السبت 5 اكتوبر 2024

51 عامًا على انتصار أكتوبر.. الحنكة المصرية تخدع ثعلب السياسة الأمريكية| مذكرات هنري كيسنجر

كيسنجر إلى جانب السادات

تحقيقات5-10-2024 | 15:07

محمود غانم

لأكثر من قرنين عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية في ربوع الديمقراطية، عقمت أن تلد سياسيًا كـ "هنري كيسنجر" ذاك الثلعب الماكر، الذي كان يشغل منصب وزير الخارجية إبان حرب السادس من أكتوبر، فبرغم من دعمه المطلق لـ إسرائيل، ليس فقط لأن بلاده تعرف بذلك، بل لكونه نشأ أيضًا في أكناف عائلة يهودية، إلا أنه كان حريصًا في الوقت ذاته على إظهار الود للعرب.

وتعتبر حرب السادس من أكتوبر رد فعلي على قول كيسنجر لـ الرئيس محمد أنور السادات أن "يكون واقعيًا فنحن نعيش فى عالم الواقع، ولا نستطيع أن نبنى شيئًا على الأمانى والتخيلات، والواقع أنكم مهزومون، فلا تطلبوا ما يطلبه المنتصر، لا بد أن تكون هناك بعض التنازلات من جانبكم حتى تستطيع أمريكا أن تساعدكم أو أن تغيروا الواقع الذى تعيشونه"، فكانت حرب ١٩٧٣، خير جواب على كيسنجر.

وبدوره، كشف كيسنجر في مذكراته عن الكثير من خفايا حرب أكتوبر، وكيف أن بلاده أرادت أن تحول دون حصول الهجوم المصري-السوري بزعم أن إسرائيل لاتنوي شن أي هجوم على القاهرة، ولاحتى دمشق، وأن الولايات المتحدة الأمريكية بصفتها تتضمن لهم ذلك.

وأوضح كيف أن مصر مارست أعلى درجات الحنكة السياسية والإستراتيجية بإخفائها موعد الحرب حتى آخر لحظة، جعلته في حالة من الدهشة والذهول، أكدت له أن الدبلوماسية عاجزة عن التصرف وسط تلك الأجواء العصيبة.

 طبول الحرب

استيقظ وزير الخارجية الأمريكي، هنري كيسنجر، صبيحة يوم السبت السادس من أكتوبر لعام ١٩٧٣، على صراخ معاونه لشؤون الشرق الأوسط وآسيا الجنوبية جوزيف سيسكو، وهو يقول: إن "إسرائيل ودولتين عربيتين (مصر وسوريا) على أهبة الدخول في حرب"، لكن عندما استيقظ، لم يكن باقيًا لما كان يدعى بالسلام في الشرق الأوسط سوى ٩٠ دقيقة، فقد استطاعت كل من مصر وسوريا وبمهارة غريبة إخفاء استعداداتها الحربية، حتى بات شبه مؤكد لدى الإسرائيليين، أن الهجوم لن يبدأ قبل أربع ساعات، حسبما يذكر "كيسنجر" في مذكراته، متابعًا:"وأني متأكد من جهتي أن الدبلوماسية فاشلة بل عاجزة إذا كان الهجوم العربي مهيأ له بحساب".

حاول كيسنجر جاهدًا تدارك الموقف المضطرب، وذلك بتواصل مع محمد الزيات، وزير الخارجية المصري، آنذاك، في الساعة الواحدة ظهرًا أي قبل انفجار الموقف بدقائق معدودة، حيث أبلغه برسالة إسرائيلية مفادها أن تل أبيب لاتنوي شن هجوم على القاهرة، ولاحتى دمشق، وأن بلاده تتضمن لهم ذلك.

  ادعاء كيسنجر

وما أورده كيسنجر هنا باطل جملة وتفصيل، إذ أن إسرائيل كانت تنوي شن هجومًا أطلق عليه اسم "الحزام الأسود" وكانت تهدف من خلاله ضم جنوبي لبنان كله إليها، هذا بالإضافة إلى ضم أجزء أخرى من سوريا، وبناء خط محصن يشبه بارليف فى غور الأردن لحماية المستعمرات، وذلك وفق خطة عسكرية وضعها وزير الدفاع الإسرائيلي، موشيه ديان، حينئذ.

وفى الخامس من أكتوبر ١٩٧٣، عقد اجتماع طارئ لمجلس قيادة الأركان الإسرائيلى بحضور جولدا مائير، رئيسة الوزراء الإسرائيلية، شرح فيه ديان خطته والهدف منها، وقبل أن تحاول مصر التدخل يوجه لها ضربة قوية ضد صواريخ الدفاع الجوى فى منطقة القناة وضد المطارات المصرية، وبالفعل افقت مائير على تنفيذ الخطة يوم الثامن من أكتوبر ١٩٧٣، بحسب ما أورده المشير محمد الجمسى، أحد قادة حرب أكتوبر ١٩٧٣، فى مذكراته، الذي علق قائلًا:"كان المعنى الوحيد للأفكار التى طرحها ديان هو القيام بحرب أخرى ضد العرب فى أواخر عام ١٩٧٣، وكان حلم ديان المرسوم على الخريطة العسكرية حزام عسكرى حول إسرائيل يحقق أمان إسرائيل إلى الأبد، وجعل زمام المبادرة فى أيدى إسرائيل إذا أرادت ضم أراضى عربية أخرى".

