الأحد 29 يونيو 2025

مقالات

مصر دولة المؤسسات الأولى في العالم القديم

  • 28-6-2025 | 15:16
طباعة

قدمت مصر القديمة عبر مراحل تاريخها نموذجًا فريدًا لما يمكن اعتباره دولة المؤسسات، فمنذ مرحلة التكوين اعتمدت الدولة على حق المواطنة بين جميع الأفراد، وليس صحيحًا ما يتداوله البعض من أن الشكل الهرمي يمثل طبقات المجتمع، وأن الأفراد كانوا يعيشون أذلّةً في قاع المجتمع، بل العكس هو الصحيح؛ فالحاكم كان يحترم أتباعه ويعتبرهم (رمث. إف) أي رجاله أو ناسه، وهو ما يُسمى الآن "العِزوة".

معبد إدفو

تحتمس الأول

تحتمس الثالث

ومن أمثلة التراحم في المجتمع قيام أحد ملوك الأسرة الخامسة بالاعتذار لأحد تابعيه لأنه وخزه بصولجانه دون قصد.

في نهاية الدولة القديمة، شهدت مصر أول ثورة اجتماعية في التاريخ القديم، ثورة قام بها المصريون بعد استشراء الفساد في كل الأرجاء، ولكنهم حافظوا على قيمهم الأساسية، فلم نسمع بتخريب معبد أو تدمير منشأة، بل كان الوطن وحمايته هما الأساس الذي قامت عليه الثورة.

وخرج حينها الفلاح الفصيح ليقدّم نموذجًا لشخص يحافظ على دولته، فيقول "خون أنبو"، فلاح "غيط الملح"، في خطاباته إلى الملك:

"أليس العار أن الميزان مائل، وأن من يمسك به لا يصونه؟"

هو هنا يرغب من الحاكم أن يكون منصفًا في تعاملاته، ليس من أجله فقط، ولكن من أجل الحفاظ على كيان الدولة.

ومن نص الحكيم إيبّور نجد السعي الدائم إلى الحفاظ على هوية مصر ومكانتها، وحين يشير إلى ما أصاب البلاد من تدمير، يسأل عن الإصلاح، وليس النقد من أجل النقد، بل من أجل الإصلاح.

حين جاء الهكسوس كأول تدخل أجنبي صريح في الشأن المصري، لم يقف المصريون مكتوفي الأيدي، بل وقفوا مع حكام طيبة وساعدوهم حتى تمكنوا من الخروج الآمن من هذه المرحلة العصيبة.

بعد الهكسوس، دخلت مصر مرحلة الإمبراطورية الكبرى التي تحدثت عنها لوحة جبل البركل التي كتبها تحتمس الأول، وجددها حفيده الأشهر تحتمس الثالث، ويقول النص على لسان الملك: "حدود ملكي من قرن الأرض إلى المياه المعكوسة"، ويقصد بها المنطقة من أقصى جنوب مصر حتى نهر الفرات.

وكان الملك المصري حين يدخل أي بلد ينقل إليها عظمة مصر من خلال الكتبة والمعلمين المصريين، وزاد بعض الملوك على ذلك بإحضار أبناء بعض حكام تلك الدول ليتعلموا في مصر ويعيشوا في خيرها، فيعودوا محمّلين بآداب وقيم مصر.

في الأسرة العشرين، وتحديدًا في العام التاسع والعشرين من حكم رمسيس الثالث، وحين شعر العمال المصريون بضياع حقوقهم، توقّفوا عن العمل وأضربوا للمرة الأولى في تاريخ العالم القديم، ولكن دون تدمير، بل على العكس، قاموا بالعمل سريعًا، ولم يتوقفوا؛ حيث كان همهم الأول هو عرض المطلب.

ومع نهاية الدولة الحديثة، وما واجهته البلاد من مشكلات اقتصادية تناولتها بعض البرديات المعروفة بـ"برديات سرقات المقابر"، نجد الكهنة وقد هرعوا للحفاظ على جثث الملوك، تكريمًا لهم من ناحية، ومن ناحية ثانية للحفاظ على كيان الدولة؛ فليس من اللائق إهانة حاكم مصر لأنه الرمز لها، أيًّا كان الاختلاف على سياسته.

ولنا في تقرير "ون أمون" الدرس الجميل للهوية المصرية والاعتزاز بها.

هذا الرجل كان مشرفًا على المركب المقدس للمعبود أمون في الكرنك، وكان يذهب سنويًا إلى لبنان لإحضار الخشب من هناك، وفي إحدى زياراته لم يُقابَل بشكل جيد، وسخر من مصر حاكم لبنان، ولكن "ون أمون" رد عليه بأن مكانة مصر وعظمتها لا يمكن مقارنتها بغيرها، ويكمل أن المعبود أمون انتقم بأن أصاب أحد أتباع الحاكم بنوبة صرع، وظل يتمتم: "أكرموا ابن مصر".

هذه الرواية، وإن كان يغلب عليها عدم الدقة التاريخية، إلا أنها تعكس التمسك والاعتزاز بمصر ومكانتها.

