الجمعة 27 سبتمبر 2024

قصص دار الهلال النادرة| «الذكريات الممنوعة» قصة قصيرة من العراق لـ حسب الله يحيى

الذكريات الممنوعة

كنوزنا8-9-2024 | 14:27

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر 1 مايو 1985، نشرت مجلة الهلال قصة قصيرة من العراق بعنوان "ذكريات ممنوعة" للكاتب حسب الله يحيى، ادور القصة حول شخصية رجل يزور امرأة فقدت زوجها وابنها، ويتأمل في صبرها وأملها رغم الحزن العميق، يتجول في المدينة مثقلاً بالأفكار عن الفقدان والذكريات، ويواجه صراعات داخلية حول الحياة والمجتمع.

نص القصة:

تجلس هادئة، حولها صور ملونة، وباقة أزهار موضوعة في قدح، جلست أمامها حزينا، بقلب دامع.. وحدقت إليّ (الورد الجهنمي) أمامها.. سألت نفسي هل يعذب الورد ويوضع في جهنم؟ وأجبت.. هي ترعاه وتحنو عليه وتداوي جراحه وتسقيه الماء لتبعث فيه الحياة، وجدت نفسي جالسا في القدح.. وعجبت لأمري، فالدمعة فضحت مشاعري، خاطبتني باسمي وتولت أمر مواساتي، وتوسلت إلى أن أهدأ.

طلبت إلي قدحا من الشاي، اعتذرت.. كنت أعلم بأن الشاي سوف يمزق أمعائي، وظلت تحدق في وجهي.. وكنت أبحث عن شيء أظل أحدق فيه حتى لا تلتقي عيني بعينيها، وعندئذ.. عندئذ سأبكي وأضيف هما جديدا إلى همومها.

وكنت أعلق وإياها أمالاً.. وكانت أمالها أكبر.. وأنا حزين لا أستطيع أن أتعلق بخيط من ضوء الشمس.. فالشمس ستغيب والخيط سينقطع.. وتقول العكس: الشمس تشرق كل يوم.. وكل الكائنات تنتظر طلوعها وتمنى أفراحها بالضوء.. لكنه ضوء مؤقت، ضوء تقلیدي خداع.. أنا أبحث عن ضوء، ضوء عميق.

- أنت متشائم دائما ومنذ عرفتك.. عرفت أنك تحمل أحزانا متراكمة.

- وهل خف هذا التراكم، هلى زال بعضه..؟

 - أضيفت إليه همومي.

- همومك، ملك مشاع للناس.. وهذا الشيء الوحيد الذي يخفف عنك ثقله.

- كيف ؟

- زوجك المفقود، وابنك المفقود.. جيلان.. الآباء والأبناء في خندق واحد

كنت أريد أن أقول لها..

زوجك.. كل الرجال وأنا معهم، وابنك.. كل الأبناء وابني معهم .... وآثرت الصمت، حدقت في الورد الجهنمي.. وعلى غير توقع منها.. استأذنت بالانصراف، حاولت أن تعتذر عن إثارة الموضوع أمامي.. وتوسلت بقائي فترة أطول غير أنني كنت أصر على الانصراف خشية الضعف أمامها.

حاولت أن أبدد أحزاني، وأن أسير حتى أتعب.. كنت تعبا غير أنني صرفت تعبي بالساعات التالية، والتي سأشاهد خلالها عمارات سكنية ترتفع، ونافورات يندفع ماؤها بقوة، كأنما يريد الخلاص من مصار الأنبوب الذي يضيق عليه.. وصور كثيرة، بحجوم وألوان مختلفة.

احترت بأصابعي فقد كنت أعرف بحركتها اللا إرادية حين أكون قلقا.. وضعتها في جيبي.. وفوجئت بأن الأنظار تحدق إليّ حاولت أن أصرخ:

- أيها الناس لا شيء، لا شيء في جيوبي، لا بيانات سرية ممنوعة، ولا جهاز التقاط، ولا مسدس سريع الطلقات، في جيبي فراع.. كلا .. هواء وأنا أطرد الهواء وأشغل الفراغ.. أليس ذلك من حقي.. أنه بنطلوني أنا وليست بناطيلكم لأسرق ما فيها، أو أواضع الممنوعات في داخلها.. أنا لا أمارس هذه المهن.. ودائما أحمل أكثر من هوية في جيب بنطلوني الخلفي، لأثبت شخصيتي.. فبدونها لا تساوي شيئا ولا يمكن معاداتي برقم، أي رقم.. فالأرقام أشياء محسوسة، وأنا رقم غير مادي..

