ما إن شرعت في الكتابة عن أشهر المترجمين العرب المعاصرين وأثرهم في الحراك الثقافي الذي عايشناه منذ ما يربو على القرنين، جال بخاطري ذلك اليوم الذي مكثته بمكتبة قصر ثقافة بنها، عاكفا على سِفرٍ، هو من الأهمية بمكان، وهو كتاب «حضارة العرب» لجوستاف لوبون، الذي تناول فيه فضل الحضارة الإسلامية بلغتها العربية على الغرب جميعا، وأبرز فيه دور الترجمة التي قام بها ريموند وغيره في نقل علوم العرب، ما كان له من أثر في بناء الحضارة الغربية الحديثة، ورغم عدم إلمامي الكبير باللغة الفرنسية، إلا أنِّي سعدت بقراءة، لا أخالني كنت سأحظى بها إذا ما طالعت الكتاب بلغة كاتبه، وذلك لأن الترجمة العربية كانت لكاتب وأديب ومترجم عربي أوتي من البيان ناصيته، وقد هضم عدة ثقافات يستمد منها زاده المعرفي، فأخرج لنا دُررًا ندر ما يجود بها غيره، فأظنه قد وصل بقارئه إلى درجة من التوحد والتفاعل مع النص أكثر مما يطمح الكاتب الأصلي، وكانت الترجمة للمفكر الفلسطيني الكبير عادل زُعيتر (1895- 1957).
وبداية يجب أن نفخر بتلك المرحلة التي وصل إليها المترجمون العرب في العصر الحديث والتي كانت امتدادا لمدرسة عربية عريقة في الترجمة كانت لها أثرها ولا يزال على الفكر العالمي، قديما وحديثا، فلا ننسى ترجمة عبدالله بن المقفع لكتاب كليلة ودمنة (حوالي 750 للميلاد) وإهداءه إلى الخليفة أبي جعفر المنصور ، وكانت النسخة الثالثة لهذا الكتاب بعد السنسكريتية والفارسية، إلا أن النسختين الأولى والثانية قد فُرض عليهما الموات، ولم تبق إلا النسخة العربية والتي لولاها لخسرت البشرية هذا العمل الأدبي والسياسي العظيم، فتبارت أقلام الناقلة بشتى لغات الأرض يترجمونه إلى لغاتهم، وربما كانت المدرسة العربية في الترجمة هي الأعرق من حيث تأثيرها وامتدادها، حيث بدأت مع النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها شهدت ذروتها وأوتيت ثمارها بشكل كبير في عصر المأمون (توفي 218 هـ) - وتحديدا في بيت الحكمة في بغداد، يقول ابن النديم في الفهرست: "لما استظهر [غلب] المأمون على ملك الروم كتب إليه يسأله الإذن في إنفاذ ما يختار من العلوم القديمة المخزونة المدَّخرة ببلد الروم، فأجاب إلى ذلك بعد امتناع، فأخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج ابن مطر وابن البطريق وسلم صاحب بيت الحكمة وغيرهم، فأخذوا مما وجدوا ما اختاروا، فلما حملوا إليه أمرهم بنقله، فنقل" (تاريخ الأدب العربي: العصر العباسي الأول - شوقي ضيف).
وكان المأمون يقدم للمترجمين، أمثال حنين بن إسحق، ما يساوي وزن الكتب التي يقومون بترجمتها ذهباً. وهكذا تم تأسيس دار الحكمة في بغداد كأول مؤسسة تعنى بشؤون الترجمة في التاريخ، ولمع نجم المترجمين المحترفين أمثال ثابت بن قرة وحنين بن إسحق وابنه إسحق بن حنين. قام المترجمون في ذلك العصر بنقل علوم اليونان إلى اللغة العربية، بما في ذلك كافة كتب أرسطو، وقد أعيدت ترجمة بعض هذه الكتب إلى اليونانية من العربية بعد ضياع نصها الأصلي، أي أن ترجمتها إلى العربية قد حفظتها من الاندثار، والمنصفون من كتاب الغرب أنفسهم يشهدون بفضل العرب المتقدمين على العالم والغرب خاصة في هذا الجانب.
وشهد العصر العباسي كذلك بداية النظر إلى الترجمة كعلم قائم بذاته، ويعود الفضل في ذلك إلى الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر)، الذي وضع أول كتاب عربي في علوم الترجمة وأصولها، وأسماه "آراء الجاحظ"، وكان ذلك في القرن التاسع الميلادي. أظهر فيه معرفةً عميقة بعلم الترجمة، وقدم نصائح وإرشادات للمترجمين لا تزال صالحة إلى يومنا هذا.