وتمهيدًا لذلك، قررت إسرائيل إجراء اتصال عاجل مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعن طريقها للإتحاد السوفيتى يتولى تحذير مصر وسوريا من الإقدام على أى عمل عسكرى، ولاداعى للحشود وحالة التوتر حتى لاتنقلب ضدهم، على عهدة الجمسي، الذي أشار إلى أن الهدف من وراء ذلك هو خداعنا، حتى تتمكن إسرائيل من مفاجأة العرب يوم الثامن من أكتوبر ١٩٧٣، لتنفيذ خطة الحزام الأسود، ولكن خاب أملها.

 غموض الموقف

ولكن عند تواصل الزيات -الذي كان يتواجد حينئذ في نيويورك للإشتراك في أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة- بكيسنجر أبلغه في تمام الساعة الثانية وربع ظهرًا، أن إسرائيل شنت هجومًا على المواقع المصرية في خليج السويس، وتحاول مصر ردها على أعقابها، هكذا يذكر كيسنجر في مذكراته.

بيدا أن كيسنجر استبعد صحة ما أبلغه به الزيات، حيث لم يصدق أن تنقض إسرائيل عهدًا قطعته للولايات المتحدة منذ ساعات هذا من جهة، ومن النادر أن تخوض دولة حربًا دون تعبئة مسبقة هذا من جهة أخرى، لكنه طالب الزيات بأن تضع مصر حدًا لدفاعها، وهو سوف يقوم بدوره بتواصل للوقف على حقيقة الأمر، وفقًا له.

وفي حالة صحة ما أورده كيسنجر في شأن رسالة الزيات، فلعلها حيلة دبلوماسية منه، لرفع أي حرج أو مسؤولية عن مصر، لأن من المعلوم تاريخيًا أنها باغتت إسرائيل بهجومها في تمام الساعة الثانية وخمس دقائق ظهرًا.

عقب ذلك مباشرة، أرسلت برقية عاجلة إلى كل من ملك الأردن وملك المملكة العربية السعودية، راجيًا إياهما استخدام نفوذها في سبيل وضع حد للأحداث الحربية وكان أملي ضعيفًا بتدخلهما، لأن الهجوم إذا كان متفقًا عليه، فلن تقبل أية دولة عربية وضع حد له، وبالفعل، أجوبتهما التي وصلت متأخرة مساءً، أثبتت صدق حدسي ووقوفهما على الحياد، حيث أعرب حسين عن قلقه إزاء هذه الأحداث، وبين فيصل أنه مع التضامن العربي، وبقي الاثنان خارج النزاع العسكري، طبقًا لمذكرات كيسنجر.

ويعلق قائلًا: هكذا اندلعت الحرب في الشرق الأوسط، وأصبحنا في مواجهة عدد من المسؤوليات، تبدو لأول وهلة وكأنها متناقضة، فعلينا تأمين بقاء إسرائيل والمحافظة على أمنها، وعلينا في الوقت ذاته الحفاظ على علاقاتنا مع الدول العربية المعتدلة كالأردن والسعودية، إننا نعلم مسبقًا أن أوروبا واليابان ستكونان قلقتين، فيما لو طال أمد الأزمة، وأنهما سوف تتبعان مسلكًا يختلف عما نسلك في حال فشلنا، أما بالنسبة للسوفيت، فهم يتصرفون بحكمة ومهارة، وعلينا أن نتوقع منهم مد يد العون لنا لإنقاذنا من ورطاتنا، وربما كان العكس، فهم سوف يلجئون إلى تصعيدها.

 

 دعم إسرائيل

وفي يوم السابع من أكتوبر، وبينما كانت إسرائيل لاتزال في حالة الدفاع وتعمل جاهدة لكسب الوقت، منتظرة الإنتهاء من التعبئة، وصلتني رسالة من رئيسة الوزراء الإسرائيلي جولدا مائير طالبت فيها بإمداد بلادها، ببعض العتاد العسكري الخاص، خصوصًا صواريخ "سيدواندر" المضادة للطيران، ومن جهته أكد كيسنجر على أن بلاده ستسلم لإسرائيل جميع ما تريده، وهو ما كان عن طريق جسر جوي، بحسب المصدر ذاته.

وبدورها، انتقدت مصر في غضون اتصالاتها مع كيسنجر ذلك الجسر، الذي وصفته بأنه "غير مقبول"، مطالبة الولايات المتحدة بمضاعفة جهودها للربط بين الحل العسكري والسياسي، وذلك مع التأكيد عن عدم التنازل عن شبر واحد من أرض سيناء، على عهدة المذكرات.

في غضون ذلك، يقول الوزير السابق، إن السادات كان على علم بأننا نعمل كل شيء لإفشال مخططاته العسكرية، وكان باستطاعته أن يتخذ من الجسر الجوي الذي نقيمه، ذريعة يبرر بها الهزيمة التي وصل إليها هجومه في سيناء -على حد زعمه- أضف إلى ذلك إمكانية تأليبه ضدنا، كافة جماهير العالم العربي، مثلما فعل قبله عبد الناصر عام ١٩٦٧ ولأسباب أقل أهمية. 

وأخيرًا، يؤكد كيسنجر أن الولايات المتحدة ساندت إسرائيل طيلة مدة حرب أكتوبر ١٩٧٣، وذلك نظرًا لدوافع تاريخية عديدة، وأدبية وإستراتيجية، بما كاد يعرض بلادنا لخطر حرب مع الإتحاد السوفيتي، وفي وقت كنا نعاني فيه معاناة قاسية داخلية فرضتها علينا فضيحة "واترجيت".

الاكثر قراءة