يشعر بالامتنان كل من يقترب من منجزات ذلك الفارس (المنسي) جرجى زيدان، لا لسبب لا لأن تلك القامة قدمت كل ما تملك من مال وصحة وإبداع، من أجل تزكية التحول الحضارى لمنطقة تعانى من الاحتلال العثمانى لأربعة قرون، ومن ثم غزوات عسكرية فرنسية وإنجليزية طغت على بلاد المنطقة مجتمعة.

تعريف:

هو المبدع والصحفى والمفكر "جرجي زيدان".. ولد في يوم 14 فبراير عام 1861م في بيروت بلبنان، أجاد جرجي زيدان لغات أخرى إلى جانب اللغة العربية، مثل العبرية والسريانية، بالإضافة إلى الإنجليزية والفرنسية، ويعود حبه للأدب بسبب تواصله مع المثقفين وكبار شيوخ الأزهر، مع أهل الثقافة والأدب في ذلك الوقت.

من أهم إنجازاته إلى الآن، هو إنشاء مجلة الهلال عام 1892م عندما هاجر من بيروت إلى القاهرة، ومنذ تلك السنوات البعيدة استقبلت "الهلال" كل الأقلام الراسخة ونشرت كل الأفكار المتنوعة والتى تعنى باﻹنسان وهمومه الفكرية والحياتية.. وقد راجت المجلة حتى بلغت بلاد الأمريكتين وآسيا فضلا عن شهرتها فى العالم العربى.

جرجى زيدان روائيا:

نشر اثنين وعشرين رواية، خلال فترة التعرف على معطيات الثقافة والحضارة الغربية. أهم ما يميز تلك الروايات أنها اتخذت من التاريخ مادتها السردية، وتحديدا معالجة الفترة الممتدة من التاريخ اﻹسلامي منذ فترة النبوة حتى الحكم العثماني. لعل القارئ والناقد معا يلحظ أن الكاتب التزم بتلك الوقائع والأحداث التاريخية والحقيقية التزاما كبيرا.. وهى من طرق معالجة السرد فى كتابة الرواية التاريخية.. من أهم تلك الروايات التاريخيه: "المملوك الشارد" و"أرمانوسة المصرية" و"شجرة الدر" وغيرها. 

البيئة الفكرية التى شكلت جبران:

ربما يجدر الإشارة إلى بعض الملامح الفكرية خلال بدايات القرن العشرين، ولتكن تلك المناظرة الفكرية الشهيرة التي دارت بين الشيخ "محمد عبده" و الكاتب "فرح أنطون" حيث كان البحث عن "الهوية" وخصائصها، دار النقاش حول فكرة أصول الدولة المدنية. 

فقال الشيخ بضرورة توافر النظر العقلي لتحصيل الإيمان، البعد عن التكفير، والاعتبار لسنن الله في الخلق، مع عدم إعطاء السلطة للشيوخ وإبقاء مدنيين عليها.

أما فرح أنطون فقال بأن غرض الحكومة المدنية حفظ الأمن بين الناس، وحفظ الحرية ضمن دائرة الدستور، المساواة بين الناس بقطع النظر عن مذاهبهم ومعتقداتهم، وأن للسلطة الدينية اختصاصاتها المحددة.. مع النظر إلى أن العقل البشرى مطبوع على الاختلاف، والكون مطبوع على التنوع.

..الطريف أن فن الرواية لم يكن بالفن الراسخ بعد خلال بدايات القرن العشرين، ويمكن التأكيد بثقة الآن، أن هذا الفن ولد وترعرع ورسخ تحت إلحاح الحاجة إلى التعبير الإنساني عن تلك القضايا الفكرية التي راجت في ذلك الحين. كانت هناك العديد من المحاولات في النصف الثاني من القرن التاسع عشر للتعرف على فن الرواية،  الذي بدأ بالترجمة ثم المحاكاة الكاملة وغيرها من المحاولات. إلا أن الراصد لتلك الفترة وما كُتب حقيقة في هذا الفن، لا يجد إلا قضية الهوية والبحث عن الذات هي الأصل وهي الدافع الحقيقي وراء روايات كتبت بالفعل (وبغض النظر عن البعد التقني والفني الذي وصلت إلية الرواية فيما بعد).. ولعله السبب نفسه وراء قرار جرجى زيدان كتابة الرواية.

