ينساب صوت فيروز فيثير الشجون، تغني بصوتها الشجي: «بتذكرك كل ما تيجي لتغيم.. وجهك بيذكر بالخريف.. بترجع لى كل ما الدنى بدها تعتم.. مثل الهوا اللى مبلش على الخفيف.. القصة مش طقس يا حبيبي هاى قصة ماض كان عنيف» .. تغني فيروز فترسم الصورة كاملة، ذكريات وشجون، حزن نبيل، لا أعرف لماذا لا يحب بعضهم الخريف، فصل مظلوم بيننا، مع أنه أمتع وأجمل الفصول.
قد يبدو من السطور أنى سأسترسل في الخريف ومحبته ومتعته، وهو في الحقيقة يستحق وأكثر لكن ليس هذا بيت القصيد، حقيقى أن كل ما حولنا يبعث على الشجن الخريفي، دموع غزة.. حزن لبنان.. أنين القدس المحتلة، بكاء الأطفال وعويل الثكالى، وأنين الشيوخ، وقهر الرجال، وتوحش جيش الاحتلال، يبدو الأمر مثيرا للحزن ويحمل سطور النهاية، ولكن كل ما نعتبره نهاية ما هو في باطنه إلا بداية، وما الخريف إلا سطر يكتب من جديد بداية مختلفة.
لا تعتقد أن الأمر يحمل فلسفة، ولكنه الواقع، خريفنا يحمل بشريات البداية من جديد، فصل من فصول الحياة معبق بسحر الأمل والنجاة، الخريف جسر راحة جميل بين وهج الصيف وحرارته الملعونة وزمهرير الشتاء وبرودته القاسية، التقاط الأنفاس لإعادة ترتيب الحسابات.
الخريف فاصل شجى يحمل لنا بين طياته الحنين والحزن النبيل، واليقين أن البداية آتية من جديد لا ريب في ذلك، وأوراق الشجر التي ذبلت وسقطت ستزهر بدلا منها آلاف الأوراق، لا تنخدع في استحكام الحلقات التي ضاقت حولنا، فما الاستحكام إلا بداية للانفراج.
لا تفزع من قوة العدو الغاشمة وضرباته المتوحشة ضد الأبرياء في لبنان وغزة، المؤكد أنه كلما زاد توحشه اقتربت نهايته وكلما سفك مزيدا من الدماء كتب بها سطر جديد في كتاب نهايته المحتومة.
التاريخ حافل وصفحاته تحكى الكثير وما تتار العصر إلا كمثل تتار جنكيز خان، سطر عابر سيمر حتى وإن سقط آلاف الشهداء.
دعك من هذا ولنعتصم بحضارتنا وثقافتنا وهويتنا، فمن اعتصم بهويته ووطنه ما ضل وما خاب، رسالة مصر الخالدة خلال السنوات الماضية الحفاظ على الدول والجيوش الوطنية، هذا سبيل الخلاص، صوت مصر الأبي لا يخفت أبدا يستمسك بالعروة الوثقى ويعرف أنه لا انفصام لها، وعروتنا الوثقى وطننا الحبيب، ودعم أشقائنا.
لم أذهب بعيدا فالأمر كله مرتبط، وسطوره متصلة، لا مكان لليأس عند أمم عريقة وأوطان خالدة، وحديثنا عن لبنان العروبة، وطن الثقافة والحضارة يحمل شجون الخريف، نقولها من القاهرة إلى بيروت سلام على البلاد الجميلة، رمز المحبة والعطر الفواح، بلاد جبال الأرز وصوت فيروز والأخوين رحباني، بلاد جبران، ومطران، وزيدان، حاضرة الأدب والشعر والصحافة والغناء والمسرح.
ما بين القاهرة وبيروت روح واحدة، فيروز الصباح وأم كلثوم المساء، اتصال وجدانى إبداعي تشكلت خيوطه ونسجت بأيدى مبدعين نقلوا إبداعهم من لبنان ووجدوا في مصر الملاذ والأمان، كما كانت عبر العصور تاريخا متجذرا، نفخر أننا في دار الهلال جزء منه بفضل لبنانى أصيل سبق عصره وكان مبدعا في أوانه.
محبة لبنان لا تنقطع، ولها في عنق كل عربى دين وواجب، فهو البلد الذي انطلق منه شعاع الانفتاح الثقافي على العالم، رواد المسرح الحديث والصحافة المبدعة، تاريخ الإبداع العربى في جزء كبير منه يكتب عن القاهرة وبيروت، ومن ورائها بغداد ودمشق، حواضر العرب الزاهرة.
خريفنا يحمل أمل البداية من جديد، لا ننكر أن الحزن عميق، ولكن ما بعد الضيق إلا الفرج هكذا تعلمنا ثقافتنا وهويتنا، وتراثنا العربي الأصيل، "ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكنت أظن أنها لا تفرج ،" وإذا كان لبنان يمر بظرف دقيق، فالمؤكد أنه سينهض من جديد ليعود حاضرة ثقافية بهية يشع نورها الإبداعي وينير جنبات العالم بأسره.
وفى كل الأحوال المساندة المصرية للأشقاء حاضرة وبقوة، ودعم القيادة المصرية التي تدرك قيمة لبنان الشقيق ودوره الثقافي والحضاري والتاريخي لا ينقطع، وكعادتها مع الأشقاء تساند القاهرة جميع العواصم العربية، لا تبخل ولا تمن، تلعب دورها ولا تبتغي من وراء ذلك جزاء ولا شكورا.
هذه تحية معبقة برائحة الخريف وطقسه الجميل إلى لبنان الشقيق، تحية محبة وامتنان وعرفان من القاهرة إلى بيروت سلام.