حتى نتفهم شخصية ما ونضع أيدينا على سماتها يتعين أن نحيط أولا بالبيئة التى نشأت فيها والعصر الذى عاشت فيه.. هكذا تعلمت على يد الدكتور حامد ربيع فى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية خلال عقد الستينيات الذى أقيمت فيه هذه الكلية.. وما تعلمته كان صحيحا جدا لأن البيئة التى ننشأ فيها تؤثر بعمق فى صياغة سمات شخصياتنا، وبالتالى قسمات سلوكنا ونهج تفكيرنا.. وذات الناشئ ينطبق على العصر الذى نعيش فيه.. فهو يترك بصماته بقوة علينا وعلى مواقفنا واختياراتنا أيضا فى الحياة
وأنا مثال واضح لسلامة هذه القاعدة، حيث كان للبيئة التى نشأت فيها والعصر الذى عشت فيه تأثيره القوى والواسع فى صياغة شخصيتى ورسم مسار حياتى وانتقاء انحيازاتى الفكرية والسياسية، بل وتحديد خياراتى الدراسية والمهنية أيضا.
لقد نشأت فى أسرة متوسطة جذورها ريفية ولكنها تعيش فى القاهرة.. الأب فيها كان وفدى الهوى، مهتما بمتابعة الشأن العام، حريصا على قراءة الصحف اليومية ومتابعة نشرات الأخبار فى الإذاعة، وقد ورثت منه الشغف سواء بالشأن العام أو بالصحافة.. ومنذ الصغر وأنا أشاركه نقاشاته العامة مع أصدقائه، ولعل ذلك كان أحد الأسباب الأساسية لاختيارى الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية الوليدة خاصة أن ثلاثة من أصدقاء العمر وزملاء الدراسة فى المرحلة الثانوية شاركونى هذا الاختيار أيضا وهم الدكتور أحمد يوسف والدكتور أسامة الغزالى حرب والدكتور عثمان محمد عثمان .. ومنذ الصغر كذلك وأنا أقرأ مع مجلات الأطفال خاصة مجله سمير، الصحف اليومية التى كان يتابعها أبى وأهمها المصرى والأخبار..
وقد حفزنى ذلك على محاكاتها وإعداد مجلات وأنا فى مرحلة الدراسة الابتدائية، اخترت لها أحيانا اسم الأمل وأحيانا أخرى اسم النور.. فى البداية كنت أكتبها بخط يدى، وفيما بعد استعنت بأحد أصدقاء والدى لصقها على الآلة الكاتبة وإعداد نسخ منها.. وكنت أتولى كتابة موادها وإخراجها بمفردى.. وقد حظيت هذه الأعمال بترحيب من مدرس اللغة العربية الذى كان يخصص الحصة شهريا لاستعراض العدد الجديد الذى أعده ومناقشته مع زملائى، وكان ذلك باعثا للكثير من الفخر والسعادة لى وقتها، ومحفزا لى على الاستمرارً فى الكتابة
وهكذا كان لأبى دور كبير فى صياغة اهتمامى بالشأن العام مبكرا وأنا فى مرحلة الصبا، وزرع الشغف بالصحافة داخلى مبكرا أيضا.. وإن كان يتطلع لأن أكون واحدا من الساسة ولذلك كان يرغب فى أن التحق بكلية الحقوق لأنها الكلية التى تخرج منها ساسة زمانه، ولكنه لم يعترض على اختيارى كلية الاقتصاد والعلوم السياسية الوليدة بعد الدراسة الثانوية، ربما وساعدنى على أن أكون مستقبلا واحدا من الساسة كما كان يرغب لى.. كما أنه لم يلومني عندما انضممت لمنظمة الشباب وانخرط فى أنشطتها مثل بعض الآباء الذين يعتبرون هذا النشاط السياسى يعطل عن التركيز فى المذاكرة وتلقى العلم، وأيضاً لم يؤاخذنى عندما تعرضت لسلب الحرية مرتين فى حياته بسبب الانخراط فى العمل السياسى غير الرسمى.. ويبدو أنه كان مقتنعا أننى كائن سياسى وتمنى أن يكون لى دور سياسى مثل الساسة الذين يتابع أخبارهم فى الصحف.. ولكنه بالتأكيد لم يفكر أن أمتهن مهنة البحث عن المتاعب رغم تشجيعه لى فى ممارستها كهواية جيدة، ولم يعتبرها وهو المتابع للصحف هواية تعطلنى عن الدراسة أبدا، بل كان يبدى سعادته كلما أحرزت نجاحا فى مجال الكتابة بعد خوض بعض المنافسات فيها منذ مرحلة الدراسة الإعدادية. وحتى انخرطت فى العمل الصحفى وهو على قيد الحياة.
