مرت حركة الترجمة من الروسية إلى العربية والعكس بمراحل متباينة ما بين الصعود والهبوط، وتظل فترة الستينيات هى العصر الذهبي لحركة الترجمة بين اللغتين، وتم ذلك فى ظل تقارب وتعاون وثيق بين الحكومتين كان أحد نتائجه إنشاء أكاديمية الفنون فى مصر بكل معاهدها (البالية، السينما، المسرح،الكونسرفتوار .. إلخ)، كما قامت دار التقدم فى روسيا فى ظل الدعم الحكومي بترجمة مئات الكتب للغة العربية سواء فى الأدب أو العلوم المختلفة مستعينة بذلك بعدد كبير من المترجمين العرب من المقيمين في روسيا فى هذا الوقت، وكان أبرزهم ابن الفيوم د.أبو بكر يوسف عميد المترجمين العرب عن اللغة الروسية حيث قام بترجمة الأعمال الأدبية الروسية لأبرز الكتاب السوفيت منهم بوشكين، وجوركي،وجوجل، وشولوخوف، كما أشرف على إعادة طبع ترجمات المترجم الكبير سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي والتى كان الدروبي قد ترجمها عن اللغة الفرنسية، وبذل د. أبوبكر جهدا كبيرا فى إعادة روح دوستويفسكي فى هذه التى كانت قد وصلت إلينا عبر لغة ثالثة، ومع جهود د.أبو بكر يوسف التى أهلته للحصول على العضوية الشرفية لاتحاد كتاب روسيا الذى وصفه بشيخ المترجمين العرب حيث تألق د.أبو بكر يوسف في ترجمة الأعمال الكاملة للكاتب العظيم انطون تشيكوف التى وصلت لحد الأبهار في الترجمة وكأنها كتبت بالعربية، شهدت هذه المرحلة ترجمات غزيرة في كافة المجالات حيث تعرف القارئ العربي على الكتاب السوفيت ليصبح وجود الأدب الروسي المترجم للعربية أمرا اعتياديا في بيت كل مثقف، حيث التقط المبدعون فى السينما والمسرح هذه الترجمات وحولوها لأعمال فنية بعد أن لمسوا التشابه الكبير بين الروح المصرية والروسية فى العادات والتقاليد، كما اشتهرت القصص القصيرة لانطون تشيكوف وعرفت أيضا أعماله المسرحية التى عرضت على أغلب مسارح مصر ولاتزال.
على الجانب الآخر قام المستشرقون الروس بترجمة العديد من الأعمال المصرية إلى اللغة الروسية كان في مقدمتهم د.فاليريا كيربيتشينكو التى حصلت على الدكتوراة فى أدب يوسف إدريس، كما قامت بترجمة بعض أعمال نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم وبهاء طاهر ويوسف القعيد وغيرهم، وخلقت هذه الترجمات جيلا من الشباب الروسي المهتم بأداب الشرق والذى أصبح أكثر معرفة بالحياة المصرية، وكانت كيربيتشينكو تحرص على اللقاءات المتكررة بالمؤلفين المصريين أثناء ترجمة أعمالهم كما حرصت على فهم ما بين السطور لنقل روح النص إلى اللغة الروسية وهو ما أجادته بجدارة.
استفادت شعوب الاتحاد السوفيتي والشعوب العربية من العصر الذهبي لحركة الترجمة وامتلأت المكاتب هنا وهناك بالعديد من الترجمات التى ساهمت في مد جسور التواصل بين الثقافتين والشعبين، ولا تزال هذه الكتب المترجمة مصدرا حتى الآن للباحثين والقراء، ولكن كما يقولون تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن حيث مرت العلاقات الثنائية بحالة من الهبوط انعكست على التعاون الثقافى بما في ذلك حركة الترجمة، بل وازداد الأمر تعقيدا مع تفكك الاتحاد السوفيتي واختفاء مؤسسات ثقافية ودور نشر مثل التقدم مما أثر سلبا على عملية الترجمة، ومرت روسيا بمرحلة من التغيرات الاجتماعية العنيفة جعلتها تنشغل بشئونها الداخلية، واتسمت هذه المرحلة بتراجع الدور الحكومي في البلدين عن دعم حركة الترجمة وتصدر المشهد مجموعة من الفرسان المخلصين هنا وهناك.