وإبان الضعف الذي اعترى الدولة الإسلامية بالعصر العباسي الثاني شهدت حركة الترجمة ضعفاً كبيراً امتد إلى العصر العثماني، حيث شجع العثمانيون على استخدام اللغة التركية بدلاً عن العربية، إلى أن قام محمد علي باشا بإحياء حركة الترجمة إلى اللغة العربية في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ما لعب دوراً مهما في نهضة العلوم والآداب في مصر والعالم العربي فأسس محمد علي دار الألسن عام 1835 كمؤسسة تعنى بشؤون الترجمة، وقد تولى الإشراف عليها الشيخ رفاعة الطهطاوي. ثم أتبع ذلك بتأسيس قلم للترجمة الرسمية عام 1841، وكان ذلك بداية عصر "الترجمة القانونية" الحديثة في العالم العربي.
ويجب أن نفخر بتلك المرحلة التي وصل إليها المترجمون العرب في العصر الحديث والتي كانت امتدادا لمدرسة عربية عريقة في الترجمة كانت لها أثرها ولا يزال على الفكر العالمي.
ومن بين أهم أعلام الترجمة العرب في العصر الحديث، نجد سليمان البستاني (1856-1925)، الذي اشتهر بالترجمة عن أكثر من نص في آن معاً، حيث ترجم الإلياذة معتمداً على نصها في اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية واليونانية والإيطالية معاً، وقد عمل على ترجمتها لمدة ثماني سنوات. اشتهر أيضاً سلم قبعين (1870-1951) بترجماته عن اللغة الروسية، ومن بينها كتب تولستوي.
وجدير بالذكر أن كبار الأدباء العرب في العصر الحديث قد حظيت الترجمة بنصيب كبير من أعمالهم أمثال: أحمد حسن الزيات ود.طه حسين وتوفيق الحكيم ومصطفى لطفي المنفلوطي، واشتهرت مي زيادة بترجمة كتاب "الحب الأماني، من أوراق غريب" عن الألمانية، وقد صدر في اللغة العربية باسم "ابتسامات ودموع".
ومن أبرز أعلام الترجمة في العصر الحديث على سبيل المثال لا الحصر جبرا إبراهيم جبرا، وهو الناقد والمؤلف والرسام والمترجم الفلسطيني، وُلد في عام 1920م في بيت لحم، له أكثر من 70 عملا أدبيا مختلفا، من روايات ومؤلفات ومواد مترجمة، كما تُرجمت أعماله إلى أكثر من 12 لغة، قدم أعمالًا كثيرة للقارئ العربي، ونذكر من أعماله الروائية: "صراخ في ليل طويل"، و"رواية السفينة"، و"عالم بلا خرائط"، و"شارع الأميرات"، و"صيادون في الشارع (بالإنجليزية)"، و"الغرف الأخرى"، وغيرها. كما عرَّف القارئ العربي على أبرز الكتاب الغربيين، ويعد جبرا من أفضل من ترجم لشكسبير، حيث حافظ على روعة النص وجماله، مع احتفاظه بالنص الأصلي ونقله بلغة عربية رائعة، ولعل ترجماته لشكسبير تُعد من أبرز وأهم الترجمات العربية للكاتب البريطاني، ومن أبرز أعماله المترجمة: هاملت - ماكبث - الملك لير - عطيل - العاصفة لشكسبير ، وبرج بابل - أندريه مارو، والأمير السعيد - أوسكار وايلد، وفي انتظار غودو لصامويل بيكيت، والصخب والعنف لوليام فوكنر، وما قبل الفلسفة - هنري فرانكفورت.
ولا نغفل عميد المترجمين محمد العناني ويُلقب كذلك بـ "شيخ المترجمين المصريين". هو المترجم والكاتب المسرحي والناقد والأكاديمي المصري، وُلد في رشيد بمحافظة البحيرة عام 1939م، له تاريخ حافل من العطاء، حيث صدر له أكثر من 130 كتابًا تتنوع ما بين الترجمات المهمة، والأعمال الإبداعية، ويضاف إليها مسيرة حافلة في الترجمة وعلومها وفنونها ومهاراتها، من خلال كتب متخصصة في علم الترجمة تحتوي على نظريات لغوية، من خلال تسليط الضوء على علوم اللغة التطبيقية، ودراسة أساسيات الترجمة، ومن أهم أعماله من المؤلفات العلمية في الترجمة والنقد الأدبي: فن الترجمة - فن الكوميديا - المسرح والشعر - الترجمة الأدبية بين النظرية والتطبيق - النقد التحليلي - الأدب وفنونه - فن الأدب والحياة - التيارات المعاصرة في الثقافة العربية - قضايا الأدب الحديث - المصطلحات الأدبية الحديثة.
