا لنقل الأحمال الثقيلة، وهناك يشعر بالحنين إلى البلد التى ظل متعلقا به. يكتب " عطشان يا صبايا":

عطشان يا صبايا .. عطشان يا مصريين 

عطشان والنيل في بلادكم .. متعكر مليان طين

ولا نهر الرين يرويني .. ولا مية نهر السين 

يحاول عمر لطفى تشكيل تعاون شعبى للتغلب على أزمتى الجوع والعرى فتصدى للدعوة الشيخ التفتازاني متهما أصحاب الفكرة بالخوارج، ويرد بيرم في قصيدة "عالم ومسلم وبتعارض فى فعل الخير" :

الحمد لله لا أنا لتات ولا عجان..

                          ولا قريب بوليس سرى ولا سجان

يازفتزاني كلامك كله باذنجان..

                          تبزق عليه الخلايق إنسها والجان

في غربته يكتب عن جمال درب الطواشي فيرى حارته أجمل من الشانزليزيه ذاته. لقد كتب هذا الزجل المفعم بالمحبة قرب دخول عيد الأضحى:

ع السين يا مصر مشيت .. إياك يسلينى 

عليه عبد جولييت .. تركى على صينى

ياما التقيت ورأيت .. جمال ينسيني 

وافتكر الهرمين .. تجري الدموع تاني 

بعت لك جوابين.. ولا جواب جانى. 

 تصله أحوال البلاد، ومقاومة الشباب للمستعمر فيقف وقفة المتأمل، منحازا لقضايا شعبه، مناديا " بهية " كى تهب للثأر:

أندب على اللي في التربة.. واللى فى بلاد الغربة

ناس حتف، وناس في أوربا.. دايرين، ومسوحين 

الله يخلي الشيخ سمبو .. واسيادنا بتوع الكامبو

 وسي زفت، ومن كان جنبه.. ع الطاولة مرصصين

 تلك النزعة الانتقادية صارت تسرى في شرايين قصائده وكأنه لم يفارق التراب الوطنى، ولم يغادر شوارع، وشارك سكانها المحبة الخالصة.

عيون النساء

 اهتم بيرم التونسي بالمرأة ورصد أحوالها في كافة أنشطتها اليومية، وبأسلوبه الانتقادى الساخر قدم لوحة فنية بديعة نقتطف منها أبيات قليلة:

من العيون يا سلام سلم.. شوف واتعلم 

        .. تحت البراقع تتكلم .. والدنيا نهار.

عيون تقولك قصدك ايه؟ بتبحلق ليه؟ 

 .. مالكش شغل تعس عليه ، يا راجل يا حمار..

وعيون تقولك أنا أهواك.. والنبى ما أنساك.

.. من يوم ما شفتك م الشباك ، يا جدع يا صغار. 

حين تأتيه الأخبار في المنفى بوقوع أحد صنائع الإنجليز في قضية اختلاس، فيرجع السبب إلى المرأة التي لم تتمكن من تربية الابن، ويصف بدقة ومهارة هؤلاء الأفندية الذين ينهبون أموال الناس:

أشهد بأن المولى قدير.. وصاحب تدبير .. وان احنا ناسات خنازير .. من دون الناس..

أصل السبب مرة عيانة.. مربيانة .. مالهاش رباية ، ولا ديانة .. ولا حتى .....

 يقزقزوا لنا من التلابيخ.. أراروط وطبيخ .. وكل شيء إن شالله فسيخ.. ادفس دفاس..

حافظة لى من علم الصحة .. كخ ودحة .. ومن الأدب قولة أحا.. قادر تحتاس .. 

يقرأ بيرم عن نساء مصر، وقد ذهبن للمحافل الدولية، فيفرح كثيرا لكنه سرعان ما يندب حظه لوقوعه ـ هو وغيره ـ في يد نساء لا حظ لهن من التعليم :

أمال يا خلق الله مالي.. كل مادا باخيب.. بيجوزوني أم طبالى .. وأمهات قباقيب..

آخذ على المهر الغالى .. ضرب بالمراكيب .. لما اتكويت واللى جرالي .. لم يشوفه حبيب.. 