من الجانب الروسي واصل المستشرقون الكتابة عن مصر مثل د. فلاديمير بيلياكوف، ود. جينادي جورياتشكين، والكسي فاسيليف وعندما زرت د. فاليريا كيربيتشينكو في منزلها قدمت لي قائمة بـ 27 عملا أدبيا قامت بترجمتهم للغة الروسية وكان أغلبهم لكتاب مصريين شاكية عدم وجود اهتمام من دور النشر الروسية لطباعتها، في حين أصر عدد من المترجمين والمهتمين بالشأن الروسي فى مصر بمواصلة عملية الترجمة كان في مقدمتهم د. أنور إبراهيم الذى يلقب بعميد المترجمين المصريين عن اللغة الروسية ببذل جهد كبير لمتابعة كل ما يكتب عن مصر فى روسيا وبفضله وصلت للمكتبة العربية أهم الأعمال التى كتبت عن مصر والوطن العربي في السنوات الأخيرة والتى منها على سبيل المثال:
- اليهود في الإمبراطورية العثمانية
- رحلة إلى ضفاف النيل المقدسة
- الروس في مصر(العلاقات المصرية الروسية منذ القرن الحادى عشر، الثقافة، والسياحة ، والعلاج)
- مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر، من أوراق السفير الروسي
- مصر من عبد الناصر إلى السادات
- دور روسيا في حرب أكتوبر
- مذكرات زوجة دوستويفسكي
- مذكرات ابنة دوستويفسكي
- مذكرات عشيقة دوستويفسكي
ود. أنور إبراهيم حاصل على وسام الشرف من روسيا الاتحادية عام 2005 لجهوده في دعم العلاقات الثقافية بين البلدين، وهو حاصل على الدكتوراه من روسيا في أدب دوستويفسكي، وهو المصري والعربي الوحيد الحائز على ميدالية دوستويفسكي والتى منحت له بمناسبة مرور 200 عام على ذكرى ميلاد الكاتب الكبير فيودور دوستويفسكي.
ونود هنا أن نشير إلى دور د.أنور ابراهيم في إعداد جيل من المترجمين لجهوده التطوعية والإنسانية، ولهذا أصبح أحد أساتذة هذا الجيل.
وفى إطار حركة الترجمة البعيدة عن الدعم الرسمي قامت المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم برئاسة مؤسسها الراحل د.حسين الشافعي بترجمة أكثر من 250 كتابا من اللغة الروسية إلى اللغة العربية وتميزت المؤسسة بتنوع الموضوعات وبتواصلها المباشر مع بعض المؤلفين الروس.
وضمت بعض هذه الأعمال مؤلفات الكتاب المعاصرين مثل زاخار بريليبين وهو يحظى بشهرة هائلة ووصل إلى الدور النهائي لجائزة الكتاب الوطني الأكثر مبيعا، وسيرجي لوكياننكو وهو كاتب في ادب الخيال، ورومان سنتشين ، ودينيس غوتسكو، وإلدار أبوزياروف.
كما برز اسم د. محمد نصر الجبالي كواحد من أبرز الأسماء فى الجيل الحالي هو استاذ اللغة الروسية وآدابها بكلية الألسن جامعة عين شمس، وتميز الجبالي بترجمة أعمال للكتاب الروس المعاصرين منهم رواية "زمن النساء" للكاتبة يلينا تشيجوفا ، وكتاب "دليل تاريخ مصر القديم والحرف والصناعات القديمة في مصر الفرعونية 2004"، وكتاب "حوار الحضارات روسيا والعالم الإسلامي2017" للكاتب أنور بك فاضليانوف، وكتاب "روسيا في الشرق الأوسط والأدنى" للمستشرق الكسي فاسيليف، كما قام بترجمة رواية "مذكرات الكاهن الأعظم إيفان سيرجيفيتش" للمؤلف دميتري ستريشنيف.
وكان للدكتور محمد نصر الجبالي تجربة رائدة في الترجمة العكسية في خطوة شجاعة حيث قام بترجمة راوية عزازيل للأديب المصري يوسف زيدان إلى اللغة الروسية عام 2013، وقرر التجربة في راوية النبطي لنفس الأديب عام 2015.
وترجم كتاب الهجرة الروسية إلى مصر للمستشرق فلاديمير بيلياكوف.
ويواصل الدكتور الجبالي إبداعه كمترجم متميز ، كما له دور بارز في تأسيس أكثر من قسم للغة الروسية بالجامعات المصرية.
