لا شيءَ أشد تأثيراً في شخصية الإنسان من طفولته ، ولعل أول من أشار إلى ذلك عالم النفس " فرويد " مؤسس (مدرسة التحليل النفسي) ؛ حيث ذهب إلى أن شخصية الإنسان تتأسس بشكل رئيسي في سنواته الأولى، ورغم أن نظرية فرويد لم تسلم من اعتراضاتٍ لها وجاهاتها من قِبَل المشتغلين بعلم الاجتماع الحديث وكذلك علم الجينات، إلا أن نظرية فرويد لم تزل مرجعاً مهماً لدراسة شخصية الإنسان.
ولأن طفل اليوم هو رجل المستقبل فقد اهتم الدين الإسلامي بالطفل وكيفية تربيته تربيةً قويمةً تغرس فيه القيم والأخلاق وتمرِّنه سلوكياً منذ صغره مع مراعاة حداثة سنه والصبر عليه، فهذا "أبو حامد الغزالي" يرى أن التربية حياةٌ، أي أن الممارسة العملية من الكبار المحيطين بالطفل لهي خير معلمٍ، بهذا ينشأ الطفل سعيدًا، ويرى ضرورة زرْع الأخلاق في الطفل منذ الصغر ويرى أن الأخلاق لا تُغْرس إلا من قِبَل الوالديْن ؛ فالمسئولية تقع عليهما في زرْع القيم ، وكيف أنهما يجب أن يكونا قدوةً حسنةً لأطفالهما.
والمدهش أن الإمام الغزالي في معرض اهتمامه بتربية الطفل ، كان سابقاً نظرياتِ التربية الحديثة التي ترى دوراً إيجابياً للعب في حياة الطفل ؛ فيقول في وضوح لا لبْس فيه ؛ آه لو وعاه المُربون والآباء منذ قرونٍ لقدَّمنا للعالم أجيالاً أسوياء !، لكننا نعشق أقوال الغرب، فهل نرى ما كتبه " الغزالي" أساساً لنظامٍ تربويٍّ هادفٍ ؟! إنه يقول : « وينبغي أن يُؤذن للصبي بعد الانصراف من الكُتَّاب أن يلعب لعبًا جميلًا، ويستريح إليه من تعب الكُتَّاب، بحيث لا يتعب في اللعب فإنَّ مَنْعَ الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعليم دائما يُميت قلبه، ويُبطِل ذكاءه، وينغِّص عليه العيْش ، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه!!».
مما سبق نخلص إلي حقيقة تأثير الطفولة بحلْوها ومرِّها.. بسعادتها وشقائها.. في شخصية الطفل !! ، فكيف الحال إذا كانت تلك الشخصية شخصيةً إبداعيةً ؟! ذلك مما يجعل البحث في أرشيف الطفولة أحد المداخل الرئيسة لقراءة تلك الشخصية، و مهما بدت غرفة ذكريات الطفولة عاديةً من الخارج إلا أنها - ولا شك- عالمٌ ثريٌّ من الداخل ، نلمح أثره الواضح في الشخصية، وكثيراً ما تحدَّث المبدعون عما تركته الطفولة فيهم؛ وقد رصد الكثير من الشعراء ذلك الأثر في الكثير من قصائدهم؛ فالشاعر الفلسطيني "محمود درويش" الذي عايش بدْء احتلال الجيش الاسرائيلي لقريته، حيث لم يتجاوز عمره حينها سبع سنوات، واضطر مع عائلته للنزوح الى لبنان ثم العودة بعد عام الى القرية حيث وجدوها مدمرةً تماماً، وقد أُفرغت من سكانها، وتشكَّلتْ في تلك الفترة ميوله الشعرية، حول تلك الفترة يقول: "عشنا مرةً أخرى كلاجئين، وهذه المرة في بلدنا، كانت تلك خبرة جماعية، ولن أنسى أبداً هذا الجرح "وعندما اعتقل "درويش " للمرة الأولى كتب قصيدته (أحنُّ إلى خبز أمي) حيث تؤكد القصيدة الأثر الكبير للذاكرة الطفولية في حياة درويش (أحن إلى خبز أمي ... وقهوة أمي .. وتكبر فيّ الطفولة يوماً ...على صدر أمي).
