كما ألهمت الحارة المصرية سيد الرواية العربية نجيب محفوظ ومن بعده جمال الغيطاني وإسماعيل ولي الدين، تُلهم من جديد روائيًا شابًا واعدًا جدًا هو يوسف الشريف، وإلى حد جرأة إطلاق روايته الأولى "الصنادقية" وهو لا يزال في الـ22 من عمره.
"ولكن لماذا حارتنا نحن بالتحديد التي مر من خلالها هذا الشخص؟.. ألم أقل إن السؤال الواحد يقودك إلى سلسلةٍ طويلةٍ من علامات الاستفهام لن تنتهي، ولكن حقًا لماذا؟!.. هذا المكان المنسي، الذي لا يعلم الكثيرون إذا ذكرت لهم اسمه أين موقعه على الأرض، حارة عتيقة تبدو كأنها واقعة من عباءة التاريخ، مليئة بأحجار شاهدة على أزمنةٍ مرت وعصورٍ اندثرت.. لماذا اختارها الرجل ليُقيم فيها؟!".. كأن العقول بحاجةٍ إلى مزيدٍ من الحكايات التي تُضاف إلى تاريخ الحارة الطويل المليء بالخرافات والأوهام والقصص العجيبة.. هل حقًا وراء ذلك البحث عن الكنز؟".
"الصنادقية" واحدة من حواري حي الجمالية الشهير بوسط القاهرة، تقع في محيط شارع المعز لدين الله الفاطمي وهي من أهم أسواق منطقة الأزهر، اشتهرت في وقتٍ سابق بصناعة وبيع الصناديق الخاصة بالعروس، وهي الآن السوق الأهم لتجارة مستلزمات المدارس، وتُعد من أشهر الأسواق القديمة أيضًا في بيع البخور والتوابل والعطور، وكنت قد حرصت على اقتناء رواية "الصنادقية" في معرض القاهرة الدولي للكتاب الماضي، كما منحتها أولوية القراءة بعد انتهاء فعاليات المعرض مباشرة، ولم يكن الدافع إلا كما تعودت سرعة الاحتفاء دعمًا لكل مبدع شاب طالما توافرت فيه سمات الموهبة والاجتهاد، والحقيقة أن يوسف الشريف لم يُخيب ظني، بل فاق توقعاتي وضعًا في الاعتبار أننا أمام عمله الروائي الأول.
"الصنادقية في عمقها صورة لوطن كامل ضربه الجمود بعد نكسة يونيه 1967، ليغرق في دوامات وخرافات وحالةٍ من التكلس لا سبيل لضخ الروح في جثمانها.. هي "حدوتة مصرية" تُعانق فيها اللغة المَشهدية للكاميرا لغة التأمل والتحليل والتساؤل، بُغية الوقوف أمام أحداث مهولة وخطرة، وقعت بعد اختفاء الشيخ مالك، ليس فقط في الصنادقية.. بل في مصر كلها.. جريمة قتل، حادث انتحار، إشهار إفلاس، قصص فساد، وفضائح بالجملة.. هذه الوقائع كافة ترتبط، على تباعدها، بواقعةٍ واحدةٍ في الخلفية، غامضة ومركزية ومُحركها اختفاء شيخٍ ما.. كأنها لعنة، يوقظ اندلاعها أسئلة حادة مُدببة تعجز عن الحصول على إجابات، وقد سقطت ورقة التوت الأخيرة عن السوءة، سوءة الفرد والواقع معًا، فأصبح العراء مصير الجميع".
هكذا قدم الناشر "دار العين" رواية يوسف الشريف، مؤكدًا أنها رواية مختلفة طموحة، حيث يمكن لعالم شاسع أن يتجسد من أشد الشوارع ضيقًا، وحيث سؤال الهزيمة لا يقل قسوة عن الهزيمة ذاتها.
هوامش من الحقائق والهواجس أرصدها بعدما قرأت "الصنادقية" هي في مجموعها مجرد انطباعات قارئ مجتهد لا تُؤخذ مأخذ النقد الأدبي بأي حال من الأحوال.