وهناك أيضا فارس آخر هو المترجم أحمد صلاح الدين الذى قام بترجمة مجموعة من الكتب المتميزة منها كتاب "صلاة تشرنوبل" للكاتبة سفيتلانا أليكسييفيتش، وكتاب "الأب سرجي" ليف تالستوى، و كتاب "مراسلات تالستوى وغاندي".. وغيرهم.
ويبرز فارس آخر مختلف قرر الاستقالة من وظيفته والتفرغ للترجمة من الروسية فقط وهو المترجم يوسف نبيل الذى ينتقي أعمالا متميزة للكتاب الروس حيث أهدى المكتبة العربية مجموعة هائلة من الترجمات منها كتاب "أزمتنا المعاصرة" دراسة اجتماعية ثقافية للمؤلف بيتريم سوروكين، وكتاب "صوفيا بتروفنا" للمؤلفة ليديا تشوكوفسكايا، وكتاب "قبل شروق الشمس" للمؤلف ميخائيل زوشينكو وغيرهم.
وفيما يتعلق بترجمة أدب الطفل ساهمت المترجمة د. سامية توفيق بكم متميز من الاعمال عوضتنا إلى حد كبير عن توقف ترجمة أدب الطفل التى كانت غزيرة في الستينيات، وقد ترجمت الدكتورة سامية توفيق مجموعة من الاعمال الأدبية للطفل وكان لها تجربة برعاية الجمعية المصرية لخريجي الجامعات الروسية والسوفيتية والمؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم عندما ترجمت حكايات الوسادة تأليف الكاتبة ناتالي كورتوج عام 2012 ولنفس الكاتبة ترجمت ايضا لها "الجيران الظرفاء"، وترجمت حكايات روسية للأطفال عام 2020، وكتاب "الحكايات الشعبية الروسية ماشا والدب عام 2021"، وكتاب الفنجان الأزرق "لاركادي جيدار عام 2024"، وكتاب "مغامرات نيزنايكا وأصدقائه" لنيكولاي نوسوف، وحاليا تترجم د. سامية توفيق كتاب 30 مغامرة شيقة.
الأمر الذى لاشك فيه أن تفعيل حركة الترجمة بين البلدين أصبح أمرا على قدر كبير من الأهمية فهو من ناحية استكمال عملية البناء للرصيد الهائل الذى تم فى العصر الذهبي في الستينيات لحركة الترجمة.
ومن ناحية أخرى التعرف على شباب المبدعين غير المعروفين لنا لأننا كما قال كاتبنا الكبير الراحل الدكتور جابر عصفور إننا توقفنا عند تولستوى و دوستويفسكي وبوشكين ولا نعرف الكتاب الجدد، ولكنى أتفاءل في تعزيز حركة الترجمة وخاصة بعد زيارة وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو إلى موسكو مؤخرا وفتح مجال الحوار للتعاون المشترك في المجالات الثقافية المختلفة بعد أن كان تبادل زيارات وزراء الثقافة في البلدين قد توقف إلى ما يقرب من 40 عاما حتى قامت الدكتورة نيفين الكيلاني وزيرة الثقافة السابقة بزيارة موسكو العام الماضي في احتفال بختام عام التعاون الإنساني بين البلدين، والذى جاء بمبادرة من الرئيسين عبد الفتاح السيسي وفلاديمير بوتين، واتطلع بعد زيارة الوزير الحالي إلى توقيع بروتوكول جديد للتعاون الثقافي بين البلدين تكون الترجمة فيه أحد بنوده الرئيسية لتفعيل حركة الترجمة على المستوى المؤسسي وبدعم حكومي حتى نصل لأرقام كبيرة في ترجمة العناوين الهامة من اللغة الروسية إلى العربية والعكس، ولن أتوقف عند الأدباء الروس المعاصرين فقط بل اتطلع إلى الترجمة العلمية لمعرفة آخر ما وصلت إليه روسيا في مجال التكنولوجيا والتطور الصناعي وخاصة ونحن نبني الآن مشروع الضبعة لإنتاج الطاقة النووية السلمية كما نحن على أبواب توقيع اتفاقية بناء المنطقة الصناعية الروسية في منطقة القناة، وهو ما يعني قيام حركة تصنيع روسية بمشاركة مصرية كبيرة مما يفرض أهمية الترجمة العلمية، وأنني أناشد من خلال صفحات الهلال المجلة العريقة أن يحرص المسئولون في كل من البلدين على توقيع بروتوكول تعاون جديد يعزز حركة الترجمة ليتيح للشعبين التعرف أكثر على الثقافة والعلوم فى مصر وروسيا.