ومن إسهاماته في الترجمات والأدب العالمي إلى اللغة العربية: روميو وجولييت ــ يوليوس قيصر – ثلاثة نصوص من المسرح الإنجليزي – الفردوس المفقود – ريتشارد الثاني – تاجر البندقية – عيد ميلاد جديد – حلم ليلة صيف – الملك لير – هنري الثامن.
ومن أعلام الترجمة كذلك د.خليل الشيخ أستاذ الأدب الحديث في جامعة اليرموك بالأردن وهو من القلائل الذين قدموا ترجمات متقنة لأدب فرانز كافكا.
وأيضا أبو العيد دودو الذي أثرى الثقافة العربية بترجماته للعديد من القصص التراثية الألمانية وما كتبه الرحالة الألمان عن المجتمع الجزائري قبل الاحتلال الفرنسي، من بينها القصة الأولى من ثلاثية (مالتسان): التي كتبها عن الجزائر في القرن التاسع عشر، والجزائر في مؤلفات الرحالين الألمان وغيرهما.
وكذلك المترجم الثبت د. مصطفى ماهر الذي نقل للقارئ العربي ذخائر الثقافة الألمانية وكان لديه لغته الخاصة في الترجمة بمفرداتها التي عبرت تمامًا عن فكر كتابها، ومنها زيارة السيدة العجوز لفريدريش دورينمات، نزوة العاشق ليوهان فولفجانج جوته.
ومن ينسى د.علي المنوفي وهو أحد أهم المفكرين والمترجمين الذين أسهموا في مد جسور الحوار بين الثقافتين العربية والإسبانية، حيث خلف رصيدًا كبيرًا نحو 60 كتابًا من كنوز الأدب الإسباني إلى العربية، منها: تاريخ الشعر الإسباني خلال القرن العشرين: من الحداثة حتى الوقت الحاضر، والفن الطليطلي الإسلامي والمدجن، وغيرهما.
والمترجم السوري الرائد سامي الدروبي الذي ترجم الأعمال الكاملة لدستويفسكي باللغة العربية، ولد في مدينة حمص بسوريا عام 1921، .ولم تقتصر ترجماته على الأدب فقط، ولكنها تنوعت في المجالات المختلفة، حيث قام بترجمة كتاب "الضحك" لهنري برجسون، و"المذهب المادي والثورة" لجان بول سارتر، و "مدخل إلى علم السياسة" لموريس دوفرجيه، و"معذبو الأرض" لفرانز فانون، وغيرها".
ومن منا يستطيع أن نغفل أنيس عبيد ودوره في ترجمة الأفلام الأجنبية للعربية، ليصبح بعد ذلك أهم رواد ترجمة الأفلام في مصر، حيث ولد عام 1909، وبدأ مشواره بترجمة الأفلام الطويلة من فيلم "روميو وجولييت"، وكان يعتمد على أدوات بدائية الصنع..
ختاما، حاولت قدر جهدي أن يكون مقالي نافذة على أعلام المترجمين وهم كُثر، وما تغافلت عن أحد ذي قيمة عن عمد، إلا ليكون شاملا لصنوف توجهاتهم وبيئاتهم، فمدرسة الترجمة العربية المعاصرة كانت وما زالت تُثمر، تزخر بها قامات كأبي عثمان الدمشقي وأحمد الصمعي وإبراهيم عوض وبثينة الإبراهيم وبندر الحربي وتحسين رزاق عزيز وجبر ضومط وحسن المطروشي وخالد أبو اليزيد البلتاجي وخليل الرز ورائد الجشي ورمسيس عوض وزياد بوعقل وسعيد البيشاوي وشحادة بن عبد الله اليازجي وشكري المبخوت وطلعت الشايب وعبدالتواب يوسف وعبدالمقصود عبدالكريم وعبدالواحد لؤلؤة وعيسى علي وعيسى مخلوف وغائب طعمة فرمان ومارك جمال وماري طوق غوش
محمد إبراهيم الفزاري ومحمد مندور ويمنى طريف الخولي ويوسف إليان سركيس ويوسف حلاق.