في هذا الوقت كانت الخرافة منتشرة، ونساء كثيرات يقمن حفلات زار، فيفضح تلك الأوضاع بقدر كبير من النقد و" التلقيح" وهو فن شعبى خالص:

في كل عام قبل شعبان للمرة محفل..

                             وياما قبله محافل بس ده أسفل

والراجل اللي يسيب للست أو يغفل..

                     تحصل في بيته بعيد عنك بلاوى كتير

دخل بخيت شايل البطة وفي إيده الموس .. 

                          البطة سوده وهو قلت لك أبنوس 

والدبح في الضلمة راخر أما احنا تيوس

                 نسيب في بيت ضلمة، خنزيرة على خنزير

 يسافر بيرم إلى " مونبليه" وهناك تقع عيناه على قلة من الطلبة المصريين وقد انصرفوا إلى العبث فيكتب قصيدة يحذر فيها أولئك العابثين:

زريبة مطرفة، فيها المعيز سايبين..

                              ترعى حشيش المحبة والرعاة غايبين

سبع مراكب بتشحن عد بالطزازين ..

                       دكتور، مهندس، محامى، والجميع خايبين

دكتور وراجع بلاده ينجد العيان

.. وهو فيه المرض أربع خمس ألوان

 يعد الحروب تنتشر فئة محدثى النعمة، الذين يتبترون على اللقمة الحلال، وينزعون إلى " الفشخرة الكذابة " بشكل يدعو للضيق:

رد السلام بالعصا والرجل فوق الرجل

                              .. كراسى مترصعة والعجل جنب العجل 

طالع لى فى الحنشصة، وأمه بتاعة فجل 

                             .. أصل السبب إن قال عمه جوز أمه خفير

مهاجم ومدافع، وبين بين

حين اتهم بيرم بأنه في أغلب أزجاله يحمل على المرأة، ولا يجد فيها غير الجانب السلبى، شمر ذراعيه، وكتب هذا الزجل الرقيق:

في كل عام للورد أوان، إلا النسوان، بقدرتك نابتين ألوان .. أبيض وأحمر..

وأنت تعلم وأنا أجهل .. أيه فيه أجمل .. من دي الخدود اللي لا تدبل .. ولا تتغير..

ودي العيون اللى أشهد لك .. بها وأسجد لك .. دي خلت الطاغى انقاد لك، والمتكبر..

القصيدة طويلة، وفيها مزج دقيق للجمال الظاهرى وتلك المشاعر النابعة من حب عميق للروح التى تسمو على كل الصغائر.

يبتعد إذن يبتهج بحضور النساء المتعلمات، لكنه فى ذات الوقت يواصل الهجوم على المرأة الجاهلة وعيشتها التي تجلب النكد. كان كل همه أن يرقى بعقلها حتى يمكنها أن تقدم النشء الكريم، لنقرأ ما خطه بيده:

 فرشتها إلى الضحى مفروشة..    

                           منفوشة كرأسها المنكوشة 

وتضع البرقع والملاية ..  

                         في مطرح الكانون والدفاية

عن علاقة شوقى وبيرم

كان أحمد شوقى معجبا ببيرم التونسى، ومن عجيب ما يروى أنه قرأ له قصيدة زجلية كان مطلعها:

يا بنت بانى الهزم لمي شلاشيلك..

                        والبرقع الي انخرم في قيد مناديلك.  

ما شفت زيك سجين ساكت ومتاوى ..

                        غلبت أقول للرجال خلو المرة حرة..

تخش رخره المجال تفهم وتدرى ..

                               العاقلة بنت الحلال ما يضرهاش برة.

يقول الشاهد إنه لم يكد يسمع القصيدة حتى صاح : "إن هذا الزجل يساوى أربع قصائد لأربعة شعراء من خيرة من تختار".

يضيق ذرعا بالمدن الفرنسية لأنه لا يجد فيها سلواه، فيسافر إلى بلده الأصلي تونس، ولكن الحنين يشده لمصر فيرسل هذا الزجل إلى محطة الإذاعة المصرية التى لم تسمح بإذاعته :

يا مصر فالك مبارك .. ياقايمة من بعد نومة

خليتي صيتك يشارك .. لندن وباريس ورومة

أنا الرذيل المعارك.. لجلك عشقت الحكومة 

اللي بنت لك محطة .. في المحجر الزعبلاوي .

