الخميس 21 نوفمبر 2024

ثقافة

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الثاني «أمي تساعدني» (7-5)

  • 28-8-2024 | 15:54

جرجي زيدان

طباعة
  • بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

تفتح هذه المذكرات نافذة فريدة على حياة رجل استثنائي شق طريقه من أزقة بيروت الضيقة إلى آفاق المعرفة الرحبة، إن إعادة نشر هذه المذكرات اليوم لا تقتصر على مجرد الاحتفاء بذكراه، بل تمثل دعوة للأجيال الجديدة لاستلهام روح الإبداع والتحدي التي جسدها زيدان في حياته وأعماله، تروي هذه الصفحات رحلة ملهمة لفتى طموح تحول إلى رائد نهضوي غيّر وجه الثقافة العربية.

ويروي جرجي زيدان  الفصل الثاني قصة السنين الأولى في حياته الدراسية وما تخللها من ظروف وملابسات ومشاهدات، وما تلاها من اضطراره إلى ترك المدرسة لمساعدة والده، ومحاولاته تعلم صناعة من الصناعات فترة من الوقت، وما كان للقصص الشعبية من أثر في نفسه، وماذا كانت عليه الآداب العامة في بيروت في ذلك الحين، وهو يصف ما شاهده من ذلك بأسلوب يمتاز بالبساطة والصراحة والإيمان بالنجاح

الفصل الثاني: أمي تساعدني

ولما مضى على اشتغالي في ذلك المطعم عام وبعض العام، خافت والدتي أن يطول مقامي وأضيع مستقبلي، وكانت تكره المطاعم، وكانت منذ طلبني والدي لمساعدته وهي تلح عليه ألا يطيل مقامي، وهو يعدها، فلما مضت السنة الأولى، ألحت عليه أن يخرجني ويعيدني إلى المدرسة، فقال: «إنه قد أتم دروسه، ولا فائدة من كثرة الدروس، إلا أن كنت تنوين أن تجعليه كاتبًا أو معلمًا، فضلا عن أن كثرة التعليم تجعله متفرنجًا متألقًا، لا يأكل إلا بالشوكة والسكينة، وربما حدثته نفسه بلبس اللباس الإفرنجي!»

وكان هذا اللباس قليلا يومئذ، لا يلبسه من السوريين إلا كبار الموظفين وكان الأكل بالشوكة والسكينة لا يزال معدودًا من عادات المتأنقين بالتفرنج ولم يقل والدي ذلك عن نفور من المدنية، ولكنه كان محبًا للمحافظة على العادات الشرقية، ويكره التصنع أو التظاهر بمظاهر التفرنج فاقتنعت والدتي بهذا الجواب، ولكنها ما زالت تكره أن أبقى في تلك الصناعة فقالت: «أدخله في صناعة أخرى غير هذه، فاني أكره هذه الصناعة ورائحة الزفر والانحباس في الدكان ليل نهار، لا عيد فيه ولا أحد!»

فأذعن لاعتراضها.. وبعد النظر، قر رأيهما على أن أتعلم صناعة الأحذية الإفرنجية، وكانت حديثة العهد في بيروت، وحجتهم في اختيارها أن «جرجس شويري» وأخاه  «نخلة» اشتغلا بهذه الصناعة ونجحا حتى فتحا محلا لبيع الجلود، وقد ابتاعا أرضا وشادا بيتا، واتفقا في الرأي على تعلمي على هذه الصناعة، فأقعدوني في محل «شويري» وأنا يومئذ في الثانية عشرة من العمر

قضيت سنة في التعلم، ثم انتقلت إلى محل آخر لأخوين من دمشق، من «بيت الضحيك» أو «الضحاك» محلهما في «سوق بيهم»، قضيت عندهما نصف سنة أخرى، وكانت ماهيتي عند التويريين نصف فرنك في الأسبوع، فارتفعت عند الضحاكين إلى فرنك، لاني ما زلت في عداد تلامذة الصناعة، مع إني كنت قد تعلمت أكثرها.

قضيت في هذه الصناعة نحو سنتين، ثم خرجت منها مضطرا، لان الجلوس على الكرسي للشغل طول النهار لم يوافق صحتي، فبعد أن كنت في المطعم بدينا نشيطا، أصبحت بعد سنة في صناعة الأحذية ضعيفًا، وأصابني ضعف في معدتي، حتى خافوا عليّ، فقرروا أبطال هذه الصناعة الرجوع إلى المطعم موقتا، ريثما يفكرون في صناعة أخرى، وأنا إلى ذلك الحين لا أفهم معنى المستقبل والاعتماد على النفس والنظر في طلب العلا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة