الجمعة 26 ابريل 2024

الليلُ.. وأَرَقُ العُشَّاق !!

مقالات7-6-2023 | 11:23

وهكذا ما خلا عصرٌ إلا ووجدنا شكايات الشعراء من طول الليل ومكابدة الأرق، ولا تظنَّن أن الشكوى قاصرةٌ على الشعراء، بدعوى أنهم يُقِيمون الدنيا ولا يُقْعدونها لشدة حساسيتهم..!! كلَّا فهم ألسنة الكون الناطقة إذا عجز الخلْقُ، وليست الشكوى من الأرق وطول الليل ناشئةً عن ذلك الإيقاع اللاهث الذي وسم حياة الإنسان حديثاً ، فلم يدع له الفرصة لالتقاط أنفاسه واستجلاء مواضع قدميه ؛ لأننا بقليلٍ من التمعُّن في الشعر العربي القديم سنجد هذه الشكايات منتشرة في أشعار الشعراء -أغنياء أو متكسِّبين ، أهل سُلْطةٍ أو من العَوَام-؛ فلقد شكا امرؤ القيس - وهو ملك ابن ملك -من طول ليله الذي تتوالد همومه كمثل موج البحر ، أو مثل الجمل الذي يتمطى على صدر الشاعر ، ورغم رغبته في زوال الليل إلا أنه لا يتوقع خيراً في الصباح ( وما الإصباحُ منك بأمثلِ )، وليل امرئ القيس ( كأن نجومَه بكل مُغار الفَتلِ شُدّتْ بيَذْبُلِ)، ليلٌ لا تدع نجومه الفرصة للفجر أن يبزغ ، ليدور "النابغة الذبياني" في نفس الفَلَك وإن كان ليله أقل وطأةً ، فيشكو لحبيبته "أميمة" همَّه المتعِب و(ليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب)، لنجد عند "الأعشى" ذات الشكوى لكنه يثير استغرابنا باعترافه حيث لايجد سبباً مفهوماً لهذا السهاد ؛ فلم يصبه مرضٌ أو أصاب قلبه عشْقٌ ! هكذا يرى"الأعشى" المرض أو العشق من مسببات حلول السهاد والأرق (أَرِقتُ وَما هَذا السُهادُ المُؤَرِّقُ*وَما بِيَ مِن سُقمٍ وَما بِيَ مَعشَقُ)، وهناك من الأخبار أن"كسرى"سمع "الأعشى"يتغنَّى بهذا البيت ، فقال "كسرى": ما يقول هذا العربي؟ قالوا: يتغنى ...فقال: بماذا؟..قالوا : يزعم أنه سهر من غير مرضٍ و لا عشقٍ! فقال: إذن هو لص !.                                                                    ولعل الفرزدق كان أكثر صراحةً في بيان علَّة طول الليل؛ فهو يرى الليل لم يطلْ( ولكن من يبكي من الشوق يسهر)،وتابعه"بشار بن برد" في هذا المعنى فقال :( لم يطل ليلي ولكن لم أنم *ونفى عني الكرى طيفٌ ألمّ )، وسنجد نفس الإجادة في وصف طول الليل عند شعراء الحب العُذري مثل "العباس بن الأحنف" الذي يعجب في قوله ( نام من أهدى لي الأرَقَا ) وكأن محبوبته ليس (على بالِها ) مثلما نقول في العامية !! ويتوجه إلى الراقدين حوله أن يعينوه على الليل حِسْبةً أي محتسبين الثواب من الله!! وأن يُذكِّروه بالنهار (حدثوني عن النهار قليلًا*أو صِفوهُ فقد نسيت النهارا).   

وهل يمكننا أن نتجاهل دعوة "عمر الخيام" للاستمتاع بساعات الليل ، والسهر مع صحبةٍ تعين على هموم الحياة بأحاديث السمر وسماع النغم (أَفِقْ خفيف الظل هذا السحر* نادى دع النوم وناغ الوترْ) ؛ فهذا السحَر نادى النوَّمَ الغافلين أن يربحوا ساعات ليلهم، وينتهزوا اللذة السانحة ، مبرِّراً ذلك ( فما أطال النوم عمراً**ولا قصَّر فى الأعمار طول السهرْ)، ولعل هذا البيت أشاع عند الكثيرين أثراً سلبياً ؛ اذْ فهموه على أنه دعوة إلى ترك النوم والسكن ليلاً ، واغتنام اللهو والسهر ومناغاة أوتار الطرب فإن الأعمار لايطيلها كثرة النوم كما أن السهر لا يقصرها. وذلك الفهم الظاهري الذي شاع في العوام جعل بعض علماء الاجتماع يرونه فادح الاثر في توجيه الكثيرين إلى اللهو وقضاء الليالي سهراً وطرباً ، ويرون أن هذا الفهم جعل الامة لاهيةً وغيرها يعمل ويصنع وينتج !!! لكن المتتبِّع حياة "عمر الخيام " لا يجده من هؤلاء الذين أنفقوا أعمارهم في جلسات اللهو والشراب ، فهو عالمٌ وفيلسوفٌ كان من علماء الرياضيات، واشْتُهِر بالجبر حيث وضع تقويماً سنوياً بالغ الدقة، وقد تولى الرصد في مرصد أصفهان ، لقد رأى "أحمد رامي" صاحب أجمل ترجمةٍ لرباعيات الخيام حيرة الأدباء في فهم شخصية "عمر الخيام" فالبعض يراه باحثاً عن إشباع شهواته ، والبعض أنزله منزلة الصالحين الأولياء ، والبعض يراه متناقضاً مع نفسه ، يبين في رباعياته الشك في أمر الحياة والموت مع الإيمان بالله ، والحقيقة أنه كان شاعرا يقول بلسانه ما ليس بقلبه.                                                                                                                                                                                                                                               لنصل إلى محطتنا الأخيرة والشعر الأفريقي وقصيدة « صـلاة » والشاعر السنغالي " أليون بادارا كوليبالي "، والقصيدة تضج بالشجن يرى الشاعر أنه تناوبتْه الأفراح والأحزان .! ونجا من أسباب الخطر حديثها ( قطار غينغينو) وقديمها ( أفعى غادياك) ويريد نوماً عميقاً ..!! لكن الشاعر يتركنا حيارى أمام تركيبين (نوما لا ينتهي) (في سريري السماوي) أيشعر بالرغبة العارمة في مغادرة الحياة بعدما مرَّ بجميع تجاربها ؟!! أم أنه يبالغ في وصف حاجة جسده المكدود إلى النوم وفقط ؟!! ختام القصيدة يحتمل ..!! فإلى قصيدة " صلاة " والسنغالي " كوليبالي":   
عشتُ الأفراح الأكثر رقّة ... يا إلهي.
عشتُ الأحزان الأكثر مرارة ... يا إلهي.
نجوتُ من قطار"غينغينيو" .. نجوتُ من أفعى "غادياك» السّامة وأنا في نزهة ذات مساء!!
هل يمكنني أن أنام هذا المساء       

يا إلهي، أن أنام نوما عميقا ... نوماً لا ينتهي في سريري السماوي !!

Dr.Randa
Dr.Radwa