حطيت على القلب إيدي .. لما سمعت المنادى 

ولهان وناكر وجودى .. في وادى والنيل فى وادى

كتب بيرم محرضا على زواج الشباب والقصيدة فيها حس تحريضى إذ أن الزواج يعصم الشباب من المزالق، والمدهش أن بيرم يتسلل إلى الأفئدة بتلك النبرة المتسللة للقلوب فيثير المرح أينما حلت أزجاله، في قصيدة " البرد" :

ديسمبر ، يناير ، شهور الجواز .. يا بخت اللي قبض ودخل وفاز

يشوف الليالي السعيدة اللذاذ .. ليالي الغطا والهنا والسرور 

إذا المولى وفق، وكان المزاج.. مذكر، مؤنث، وفيه امتزاج

 لتشهد وتختم بأن الزواج .. فيه الحظ أكثر في كل الأمور

عن المهاتما غاندى

نشر بيرم التونسي قصيدة زجلية يحيى فيها المهاتما غاندى، بطل الهند الذي استطاع أن يحقق نصرا على المحتل الإنجليزى بمسيرته السلمية، وقد جاء في القصيدة:

 السلام لك والسلامة .. من هنا ليوم القيامة

ياللي أظهرت الكرامة .. بعد عهد المرسلين

ياللي من لعبك بمغزل.. تطلع البورصات وتنزل 

الإنجليز دول أهل عزة .. شربهم ويسكي بمزة

 وأنت تغلبهم بمعزة .. سودة بنت أربع سنين. 

من هذه القصيدة وغيرها يتضح اهتمام بيرم بالسياسة والأحداث من حوله فهو لم يتوقف لحظة عن التفكير في شئون بلاده وترقية الناس بها لذلك كانت حملته على "المرأة الجاهلة " وعلى" الرجال الفاسدين" ، وهو هنا يعلى من مفهوم المقاومة وهو يدرك أن مصر تمتلك من المقومات ما تجعلها قادرة على طرد المحتل، وتحقيق الاستقلال، وهو ما يتحقق فعليا بعد قيام الثورة بحوالى أربع سنوات، أى عام 1956. 

العودة إلى مصر

ركب برم السفينة متجها إلى بورسعيد في صيف عام 1938، وهناك قرر مغافلة الحراس والنزول إلى الأرض التي أحبها، وقد كان وزير الداخلية هو محمود فهمي النقراشي فصدرت الأوامر بعدم التعرض له، ومكث في القاهرة مختبئا لا يعرف مكانه إلا عدد محدود من المقربين إليه. 

يسجل بيرم الرحلة في قصيدة من أروع ما كتب ، يعبر من خلالها عن أشواقه كما يسرب فيها بعض طرائف الرحلة بشكل فني جميل :

غلبت أقطع تذاكر.. وشبعت يا رب غربة

بين الشطوط والبواخر.. وبين بلدنا وأوروبا

 وقلت عا الشام أسافر.. إياك ألاقي لي تربة

 فيها أجاور معاوية.. واصبح حماية أمية..

ويصل فيها إلى مناطق لطيفة ، تظهر بجلاء حبه للبلاد والعباد، وسوف نعجب أن نظرته الساخرة للحياة وللبشر لم تتغير رغم رحلته المتعبة، الطويلة :

أقول لكم بالصراحة.. اللي في بلدنا قليلة

 عشرين سنة في السياحة.. بشوف مناظر جميلة

 ماشفت ياقلب راحة .. في دى السنين الطويلة 

 إلا أما شفت البراقع .. واللبدة، والجلابية

ولد بيرم التونسي يوم 23 مارس 1893، ورحل عن عالمنا يوم 5 يناير 1961 .

.....

 تمت الاستعانة بقصائد زجلية من كتاب " بيرم كما عرفته " ، بقلم: محمد كامل البنا، مطابع جريدة الصباح بالقاهرة، بدون تاريخ إيداع، بينما مقدمة الكتاب في أول فبراير 1961 وقد صدره الناشر محمد عبدالعزيز بكلمة له.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa