الخميس 21 نوفمبر 2024

مقالات

الترجمة العربية ودورها في نشأة الحضارة الأوروبية

  • 9-11-2024 | 15:49
طباعة

للترجمة دورها المهم في مراحل التاريخ في دعم مسيرة الحضارة العالمية ونقل ثقافات الشعوب والتقريب بينها.. فهي أحد الجسور الأساسية لانتقال وتبادل الثقافة والمعرفة بين الشعوب..
ولا نبالغ إذا قلنا إنه لولا حركة الترجمة لمكثت أوروبا في غياهب الظلمات قرونا أخرى.. إن العلماء العرب والمسلمين في العصور الإسلامية قاموا بدورهم في بناء النهضة العلمية الأوروبية، وقدموا لأوروبا زاد نهضتها، وكانوا بحق آباء العلم الحديث، وأنه كان لابدّ من وجود: ابن الهيثم، وابن سينا، والخوارزمي، والبيروني، لكي يظهر: جاليليو، وكبلر، وكوبرينق، ونيوتن.. من ثم ساهم هؤلاء المسلمون في إثراء الحضارة العالمية وفي بناء صروح العلم والمعرفة.. وحينما بدأ أو قبل أن يأفل نجم الحضارة الإسلامية مؤقتاً وجدنا أن الأوروبيين بدأوا يترجمون بحماس شديد من التراث الإسلامي العربي إلى اللغة اللاتينية واللغات الأخرى، ومن ذلك كان انطلاق الشرارة الأولى للحضارة الغربية، التى هي مدينة للحضارة الإسلامية.. وكان المعبر الذي وصل منه علم المسلمين والعرب هو الترجمة. 

كانت هناك ثلاثة مراكز رئيسية للترجمة تتمثل في الأندلس وصقلية والمشرق (خاصة بغداد) لكن الأندلس أشهرها، كما شغلت الحروب الفرنجية دورا مهما كجسر لانتقال العلوم العربية إلى أوروبا.

كان سقوط طليطلة سنه "478هـ 1085م" وصقلية سنه "484هـ 1091م" في الحملة الصليبية الأولى "1096-1099م”، بمثابة الحجر الأساس للعلاقات الثقافية بين الحضارة الإسلامية وأوروبا الغربية، وكان كل من إسبانيا وصقلية القناتين الرئيسيتين لنقل التراث الإسلامي.  

سيطر العرب على إسبانيا مدخل أوروبا الجنوبي، وأطلقوا عليها اسم الأندلس، وثبتوا أقدامهم فيها حوالي ثمانية قرون، وكانت قرطبة وطليطلة من أهم المراكز العلمية والثقافية، كانت لمدينة طليطة عوامل عدة ساعدت على تبوءها تلك المكانة العلمية المتميزة لعل من أبرزها موقعها الجغرافي في وسط الأندلس، إن طليطة خلال حكم العرب خاصة في عهد أسرة بني ذي النون، في القرن السادس الهجرى/ الحادي عشر الميلادى كانت تتمتع بخلفية فكرية وثقافية؛ فامتازت بمكتباتها العظيمة، خصوصاً بعد انتقال جزء من مكتبة الحكم الثاني الشهيرة في قرطبة إليها، إضافة إلى آلاف المجلدات التي نقلت إليها من الشرق، كانت المركز الرئيسى لعمليات الترجمة ونقل الكنوز العلمية العربية إلى الغرب. 

وقام "مطران طليطلة ريموندو" بتأسيس مدرسة للترجمة في طليطلة (570هـ 1126م)، فدعا وخلفاؤه من المطارنة فكانوا من أكبر مشجعي عمليات ترجمة كتب العلوم العربية المنقولة عن العلوم اليونانية، حيث أصبحت مقصداً للعلماء والباحثين من أنحاء أوروبا، كان بينهم "ميخائيل سكوت"، أحد ناقلي فلسفة "ابن رشد " وبعض كتب "ابن سينا" إلى اللاتينية، ثم "روبرت اوف شستر"، الذي نقل كتاب الجبر للخوارزمي لأول مرة، وأكمل مع "هرمان الدلماطي" أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم. 

كان على رأس مترجمي العلوم العربية فى طليطلة الراهب "دومنجو غونصالفو"، أشهر رجال الترجمة في العصر الوسيط من العربية إلى اللاتينية عن طريق الأسبانية العامية.. بهذه الطريقة تُرجم بعض مؤلفات "الفارابي وابن سينا والغزالي".

كما أن "يوحنا" الإسباني ترجم من العربية إلى اللاتينية مؤلفات عديدة في الفلك والنجوم، من بينها بعض كتب الخوارزمي التي بفضلها انتقل الحساب الهندي والنظام العشري إلى أوروبا، كما انتقل إليها الصفر، وهو ترجمة لكلمة سنيا Sunya الهندية التي تعني "خال"... وكان "أدلارد أوف باث" ترجم إلى اللاتينية، التقاويم الفلكية التي وضعها "أبوالقاسم مسلمة المجريطي"، المبنية على تقاويم الخوارزمي، ونقل أيضاً عدداً كبيراً من رسائل الرياضية والفلكية فكان بذلك من طلائع المستعربين الإنجليز.

أما أكثر علماء طليطلة أثراً في الترجمة والنقل، فهو المترجم الإيطالي" جيراردو الكريموني"  الذي ترجم كتاب "المجسطي" إلى اللاتينية وحظيت هذه الترجمة بشهرة واسعة، كما ترجم أكثر من 70 كتاباً عربياً إلى اللاتينية في الفلك والجبر والحساب والطب.

من بين كبار المترجمين أيضاً ماركوس، شماس طليطلة (خادم الكنيسة)، الذي ترجم من العربية بعض مؤلفات جالينوس الطبية، والقرآن الكريم وبعض الكتب في علم التوحيد.

وفي عهد الملك ألفونسو العاشر الحكيم ترجمت مؤلفات كثيرة برعايته من العربية إلى اللاتينية، مثل كتاب كليلة ودمنة.
سيطر العرب على جزيرة صقلية في القرن التاسع وقد عرفت ازدهاراً عمرانياً وثقافياً عظيماً زمن الحكم العربي.. وعندما فتحها "النورمانديون" 1091م، تزامن ذلك مع الحملات الصليبية على المشرق التي دامت قرنين من الزمن، حافظ "النومانديون" على ذلك الازدهار وخصوصاً في  عهد "روجر الأول"، والذي كان يحب العرب وحضارتهم وعلومهم.. وابنه "روجز الثاني"، ثم "فردريك الثاني" أحد أباطرة الرومان (1212-1250م)  الذي كان واسع الثقافة يلم بتسع لغات منها العربية، ونشطت في عهده حركة الترجمة، فكلف العالم "ميخائيل سكوت"  بترجمة موجز لمؤلفات أرسطو من العربية إلى اللاتينية في علم الحياة وعلم الحيوان مع شرح لابن سينا. واستعان بالمترجم "يعقوب أناطولي" لنقل مؤلفات بطليموس، وابن رشد، كذلك اعتمد على المترجم الإسكتلندي "مايكل سكوت" الذي درس في إسبانيا ونقل الكثير من المؤلفات العربية من مكتبة طليطلة (توليدو).

ومن أبرز الأسماء التي أسهمت بنقل العلوم والفلسفة الإسلامية من العربية إلى اللاتينية وترجمتها الفيلسوف الإنجليزي أديلار الباثي. وأيضاً الفيلسوف الإسباني ريمون لول، الذي أتقن العربية وأقنع البابا بضرورة إنشاء مدارس باللغات العربية والآرامية والعبرية.

لعل أعظم ما قام به "فردريك الثاني" هو تأسيس جامعة" نابولي "عام 1224م، وهي أول جامعة خاصة في أوروبا، وقد زودها بمجموعة كبيرة من المخطوطات العربية، واستعملت مصنفات أرسطو وابن رشد التي أمر بترجمتها من العربية ككتب مدرسية أرسلت منها نسخ إلى جامعات فرنسا وبولونيا. 

ومن الكتب التي ترجمت في مجال الطب بقيت هذه الكتب مراجع للدراسات الطبية لأكثر من ستة قرون في أشهر جامعات أوروبا الطبية، كتاب "الحاوي" لمحمد بن زكريا الرازي عام 1279م، وهو أكبر موسوعة طبية عربية طبعت وظلت حتي القرن السابع عشر من أهم المراجع الطبية، وكذلك كتابه المنصوري المترجم إلى اللاتينية عام 1481م.