أما الحقائق فقد استمتعت بقراءة "الصنادقية" إلى أبعد الحدود، وهي بالفعل شهادة ميلاد لروائي مُبشر جدًا يمنحنا أملًا واطمئنانًا بشأن مستقبل الرواية المصرية، ومعياري في إطلاق حكمي موهبة يوسف الشريف الثرية جدًا خيالًا ولغةً وإيقاعًا ورسمًا لملامح شخصيات عديدة ومتنوعة من عدة أجيال بملابسات وتناقضات أقوالها وأفعالها، ومع الموهبة اجتهاده الواضح في تشكيل عالم روائي قطعًا يحمل بعض ملامح عالم سيد الرواية العربية نجيب محفوظ ومنهجه وإن كان برؤية شاب من مواليد 2000.
أيضًا من الحقائق الشاخصة حضور المخرج الفذ يوسف شاهين في جلد وعظم "الصنادقية" بما يؤكد إلى أي مدى هو المُلهم الأعظم في حياة مؤلفها يوسف الشريف، فهو يطرح أفكاره بإيقاع لاهث كما إيقاع سينما "شاهين" ولا أبالغ إذا أكدت أن سرد "الشريف" أتى في معظم الأحوال في صورة مشاهد تحمل رؤية وروح كاميرا "شاهين" ولعله يؤكد مع إطلالته الروائية الأولى أنه يكتب وعينه على السينما.
يوسف الشريف استهل إهداء نسخة روايته لي بعبارة "نبص قدامنا على شمس أحلامنا" من أغنية "مفترق الطرق" التي غنتها ماجدة الرومي في فيلم يوسف شاهين الشهير "عودة الابن الضال"، كما أهدى الرواية نفسها إلى روح يوسف شاهين قائلًا: إلى روح من كُتب على قبره "يهمني الإنسان ولو ملوش عنوان".. إلى شخص وسينما يوسف شاهين.
كما أنهى يوسف الشريف روايته بخاتمة عنوانها "حدوتة مصرية" حكى فيها عن شخص تصوره البعض "بحر الشحاذ" أحد شخوص الرواية، طبع عددًا كبيرًا من الأوراق وقام بتوزيعها في طول وعرض حارة "الصنادقية"، ولم تكن هذه الأوراق إلا صفحتين من كتاب الأعمال الكاملة لـ"عبد الرحيم منصور" تحمل كلمات أغنية "حدوتة مصرية" أيقونة فيلم يوسف شاهين الشهير بنفس الاسم وقبل أن يختم "الشريف" روايته بكلمات الأغنية كاملة.
فإذا رصدنا الهواجس، فليست إلا الأسئلة الوجودية التي مثلت أبعاد رواية يوسف الشريف الفكرية، والتي تبدأ في العصف بذهن الواحد منا في مطلع شبابه، الحياة والموت، العلم والإيمان، التاريخ والهوية، الحقيقة والخرافة، الغنى والفقر، الحب والجنس، وهكذا مما تتجدد رؤية الإنسان بشأنه منذ انفتاح وعيه على الدنيا وما فيها وحتى آخر العمر.
وإن كان من تحفظ أرصده أخيرًا وليس آخرًا دعمًا لروائي شاب واعد يهمني أمره، فهو المتعلق باستخدام اللغة في الكتابة حيث أتى بـ"الصنادقية" حائرًا إلى حد الارتباك أحيانًا فيما بين الفصحى والعامية في مواضع عديدة من الرواية، ونصيحتي لـ"يوسف الشريف" حسم الأمر كقاعدة مستقبلًا باستخدام الفصحى كلغة سرد والعامية أو اللهجة كلغة حوار فيما بين شخصيات الرواية قياسًا بالقطع على زمانها ومكانها، كما أطالبه - بكل الحب لهما معًا - بالتجرد والتحرر من "مخايلة" يوسف شاهين حتى لا يستمر طويلًا أسيرًا لعالم "شاهين" وسطوته الفكرية والوجدانية.