إن الملاذ النفسي الذي لجأ اليه "درويش " في تلك اللحظة القاسية وجده داخله ... من صور الطفولة مثل رائحة الخبز... وحنان الأم وكل ما يمكن أن يجسد الحياة ويمنحه طاقتها المتجددة في مواجهة لحظةٍ شديدة القساوة ، وما توحُّدُ درويش بذاكرته النديَّة إلا محاولةً للصمود والإمساك بخيوط الأمل ..!!
أما الشاعر العراقي " السياب " في رائعته الشهيرة ( أنشودة المطر ) تبدو جليةً طفولته بمآسيها من معاناته اليتْمَ وهو ابن ست سنوات ، ثم لم تلبث جدته أن ماتت بعد عام ، وتظل ذاكرته لا يفارقها جوعه العاطفي إلى حضن أمه تمنحه الدفء والأمان في ليلة شتاءٍ قاسيةٍ .. ( كأن طفلاً بات يهذي قبل أن ينامْ ... بأن أمه التي أفاق منذ عامْ ..!! فلم يجدها، ثم حين لجَّ في السؤال قالوا له: بعد غدٍ تعود ..!! )
لنصل إلى الرائع " نزار قباني " ورائعته ( خمس رسائل إلى أمي )حيث يسرد نزار مشاهدَ من طفولته الفَرِحَةِ فيقول : ( سلاماتٍ .. سلاماتٍ .. إلى تخْتي.. إلى كتبي ..إلى أطفال حارتنا..وحيطانٍ ملأناها بفوضى من كتابتنا...!!)، فنزار ينتمي إلى طبقة برجوازية جنَّبته معاناة درويش والسياب ، ووفرت له طفولةً ناعمةً ..!
وبالتجول في حديقة الشعر الأفريقي أدهشتْنا قصيدةٌ للشاعر " تشيريكوري تشيريكوري " من زيمبابوي بعنوان ( دعوا الصبي ) ، وأجمل ما فيها أنها تتفق ومَسْلك " الغزالي " في تربية الأطفال ، والسماح لهم باللعب دونما حجْرٍ على تصرفاتهم ، واعتمد الشاعر على فعل الأمر الموجَّه للمحيطين بالطفل ( دعوا ) والذي تكرر ست مرات؛ ليؤكد على وجوب الترْك ومنْح الحرية ولكن تحت أعين الكبار ؛ ليأتي بعده فعل الأمر ( شاهدوا ) مكرراً ثلاث مرات ... مع تعليل منْح الحرية ؛ فالصبي له عالمه الخيالي الذي يمنحه الفرح ولذَّة اللحظة ، وما يمرُّ به الآن مرَّ به أيضا الكبار حينما كانوا صغاراً، وهؤلاء الكبار رغم نضوجهم لم تزل الألعاب الجديدة تستهويهم .. فإلى (دعوا الصبيَّ ...!! ) والشاعر " تشيريكوري تشيريكوري" : دعوا الصبي يكون ... دعوا الصبي يتصرَّف على هواه ... دعوه يُشْبِع رغبته ... هكذا الحال دائما حين تكون ثمة لعبةٌ جديدةٌ... دعوه يتصرَّف بالكرة بكل حريةٍ... دعوه يركلها عالياً في الهواء .. على الجدار.. شاهدوه يحاور بها منافسين خياليين على الرمال ...شاهدوه يضرب الكرة برأسه ... يرميها بيده .. ويكوِّر نفسه حولها كالأم الرؤوم ... شاهدوا الفرح في عينيه وهو يتلذذ باللحظة .. !! يا أصدقاءه .. وأبناء بلده دعوا الأمر هكذا ..فمن هو حتى يكون مختلفاً ... حتى الكبار يستسلمون لطرافة الألعاب الجديدة!!.