هذا عن البيئة التى نشأت فيها أما العصر الذى عشت فيه أيام الطفولة والصبا والشباب فقد كان هو عصر ثورة يوليو وزعيمها جمال عبدالناصر.. عصر الاستقلال والعدالة الاجتماعية والمساواة والنهضة المصرية والعربية.. لقد بدأ وعيى يتشكل منذ العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦ علينا بعد تأميم قناة السويس.. كنت فى سنة رابعة ابتدائى.. وبعد الانتصار السياسى الذى حققناه على الأعداء الثلاثة.. بريطانيا وفرنسا وإسرائيل.. وصلت عنان السماء طموحاتنا الوطنية نحن أبناء جيلى الذين ولدوا فى النصف الثانى من أربعينيات القرن الماضى.. كنّا نطمح فى أن تصبح مصر وطنا عظيما كما وعدنا عبدالناصر.. تظله المساواة والعدالة الاجتماعية.. وقد استقبل عقلى هذه الوعود وآمن بها وتبناها ودافع عنها ودفع من حربته ثمنا لإقرارها.. فأنا نشأت فى أسرة تنتمى للطبقة المتوسطة التى شهدت فى عصر عبدالناصر صعودا كبيرا، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وتعليميا، لذلك كان طبيعيا أن يتأثر العقل بما انتهجه ناصر خلال عصره.. وساعد على ذلك أننى التحقت بالجامعة فى وقت شهد ازدهارا للأفكار الاشتراكية واليسارية، وكانت ثمة فرصة متاحة لدراسة تلك الأفكار فى إطار الأنشطةَ الثقافية فى الجامعة.. وزادت الفرصة بالانضمام لمنظمة الشباب والتى كان لها فضل إعداد كوادر للبلاد فى شتى المجالات لعدة أجيال حتى بعد حلها فى أعقاب مظاهرات الطلبة احتجاجا على أحكام قادة الطيران التى اعتبرت ضعيفة بالقياس لحجم هزيمة يونيو.
وهكذا كان لناصر وعصره تأثير كبير علىّ فكريا وسياسيا، حينما دفعنى للاتجاه يسارا و تبنى العدالة الاجتماعية وتحمل تبعات ذلك وهى لم تكن بسيطة أو محدودة، لأن تبنيها كان عن قناعة وإيمان بأهميتها للأوطان والشعوب.. إننى بعد هزيمة يونيو بدأ يتكشف لى ما جعلنى أنهج نهجا نقديا تجاه تجربة عبدالناصر يرصد الأخطاء والسلبيات بحثا عن علاج وتصحيح لها، ولكن ظلت العدالة الاجتماعية التى غرسها ناصر فى نفوس أبناء جيلى أحد طموحاتى الأهم التى أنشدها لوطنى وأرجو أن تكون الهدف الأول والأساسى للعمل الوطنى فى كل زمان وكل وقت وكل مرحلة.. صحيح أن مفهوم العدالة الاجتماعية مطروح فكريا قبل عبدالناصر، لكن تبنيه لهذا المفهوم والترويج له بعد أن تولى قيادة البلاد كان له تأثيره علي وأبناء جيلى الذى استفاد من تطبيقه بشكل مباشر فى التعليم الجامعى المجاني وتوفر عمل بعد التخرج من الجامعة..ولهذا التاثير تبنيت إقامة العدالة الاجتماعية فى وطنى لأنه يصبح عظيما بها ولن ينهض بدونها.
وهكذا أنا مدين لأبى بعشقى للصحافة ومدين لناصر بإيمانى بالعدالة الاجتماعية.