وضعت يدى فوق رأسي، أقاوم الصداع الذي انتابني فجأة، وحرارة الشمس، وفوجئت بأن العيون ترصدني.. والعيون تقول بأن هذا الرجل يحمل رأسا، وهو يستخدم رأسه للتفكير في أمر ما.. نعم، نعم ذلك وارد.. فالنباتات مزهوة لأنها بلا رأس.. أنها لا تشغل نفسها بالتفكير، لذلك تتلون وتعطر الجو.. فهي بلا هموم.. والقطة.. القطة التي تألفني وتلامسني كلما تراني.. هل تفكر..؟ تفكر نعم، فهي تميزني، فحين أطرد القطط الغربية التي تريد أن تخاصمها أو تمارس العاطفة معها قسرا، تلجأ إلي لأنقذها ولا أخيب أملها.. وعندئذ تبقى ساكنة.. أليفة.. وتهرب بقية القطط من غضبي، هي قطة تفكر بأمنها.. وأنا أفكر بأمني وأمن من حولي.. وهذا هو الاختلاف ما بين تفكيري وتفكير القطة.. وبلادة النبات.

وأسير.. ويدي على جانبي جسدي.. ما الذي أفعله بهما؟ سأدخن وأبتاع علبة سيكائر من النوع الرديء بثمن مضاعف.. وأتوقف عند خزان الماء البارد.. وحين أريد أن أدفع الثمن لا أجد أحدا لاستلام النقود، أنتظر.. فأنا أمين على حقوق الناس.. غير أنني، وعبر التفاتة إلى الخزان قرأت الجملة التالية: "أشرب، وأطلب الرحمة لحسين الشهيد ". طلب الرحمة، اعتذار،  أنا أدفع ثمن الماء.. بكلمة (رحمة) وأتذكر الحسين ودمه، واعتذار عن دمه القتيل.. اعتذار.. اعتذار!

توقفت فجأة، كلمة "الاعتذار" أثارتني.. غدا سيفرجون عن زوجها وابنها ويعتذرون، وربما في الغد.. سيعتذرون أيضا.. فلا وجود للاسمين في قوائم المفقودين..

هذه.. أجوبة التفاؤل التي تنتظر المرأة، أما أجوبة الحزن ، فهي أخف كثيرا من حالة التعلق بشيء مجهول.. فهي لا تعرف أسباب الاعتقال، ومكان الاعتقال.. وإلى متی سيستمر  وقد يكون مختطفا هو وابنه.. ولكن لا أعداء لهم.. فكل من حولنا يحبهم.. كانت تقول بثقة عالية.. وربما غرقا أو دهسا لكن الماء لم يكشف عن جثتيهما، والمستشفيات لم تستقبل حادثا باسميهما.. فهل تكون الأرض قد انشقت وابتلعتهما، وهل صعدت روحاهما إلى السماء كالمسيح، وهل ألقيا في بئر عميقة كيوسف الصديق.. حاولت أن أتذكر وجه الزوج الصديق، وابتسامة ابنه، وتفاؤل الزوجة التي مازالت تنتظر عودتهما منذ سنوات.

الدقيقة الواحدة من الانتظار صعبة الدقيقة تمتلىء بالذكريات.. الذكريات العزيزة والأليفة، والكلمات الخضر وتعيد مواقف الحزن والجراح التي تسمى، الذكريات الأجمل هي الأبقى.

إذن كيف تصبر هذه المرأة العنيدة، كيف تدفع بالصخرة إلى الأعلى مثل سيزيف ولادياس كيف تمارس عملها اليومي وتذكر بأشياء كثيرة وهادئة وسليمة، وذاكرتها معلومة بالصور.. عجبت للمرأة هذه، كنت أحسد فيها الأمل، وأكثر ما يسعدني في حياتي كلها أن أراها سعيدة، سعيدة ومتفائلة.. ومتى عقدت هذا التفاؤل أكون قد امتلأت بالحزن، وافتقدت كل حاجتي لأن أتنفس.

تعبت قدماي ورأسي ثقيل، ولا أقوى على حمله وحمل الذكريات الممنوعة التي في داخله وتذكرت موضوعا قرأته في صحيفة يومية عن اختراع جهاز جديد بإمكانه أن يكشف كل ما يحمله الإنسان في ذهنه من أسرار، يكشف هويته السياسية، وعلاقته العاطفية يكشف أحزانه وأفراحه معا، الممنوع سيحصده حتما، والممنوع سيحصد سواه أيضا، والممنوع سيجعل الأمور أسهل في كثير من الحالات، فسيقل الزحام على شراء البيض واللحوم والخبز، وسيتكئ الركاب في السيارات بارتياح، إذا لم تتوفر لمعظمهم سيارات خاصة، فهم قلة وآمنون، فما دام ملك الملوك يجلس على كرسيه سعيدا، فالدنيا بخير، لا هم ولا مرض ولا شأن للرأس بأن يفكر في أحلام ممنوعة وعلى الجميع أن يحتفلوا بزفاف ملك الملوك في يومي الخميس والجمعة، ذلك أن الطبيعة وخالقها قد اختصهما لأحد الكواكب الأثيرة عنده، وهو كوكب الزهرة، فيما اختار بقية الأيام للكواكب الأخرى.. فالسبت لزحل، والأحد للشمس، والاثنين للقمر، والثلاثاء للمريخ، والأربعاء للمطارد.