لقد استخدمت الرواية كسلاح له دوره، وهو ما قام به "فرح أنطون" نفسه بعد كل المناظرات الشاقة التى مارسها أمام الشيخ "محمد عبده".. فنشر  رواية "الدين والعلم والمال" عام 1903م ثم رواية "أورشليم الجديدة" عام 1904م ولعلهما أولى الروايات التى كتبت في  مجال أهمية الإصلاح والنقد الذاتي، والبحث في أثر الصراع بين ذوات "الأنا الجمعي" من الطوائف والفئات والطبقات داخل المجتمع الواحد، وبهدف البحث عن "الهوية"..

لذا يعد انشغال "جرجى زيدان" بالبحث عن هوية من خلال البعد الثقافى بعامة، أنشأ مجلة الهلال.. ومن خلال الفن الوليد فكتب الرواية، حيث "اختار التاريخ اﻹسلامي لها".
ملاحظات على روايات جرجى زيدان

مع كل الاهتمام بمنهج جرجى زيدان فى ﺇبداعاته السردية، يجب أن نضع فى الاعتبار الفترة المبكرة جدا على تعرف الكاتب العربى على الشكل الروائي فى السرد المماثل للشكل الغربى، والذى حل محل المقامات التى كانت تعد الشكل الشرعى السائد للسرد..  ومع ذلك نشرت بعض الدراسات التى رصدت بعض الملامح النقدية لروايات "جرجى زيدان" والتى يمكن أن تتمثل فى عدد من الملاحظات:

 .. اختيار بعض المواقف السلبية من التاريخ اﻹسلامى، وﺇن كنت أعتقد أن مثل تلك الفترات التى تتسم بالصراع، هى نفسها الفترات المناسبة للسرد الروائي، نظرا لتوافر الأحداث ولتعدد الآراء والشخصيات أيضا.

 .. نمطية التيمة التى استخدمها الكاتب، حيث العلاقة الأساسية داخل النص بين الحبيب والحبيبة، ومن ثم الدسائس للوقيعة بينهما، وهى متكررة فى كل الروايات.
.. عدم رسم الشخصيات، حتى بدت كلها متماثلة ﺇلا من اسمها المختلف، بينما ﺇبراز السمات الفيزيائية والجسمية والنفسية للشخصيات تزيد من جاذبية الرواية.

.. قال البعض إنه أحيانا تبدو قصة الغرام الواردة فى النص شاذة مع وقائع السرد، حتى إنه فى بعض الأحيان لا ضرورة لقصة غرام.

.. مثلما تشابهت الشخصيات، تشابهت البيئات التى تقع معها الأحداث.

لعل مجمل ما تناوله البعض حول روايات جرجي زيدان لا تقلل من قدرته كرائد للسرد العربى فى حينه، وخصوصا السرد التاريخى، مع الوضع فى الاعتبار كونه فنا جديدا لا خبرة سابقة عليه عند كُتاب الجيل كله.
جرجى زيدان مفكر تاريخي:

قد يعرف البعض قدر الكاتب والمفكر "جرجى زيدان" كروائي له إسهاماته المقدرة، والتى لا يمكن أن تجهله الموسوعات العربية.. أما كونه من المفكرين فى مجال التاريخ فهو من الأمور المجهولة عنه، وغالبا نجهل ما نشره في موسوعات؛ هما موسوعتين من أهم الكتابات التاريخية الأدبية:

.. "تاريخ التمدن الاسلامى (خمسة أجزاء) وقد نشر تلك الأجزاء خلال السنوات من 1902م حتى 1906م.. وقد آثار الكثير من الحوارات حوله.

.. "تاريخ آداب اللغة العربية" (أربعة أجزاء) وهو رصد تاريخى للآداب العربية وأيضا أثار الكثير من الحوار الايجابى من حوله، ونشر خلال السنوات من 1911م حتى 1914م
خاتمة:

ﺇن الاحتفال بذكرى ﺇنشاء مجلة "الهلال" العريقة هي مناسبة مقدرة، ويجب أن نقف أمامها طويلا، ونتساءل عن هؤلاء الذين أبقوا عليها طوال تلك السنوات، ونتساءل عن الغد ودورها المتوقع مع كل التقدم التكنولوجى الرقمى، الذى أضاف ﺇليها بوابة دار الهلال بعد أن أصبحت المجلة مؤسسة كبرى.. ليهنأ جرجى زيدان فقد أنبت زرعه وأثمر بأكثر مما تخيله هو نفسه..