ويأتي بعد "الحاوي" في التأثير كتاب "القانون في الطب" لابن سينا، وكتاب "التصريف لمن عجز عن التأليف" لأبي قاسم الزهراوي. رائد علم الجراحة الذي طبع منه عشرات الطبعات باللاتينية، أيضا نذكر ابن النفيس وكتابه "شرح تشريح القانون".

وإذا انتقلنا إلى بقية الفروع العلمية نجد أن العرب لعبوا دوراً أساسياً في كل هذه الفروع كالرياضيات والطبيعة والكيمياء والفلك والتاريخ الطبيعي والفلاحة والزراعة.

ففي الرياضيات أدى إدخال الصفر والنظام العشري في الأعداد إلى ثورة في كل الدراسات العلمية.

أما في علم الفلك والأرصاد الفلكية، فقد أذهل الفلكيون العرب الباحثين بتنبؤهم بكسوف الشمس وخسوف القمر.. فكان التأثير من خلال كتب الخوارزمي والفرغاني والبتاني وأبو الوفاء البوزجاني، ونصير الدين الطوسي. 

لعب العلماء العرب أيضاً دوراً مهماً في تكوين علمي الكيمياء والفيزياء بالفكر الأوروبي، ومن أبرز العلماء "أبو علي الحسن بن الهيثم" وكتابه "المناظر" في البصريات، الذي ترجم إلى اللاتينية عام 1572م بعنوان Optica Tresaurs  Alhazini  Arabis" ".. وقد قام العلماء العرب باكتشافات هائلة في الكيمياء عرفها الأوروبيون من خلال ترجمتها إلى اللاتينية، ومنها اكتشاف الماء الملكي، وحمض الكبريتيك، وحمض الأزوتيك، ونترات الفضة وغيرها الكثير، وأشهر الكيميائيين الذي عرفهم الأوروبيون هو جابر بن حيان، المتوفي 776م

كان للعرب دور مهم في تكوين الفلسفة الأوروبية، من خلال كتب ابن رشد والفارابي وغيرهم.

وكان للعرب دور كبير في تكوين الصناعة الأوروبية وكصناعة السكر، الصابون، والورق، والعطور، وأنواع الحبر والألوان والأصباغ والأحجار الكريمة الاصطناعية، واستخراج الذهب والتعطير.

كما كان أثر العرب ظاهراً في صناعة السجاد والأقمشة الفاخرة والحريرية التي انتشرت انتشاراً هائلاً في إيطاليا، وانتقلت منها إلى فرنسا، وكذلك لعبة الشطرنج والبولو التي كانت في أصل لعبة كرة القدم، وألعاب الصيد.

وفي الزراعة كان لإنجازات العرب بإسبانيا أثرها الكبير في تقديم الزراعة بأوروبا في الفلاحة والنباتات الطبية وكتب "ابن البيطار" و"أبو جعفر الغافقي".

كان للعرب دورهم في الغناء والموسيقى باستعمال بعض الآلات الموسيقية العربية كالربابة والعود والناي والقيثارة، وغيرها.

أما في مجال البناء، فقد ظهر الأثر العربي أولاً في إسبانيا، ومنها انتقل إلى سائر البلاد الأوروبية، حيث ظهر في تشييد القصور والكنائس والأديرة والقناطر والزخرفة المعمارية، وعلى رأسها الزخرفة الكوفية، وأي المكتوبة بالخط الكوفي، الذي يعتبره كبار مؤرخى الفن أجمل خط عرفه الإنسان، والذى كان له تأثير عميق على الفنانين الأوروبيين الذين زينوا به أبواب وواجهات كثير من الكنائس في العصور الوسطى، وكذلك في زخرفة المفروشات.

أما في المجال الأدبى، في تصورات "دانتي" الدينية وكتابه "الكوميديا الإلهية"  وتأثره بالمصادر الإسلامية بما جاء عن المعراج النبوي، وما ورد في رسالة الغفران للمعري وبعض كتب ابن عربي.

