بمناسبة الذكرى الـ110 لرحيل عملاق الأدب والفكر العربي، جرجي زيدان، تقوم "بوابة دار الهلال" بإعادة نشر مذكراته الشخصية، هذه المذكرات القيّمة، التي خطها زيدان بقلمه، سبق أن نشرتها مجلة الهلال على سبعة أجزاء متتالية في أعدادها الشهرية، بدأ نشرها في الأول من فبراير 1954، واستمر حتى الأول من سبتمبر من العام نفسه، مما يتيح الآن فرصة جديدة للقراء للاطلاع على هذه الوثيقة التاريخية الهامة في سيرة أحد أبرز رواد النهضة العربية.
هذا هو الفصل الثالث من هذه المذكرات القيمة التي ننشرها لتكون درسا في العصامية لشباب الجيل، وقدوة حسنة للذين يحبون العمل ويميلون إلى الكفاح للوصول إلى المجد، وقد بدأ مؤسس الهلال في هذا الفصل بالحديث عن الآداب العامة في بيروت، وكان قد تناول جانبا منها في الفصل السابق.
الفصل الثالث: ملاهي بيروت
كان اللعب بالسيف واللعب بالعصا يجريان غالبا في ليالي رمضان، في المقهى القريب من محل والدي، وكنت أشاهد كليهما من أحد أبوابه، وأفضل مشاهدة لعب السيف، لأنه يحمس ويبعث النشاط والحماسة في النفس، ولكني كنت أخشى الجلوس مع المتفرجين لصغر سني، فأكتفي بالمشاهدة خلسة.
تلك كانت ملاهي الوسط الذي كنت فيه، أما عشرائي فلم يكونوا أقل خطرا على الآداب، فأكثرهم كانوا من أهل البطالة، لأن الزبائن الذين لهم أشغال، أو كانوا من أهل البيوتات، كانت عشرتي لهم تقتصر على الأخذ والعطاء والمحاسبة، فيأكلون ويدفعون ما عليهم وينصرفون، وإنما يبقى للعشرة أهل البطالة الذين ليس لهم عمل يلهون به، فهؤلاء كان يجتمع عندي عدد منهم يقضون ساعات الفراغ في المحل بين الغداء والعشاء
وكان يطربني من أحاديث ذلك الدور من حياتي ما كان يجري بين طائفة من أهل البطالة، إذ يفاخرون بالشجاعة، فيزعم أحدهم أنه لقي جماعة فهزمهم، أو أنه دخل مكانا مظلما ورأى فيه العفاريت فطردهم، أو نحو ذلك من الخرافات والغرائب. وكانت هذه الأحاديث تلذ لي، وتثير فيّ الحماسة لتقليد الشجعان وأهل المروءة.