في عصر الأسرة الخامسة والعشرين، تعرضت مصر لتدخل أجنبي كبير تمثل في الغزو الآشوري الذي قام به الملك "أسرحدون"، ومن بعده "آشور بانيبال"، وهرب "طاهرقا" الحاكم الكوشي، فلم يستسلم المصريون، ولكنهم آثروا التعاون مع "طاهرقا" ضد العدو المشترك، قائلين: "لنقف مع طاهرقا ونحمي بلادنا"، ليس حبًا في طاهرقا، بقدر ما كان رغبة في حماية مصر والحفاظ على مكونات الدولة المصرية.

أما عن اليونانيين، فكانوا يتعلمون من المصريين معنى الدولة وقوتها، وأن أساس الحضارات هو مصر.

ويقول أفلاطون إن "جحوتي" هو من اخترع نظام الأعداد، والفلك، والأرقام، والهندسة، وإنهم – أي اليونانيين – قد تعلموا من المصريين حجم الأشياء والطول والعرض.

يعتقد البعض أنه بعد نهاية عصر الأسرات المصرية القديمة، انهارت وانصهرت هوية مصر مع المحتل الأجنبي، ولكن هيهات؛ فمصر دولة تحتل من يحتلها، ولذا نجد أن حكام البطالمة والأباطرة الرومان كانوا حريصين على حمل الألقاب المصرية التي تقرّبهم من معبوداتنا ويتأثرون بها.

ومن معبد "إدفو" نجد مثالًا رائعًا للحفاظ على الدولة؛ حيث إنه المعبد الوحيد من العصرين البطلمي والروماني – في حدود ما هو معلوم حتى الآن – الذي لا يوجد به أي إضافات للأباطرة الرومان.

والسؤال: لماذا؟

من المعروف أن هذا المعبد كان مخصصًا للمعبود "حورس"، وكان الملك المصري يمثل هذا المعبود على الأرض طوال فترة حكمه، ولذا فلو صوّر الإمبراطور نفسه على جدران المعبد، فهذا يعني أن "حورس" يحكم مصر من روما، وهو ما رفضه الكهنة.

ولنا في قصة موت "كليوباترا السابعة" مثالٌ آخر للحفاظ على كيان الدولة والوطن؛ فالمعروف أن "أوكتافيوس" كان يصرّ على اصطحاب "كليوباترا" إلى روما مقيّدة بالسلاسل في شوارعها، وهنا نجد "كليوباترا" وقد اختفت وماتت.

وأيًّا كانت طريقة موتها، سواءً الانتحار أو القتل بيد حراسها، فقد كان السبب هو الحفاظ على كرامة مصر والدولة المصرية؛ لأن من سوف يُهان في شوارع روما هو حاكم مصر، وليس شخصية "كليوباترا السابعة".

في العصر الروماني المبكر وامتداده المعروف بالعصر الروماني المتأخر، نجد الدولة المصرية حافظت على هويتها؛ فرفضت قرارات المجامع الدينية التي تفرض على كنيستها ما لا ترضاه، واعتُبرت الكنيسة هي النموذج للوطن والوطنية في مقاومة الرومان.

وخرج من عباءة هذه المقاومة الفن الشعبي الأول، والذي يُعرف بـ"الفن القبطي"، وهو ما يمكن تسميته بـ"الفن الوطني"، والذي كان انعكاسًا للهوية المصرية.

ثم جاء العرب، وحافظت مصر معهم على كل ميراثها الحضاري، وهنا نتوقف مع ما يشير إليه البعض من أن العرب قد سرقوا بعض السمات الفنية مثل المشربيات والمحاريب وغيرها، وهذا ليس أمرًا صحيحًا؛ فالعرب حين دخلوا تأثروا كثيرًا بالفنون المصرية، واحترموها وقدّروها، ويقول "عمرو بن العاص" عن الإسكندرية:

"إنها مدينة عجيبة، بها 400 مسرح، و4000 حمّام شعبي كبير."

وحين أقام العرب المشربيات، لم يدّعوا أنها اختراعٌ منهم، بل قدّموها كنموذج مصري، بدأ ظهوره في المعابد المصرية القديمة مثل "الكرنك".

وحين أقاموا المحاريب، استعانوا بالفنان القبطي، ليكون المحراب متماثلًا مع شكل الحنية في الشرقية في الكنيسة، والمنبر هو تمثيل مشابه للـ"إنبل" في الكنيسة.

وهذا ليس سرقة أو اغتصابًا لعنصر فني أو معماري، ولكنه كان استمرارًا لدولة ووطن صهَر بداخله الجميع، ووضعهم تحت راية المواطنة، وكان يحتل بقيمه وحضارته وتراثه كل من يحتله، أو يقترب منه.

فى نص الحكيم إيبوور نجد السعي الدائم إلى الحفاظ على هوية مصر ومكانتها، وحين يشير إلى ما أصاب البلاد من تدمير يسأل عن الإصلاح وليس النقد لمجرد النقد

تقرير ون أمون

أفلاطون

بردية الفلاح الفصيح

نص الحكيم ايبوور

يعتقد البعض أنه بعد نهاية عصر الأسرات المصرية القديمة انهارت هوية مصر وانصهرت مع المحتل الأجنبي، ولكن هيهات فمصر دولة تحتل من يحتلها

أخبار الساعة

الاكثر قراءة