وأخيرا لابد من ذكر التأثير الضخم لابن خلدون في الفكر الأوروبي الحديث. خصوصاً في ميدان علم الاجتماع ومناهج دراسة التاريخ والنظريات الاقتصادية التي تأثر بها "كارل ماركس" وغيره. وقد اعتبره المؤرخ البريطانى المشهور "آرنولد توينبي " أحد أعظم ما تركه العرب والمسلمون من تراثهم الخصيب للحضارة الإنسانية.

فالعلم "قوة ثورية ذات قدرة هائلة علي تشكيل حياة الإنسان وتقرير مستقبله وموقعه في الكون " كما يقول "برتراند راسل":
"إن الثقافة العربية الإسلامية كانت واسطة العقد بين العلوم والثقافات القديمة وبين النهضة الأوروبية؛ فالفكر العربي الإسلامي، والثقافة العربية والإسلامية، سلسلة متصلة الحلقات، امتدت من الحضارات القديمة، من مصرية، وآشورية، وبابلية، وصينية، إلى حضارة الإغريق والإسكندرية، إلى العصر الإسلامي الذى تأثر علماؤه بمن سبقهم، وأثروا بدروهم فيمن لحقهم من علماء النهضة الأوروبية الذين قرأوا أعمال العرب في كُتبهم المترجمة إلى اللغة اللاتينية واللغات الأوروبية.

فإن للترجمات العربية أثرا في نشأة  الحضارة الأوروبية، وفي حفظ وحماية وتطوير التراث الإنسانى. 

والعرب والمسلمون المعاصرون لا يقلون إبداعاً وعبقرية علمية عن بقية الشعوب المتقدمة حضارياً إذا ما أتيحت لهم المناخات والبيئات الحاضنة لتتفتح فيها إبداعاتهم العلمية، وفي طليعتها حرية البحث والتفكير والعيش الكريم، وأفضل الأمثلة على ذلك مشاركة الآف العلماء العرب والمسلمون المنتشرين في شتى مراكز البحوث العلمية والجامعات الغربية في صنع أقدار البشر بكل وجوهها وصوغ مستقبلها مثل "أحمد زويل" في الكيمياء الذي نال جائزة نوبل عام 1999م، عن اختراع ميكروسكوب يقوم بتصوير أشعة الليزر في زمن مقداره فمتوثانية.

"مصطفى السيد" عالم كيمياء مصري  حصل على "قلادة العلوم الوطنية الأمريكية" لإنجازاته في مجال النانو تكنولوجي وتطبيقه لهذه التكنولوجيا باستخدام مركبات الذهب الدقيقة في علاج مرض السرطان. 

"مجدي يعقوب" في جراحة القلب لقبه الإعلام البريطاني بملك القلوب ومنحته الملكة إليزابيث وسام الاستحقاق، ولقبته "السير".

"فاروق الباز"  في الفضاء كان أبرز علماء وكالة ناسا باستكشاف جولوجيا القمر واختيار مواقع الهبوط لبعثات أبولو، وتدريب رواد الفضاء على اختيار عينات مناسبة  تربة القمر وإحضارها إلى الأرض للتحليل والدراسة.

"مجدي بيومي" في علوم الكمبيوتر ابتكر دوائر إلكترونية تجعل الكمبيوتر يفكر بطريقة تشبه عقل الإنسان.

"إلهام فضالي" في علم الفيزياء التي حصلت على جائزة أفضل بحث في الفيزياء التطبيقية (التكنولوجيا الضوئية)   لسنة 2020 على مستوى العالم.

"شريف الصفتي" الذي ساهم اكتشافه في التخلص من الشعاع النووي في مدينة فوكوشيما بعد كارثة التسرب الإشعاعي من مفاعل فوكوشيما وما أهله لترشيح اليابان له لنيل جائزة نوبل في الكيمياء.

"هاني عازر" الذي صمم محطة قطارات برلين الأضخم في العالم وكرمته "أنجيلا ميركل" رئيس وزراء ألمانيا بوسام الجمهورية الألمانية.

"نجيب محفوظ" في الأدب حصل علي جائزة نوبل في الأدب عام 1988م  وغيرهم...

أخبار الساعة

الاكثر قراءة