ملك الملوك إذن فضل الزهرة، فامتلأت الكواكب مسرة، واختاروا الزواج وانبات المغريات البشرية في هذين اليومين، ارتداد اختل رأسی.. واخترت الجلوس على الأرض تحت جدار ترك ظل، ولم أعرف بأنني عفوت إلا عندما دفعت بصري إلى أعلى فشاهدت شيئا أشبه بمخلوقات إذن المنعمة والمعافاة، يصرخ في وجهي ويطردني یا أستاذ ليس هذا مكان للسكاري هذا المكان ليس فندتا اذهب من هنا لم يكن الوقت مناسبا للسكاري كما أعلم بالنهار في منتصفه، والسكاري نادرون في  هذا الوقت، فلماذا ظن بي هذا الرجل.. كوني سكيرا، بدل أن أكون متعبا ومريضا وأشكو الصداع القاتل كما هو واقع أمري فعلا.

قلت لماذا يكون مثل هذا الذي في ذهني نادر الوجود في تفكيره، فمن حقه أن يكون إنسانا سويا كباقي مخلوقات الله، كون كل إنسان متهما في قضية مالم تثبت براءته والتهمة موجودة، ويمكن تفصيلها ضمن مقاييس مختلفة.

ومشيت  بحثت عن مقهى قريب فلم أجد، فكل المقاهي قد تحولت إلى (بارات) وتعليل ذلك قائم على أمرين الربح لصاحب (البار) والخلاص الأجوف من الهموم في تناول الزبائن لمزيد من الكحول.. الحزن، الحزن.. أكان لزاما أن يرافقني کظلي، أكان لزاما أن يكون أصدقائي في وضع حزين وقلق مثل أحزاني وقلقي؟ ابتسمت.. وقلت: لو لم يكونوا على شاكلتي، لما التقينا ولم نكن أصدقاء..

 

وصلت المنزل مرهقا، استقبلتني زوجتي بالشكوى من الأبناء.. والشكوى من صداعي الذي لا يفارقني..

- لقد تعلمت هذا.. صداع دائم، وأبناء مشاكسون، وكل الأرهاق لا يقع إلا على عاتقي.. أنت لا هم لك سوى الانشغال بصداعك وتذكرت القطة التي لا تفكر إلا بنفسها..

قلت لنفسي: مادمت قد حققت الأمان للقطة، فينبغي أن أحقق الأمان لزوجتي من الأبناء المشاكسين.. وهذا أحد حقوق الزوجية المطلوب تنفيذها، صرخت في أبنائي - خاطبتهم واحدا واحدا.. ألزمتهم بالنوم.. خافوا غضبي، واستلقوا على أسرتهم بعيون مفتوحة جامدة، أو عيون مغمضة كاذبة، انشرحت أسارير الزوجة.. خاطبتني: هكذا الآباء، صمت وتظاهرت بالنوم.. ونامت القطة التي في داخلها، ونهضت على أطراف أصابعي جئت إلى سرير واحد واحد من أبنائي وهمست في أذن كل واحد منهم: إذا لم تكن راغبا في النوم، اذهب والعب واقرأ  قصة تعجبك.. استجاب واحد منهم، واختار البقية الانصراف كل إلى حريته.. سررت.. فقد أطلقت سراح أبنائي، وكان عليّ أن أحاصرهم بالنوم، على أن أفقدهم إنسانيتهم.. وأجعل (الممنوع) ساري المفعول في داري، فرحت بقراري.. وغفوت.

 

في الزمن القصير لغفواي لاحقتني تلك المرأة.. ولاحقني زوجها وابنها.. لاحقني شيء اسمه، الضياع  أو الفقدان.. سألت: ضياع، فقدان.. المسألة تتعلق بفقدان بشر، وليس فقدان قرط، ولا ضياع حاجة مادية.. هذه الأشياء يمكن العثور عليها بسهولة.. وفي حالة عدم العثور عليها لا يعني الأمر أكثر من الحزن المؤقت، والحزن المنسي لاحقا

لكن التذكر.. التذكر الذي يشغل الذهن عن إنسان عشت زمانه وعاش زمانك، كيف تلغيه من الذاكرة، كيف تمزق أوراقه، وتلقي بصوره بعيدا عنك.. جبال الثلج تذوب، وضوء الشمس يغيب، والعاصفة تهدأ، وأفراح ملك الملوك مازالت باقية.. وذكرياتنا الممنوعة باقية.. باقية..

وتذكرت جواب المرأة وهي تسأل،

- أتعلم سر بقائها:

وقبل أن أجيب قالت: لأن الذكريات الأصيلة، الأصيلة لا يمكن قطعها، لا يمكن أن تستأصل، لأن جذورها عميقة، عميقة..

وأقول لنفسي:

- هذه المرأة، قوية بقناعاتها، قوية بتفاؤلها، وقوية أيضًا بأحزانها، فمن خلالها تتحدى من حولها، وتتنفس الحياة، تسقى وردها الجهنمي.