السبت 19 اكتوبر 2024

مذكرات جرجي زيدان| الفصل الثالث «كيف تعلمت الإنجليزية» (6-6)

جرجي زيدان

ثقافة25-9-2024 | 14:22

بيمن خليل

بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.

هذا هو الفصل الثالث من هذه المذكرات القيمة التي ننشرها لتكون درسا في العصامية لشباب الجيل، وقدوة حسنة للذين يحبون العمل ويميلون إلى الكفاح للوصول إلى المجد، وقد بدأ مؤسس الهلال في هذا الفصل بالحديث عن الآداب العامة في بيروت، وكان قد تناول جانبا منها في الفصل السابق.

الفصل الثالث: كيف تعلمت الإنجليزية

أما اللغة الإنجليزية، فقل الذين كانوا يفهمونها، ومنهم جماعة التراجمة الذين يصحبون البحارة في أثناء طوافهم في الأسواق، يتوسطون بينهم وبين الباعة، ويقتسمون الأرباح أو ينالون جعلا على ما يباع.

فلما سمعت "المعلم مسعود" يذكر المدرسة، شعرت برغبة لي في تعلم هذه اللغة، ولا أذكر أني فعلت ذلك بدافع الطمع في مستقبل، أو رغبتي في الترجمة لمن يأتينا من البحارة الإنجليز.

ولما سألت "المعلم مسعود" عن مقدار الأجرة قال لي: "20 قرشا بيروتيا"، أي أقل من ستة فرنكات في الشهر، وكان "المعلم مسعود" يأكل عندنا، فقلت: إنه يأكل بأكثر من هذه القيمة كثيرا، فنقطع الأجرة من ثمن طعامه ولا نشعر بدفع شيء، فقلت لوالدي: إني أحب أن أتعلم اللغة الإنجليزية، فلم يعارضني.. لكنه كان يعجب كيف أقدر على ذلك وأنا مشغول في المطعم طول النهار وبعض الليل.

وكانت سني في ذلك الحين نحو 15 سنة، فصرت أتردد على "المعلم" في بيته، وكان التلاميذ الذين يدرسون معا 15 تلميذا، وكلهم شبان وكهول، منهم من كانوا يترجمون للسياح ولغتهم ضعيفة، ومنهم خدم يريدون الارتقاء إلى طبقة التراجمة، ولكنهم ما لبثوا أن استصعبوا درس هذه اللغة، فأخذوا يتفرقون عن المعلم، ما عداي ورفيقا واحدا اسمه "درویش صغير".

بقينا معا نتعلم الإنجليزية، وكان المعلم يفضل صرفنا، إذ لا يكفيه أن يأخذ ستين قرشا منا على ساعة كل ليلة، ولما تم الشهر الرابع ودخلنا في الخامس، قال لي المعلم: "إنك صرت تعرف الإنجليزية كما أعرفها أنا"، فصدقته، لأن الإنسان في صباه وشبابه يخدع بإطراء الناس.

وجربت بنفسي مطالعة كتاب "رحلة كوك في جزائر المحيط" فرأیت نفسي أقل كثيرا مما كنت أظن، فأخذت في الدرس النفسي، وساعدني على اكتساب ما اكتسبته بنفسي بالمطالعة ونحوها إني كنت قوي الإرادة، قوي العزيمة، قوي البنية، صبورا على العمل.

خذ مثلا: درسي اللغة الإنجليزية، قد ذكرت لك إني كنت مشتغلا كل ساعات النهار وبعض ساعات الليل في المطعم مع والدي، ولا يستغني عنى لحظة، لأن كل الحسابات والأخذ والعطاء بيدي، فلا فراغ عندي إلا في الليل، بعد الرجوع إلى البيت، فكنت أضيء المصباح وأجعله على الشباك بجانب سریري، وأقضي ساعات في الدرس والمطالعة. وكثيرا ما تشرق الشمس وأنا جالس، ودق والدي باب غرفتي مرة، وكنت جالسا أقرأ وأكتب على سريري، فنهضت وفتحت له وأنا أحسبه لا يزال ساهرا وأتى ليحثني على النوم كعادته، فلما فتحت الباب، رأيت الفجر قد لاح، فسألني: "ما بالي أراك قد استيقظت باكرا في هذا الصباح ؟"،  فقلت: "إني لم أنم بعد" فغضب، وأخذ ينصح لي أن أرفق بصحتي، ويعجب كيف أسهر إلى طلوع النهار.

وحدثتني نفسي في أثناء ذلك أن أؤلف قاموسا للغة الإنجليزية والعربية، فأتيت بقاموس "دجلاس" الإنجليزي وكان لليسوعيين قاموس للغتين الفرنسية والعربية، واستمعنت بالقاموسين، وبالقرائن، وبما كنت أعرفه من الألفاظ، على وضع قاموس إنجلیزی عربي وكتبت منه إلى حرف E، ثم مللت، وحق لي أن أمل، لأني كنت قليل المعرفة باللغة، فلما توقفت عن العمل حزنت حزنا شديدا، إذ سبق إلى ذهني أني خلقت ضعيف العزيمة، قليل الهمة، وتشاءمت لأني لا أعمل عملا وأصبر عليه حتى يتم.. وأنا يومئذ في السادسة عشرة من العمر.

على أن ذلك لم يئن عزمي عن المطالعة، فصرت أطالع في العربية كتب الأشعار والأدب وفي كتاب "مجمع البحرين" للشيخ ناصيف اليازجي وهو كتاب أدبي وضعه مؤلفه على طريقة المقامات، وكان له شأن عظيم عندي لأنه ساعدني على معرفة ألفاظ لغوية أفاخر أقراني بمعرفتها.