تحل اليوم ذكرى ميلاد العبقري بديع
خيري ، وهو من وصفه الكاتب والشاعر الكبير صالح جودت بأنه دنيا واسعة يحار فيها
القلم، أهو ممثل أم شاعر أم زجال أم مؤلف مسرحي أم كاتب سينمائي وذلك من خلال مقال
مطول عن بديع خيري في مجلة الهلال عدد مايو 1953، ورصد جودت الميلاد الحقيقي لبديع
وهو 18 أغسطس 1894 بحي المغربلين بالدرب الأحمر لأب تركي من رجال الدين، هاجر من
بلدته "سكودار" إلى مصر وحده وتزوج من مصرية من عائلة الليثي بحي
الغورية وأنجبا ابنهما بديع.
نشرنا من قبل كيف كانت بدايات بديع
خيري وميوله الفنية ، حتى التحق بفرقة نجيب الريحاني وكيف أنقذ الفرقة عندما كتب
ثلاث مسرحيات باسم جورج شفتشي تحت ضغط وإلحاح منه ليكون الآجر مناصفة بينهما إلى
أن اكتشف الريحاني الحقيقة وعرف عبقرية بديع خيري وبدأت رحلتهما إلى المجد، ونكشف
اليوم بعض من النجاحات المدوية لفرقة الريحاني على يد بديع خيري وأيضا الإخفاق
الذي أبكى نجيب الريحاني بسبب بديع.
دامت حالة ازدهار مسرح الريحاني بعد
أن اتفق بديع والريحاني على الكتابة معا ولمع اسميهما حتى عام 1923 وقد ظهرت فرقة
جديدة باسم "رمسيس" وهي التي أنشأها الفنان الصاعد وقتذاك يوسف وهبي، وكانت
فرقة بديع والريحاني تعتمد على اللون الاستعراضي الغنائي ، أما فرقة "رمسيس"
فاعتمدت على صورة أخرى مشرقة جعلت الجمهور يهرع إليها لرؤية الفن الجديد الجاد،
وانصرفوا عن فرقة الريحاني وتسببت فرقة "رمسيس" أيضا في إغلاق أبواب
مسرح الكسار.
تراكمت الديون على مسرح الريحاني بسبب
انصراف الجمهور، وكاد بديع والريحاني أن يشهرا إفلاسهما لولا أن اتفقا على التوجه
إلى لون آخر وهو الأوبريت الغنائية الراقصة، وسارع الريحاني بإضافة ضلع ثالث وهام
وهي السيدة بديعة مصابني لهما لإنقاذ المسرح ودعم فكرتهما الجديدة، وتزوج
الريحاني بديعة لتصبح شريكا مؤكدا، وكتب بديع روايات " الليالي الملاح
والشاطر حسن وأيام العز" ، ومثل نجيب الريحاني ورقصت بديعة فازدهر المسرح مرة
أخرى وعاد إلى أوج مجده.
طمع بديع خيري ونجيب الريحاني في
المزيد من النجاح فقررا أن ينتقلا من الأوبريت إلى الكوميديا، وهي أرقى أنواع الفن
المسرحي، ونجاحها لا يعتمد على غناء ولا رقص، فكتب بديع رواية "الجنيه
المصري" اقتبسها عن المسرحية الفرنسية "توباز" لمارسيل بانيول، وهي
من أشهر المسرحيات التي تألقت في مسارح العالم وانتزعت الإعجاب الدولي، ورغم أن
بديع قام بتمصير الرواية وجعلها تلائم الروح المصرية، إلا أن الجمهور لم يستسغها،
لأنه تعود على الألوان الغنائية الراقصة ، وانصرف الجمهور ومنيت الفرقة بخسائر
كبيرة.
اعترف بديع للريحاني بأنه ارتكب غلطة
كبرى، ومسح الريحاني دموعه وقال لبديع : أبدا .. لم نخطئ .. ولكن سبقنا عصرنا
وتقدمنا على فهم الجمهور .. وستبقى هذه الرواية ثأرا بيني وبين الناس مهما أوتيت
من نجاح .. وطلب الريحاني من بديع تأليف رواية من ثلاثة فصول ترضي الناس وتسترد
الجمهور وذلك خلال ثلاثة أيام ، وبالفعل لم يذق بديع النوم خلال الأيام الثلاثة
ليؤلف فيها رواية "المحفظة يا مدام" .. واعترف بديع والريحاني أن
الرواية كانت ثلاثة فصول مفككة لا يربطها غير خيط الفكاهة الواهي الذي يضحك
الجمهور، وبالفعل عاد الجمهور وسعد بالمسرحية وارتفعت الإيرادات، وأشاد بها
النقاد رغم أنها كانت ضد فن وتفكير بديع خيري والريحاني.
لم ينس الريحاني ثأره رغم السنوات
الطويلة التي قضاها مع بديع خيري يتأرجحان بين الصعود والهبوط، حتى جاء عام 1946
وكان الناس قد تعلموا وتقدم العقل والفكر، فقال نجيب لبديع: سآخذ بثأري الآن من
الجمهور، لابد أن أمثل "الجنيه المصري" .. فقد تقدم العصر وسيفهمها
الجمهور، وبالفعل نجحت الرواية نجاحا منقطع النظير، فرفع الصديقان عيونهما إلى
السماء شاكرين الله على نعمة تقدم الفكر.