الإثنين 3 يونيو 2024

أستاذي طه حسين

فن23-10-2020 | 13:57

أسبوع فاصل فى حياتى ما زلت أذكر أحداثه وأستعيد الإحساسات التى مرت بى فيه فأحسها وكأن دوافعها وأسبابها ما زالت قائمة، كان ذلك الأسبوع فى شهر سبتمبر عام 1939 وكنت قد قدمت أوراقى وعانيت كثيراً فى جمعها وترتيبها وسلمتها لمسجل كلية العلوم فى الجامعة المصرية «كما كانت تسمى إذ ذاك» وكنت كلما سألت عما تم فى شأنها يقال لى: إن العميد الأستاذ «بانجهام» لم يعد بعد من إجازته ليفصل فى أمرها.

وفى أوائل الأسبوع المشهود علمت بوصول عميد كلية العلوم الذى كان سيقبلنى فى السنة الأولى أو الإعدادية لكلية الطب أو لا يقبلنى، كان بيده فيما كنت أتصور أن يفتح أمامى أبواب مستقبل أحلامه ظلت تداعبنى منذ استطعت أن أتطلع إلى المستقبل حالمة مؤملة، ولكن الأستاذ الإنجليزى - سامحه الله - عاد وقرر عدم قبولى طالبة فى الكلية، واستنجدت بناظرة مدرستى الثانوية وطلبت من العميد موعداً وكانت مقابلة تاريخية فى حياتى دار فيها الحديث على هذا النحو:

- اعقد امتحاناً فإذا لم أنجح بثمانين فى المائة على الأقل لا تقبلنى..

- ليس من سلطتى عقد امتحانات على هذا النحو..

- اقبلنى تحت التجربة فإذا لم أنجح آخر العام بهذه النسبة فافصلنى..

- آسف.. ليس فى القوانين ما يخول لى ذلك.. يا آنسة باختصار كل ما أقدمه لك فى حدود القانون إنى أستطيع أن أستقبلك فى معامل الكلية باحثة حرة هاوية !

وانتهت المقابلة.. وقالت ناظرتى:

- ليس أمامك إلا السفر إلى الخارج.

قلت:

- لن يسمح لى والدى بالسفر وأنا فى السابعة عشرة من عمرى..

ومر يوم ويومان لم أفتر.. وطرقت كل باب، وجاء قريب لنا كنت أخاطبه بخالى لأنه أخ لخالتى فى الرضاعة وقال:

- كل مجلس الجامعة كان يعطف على طلبك ولكن العميد الإنجليزى هدد بالاستقالة إذا قبلت طالبة فى كلية الطب.

وقبل أن أضيع فى عالم اليأس والحزن قال:

- ما رأيك.. نزور الدكتور طه حسين فى بيته فهو صديقى ونسأله المشورة؟

قلت:

- أى شىء إلا أن أمكث فى البيت وأتزوج برجل لا أراه إلا بعد كتابة العقد كما فعلوا بأختى..

كنت أقرأ لأبى بعد أن ضعف بصره مقالات طه حسين، والعقاد، وهيكل، وكان - رحمه الله - يصلح من لغتى ويهذب من لهجتى ويعلمنى الإعراب ويحيلنى إلى كتبه لأقرأ مزيداً من شعر ونثر عربيين قديمين، ولكنى لم أكن أحب من كل هذا شيئاً، كنت بكل ما فى أسعى لأن أكون طبيبة، وكان تفوقى فى العلوم والرياضة تفوقاً أثار إعجاب مدرساتى هو الذى برر عندى هذا الاندفاع فى أملى الأكبر - كنت أكاد أعبد أبى وكان أبى جراحاً من طراز فريد وكانت سعادتى فى أن أناوله شيئاً فى عيادته وأحس أنى أعاونه طبياً..

ذهبت إلى منزل طه حسين فى مصر الجديدة، قرب دير للراهبات هناك، وأحسست بالخشية والخوف وزاد خوفى لما وجدت فى غرفة الاستقبال زوارا لا أعرفهم، ولكن خالى همس يشجعنى وما أن خلت الغرفة قليلاً حتى بسط لطه حسين قصتى فإذا هو يعرفها وإذا هو يقول:

- ماذا عليك، أنا أقبلك فى كلية الآداب وفى قسم اللغة العربية وستجدين بغيتك عن التشريح فى شعر جرير والفرزدق..

وضحك ولم أفهم شيئاً..

ماذا! قسم اللغة العربية! إنه انتحار لأنى قطعاً سأرسب وأرسب إلى ما شاء الله، قال:

- ماذا؟ ألا يعجبك أن أدرس لك..

والتفت وأنا كمن خرج من بئر عميقة وقلت فى تلعثم:

- أبداً.. هذا شرف.. شرف كبير.

وضحك فى حنان عجيب وأحسست من وراء ضحكته روحاً حلوة وقارنته بسرعة بأبى فإذا فيه الكثير منه، ودار كلام كثير وأنا أحاول أن ألم شتات نفسى وأن أتبين ماذا أنا مقدمة عليه، ورنت كلماته:

- غداً فى كلية الآداب الساعة العاشرة موعدنا.. اتفقنا..

منذ ذلك اليوم ولطه حسين فى حياتى منزلة الأب الروحى بكل معانى الكلمة، هو الذى أحال يأسى أملاً وهو الذى شجعنى وأنا خريجة مدرسة درست فيها كل علومى بالإنجليزية على أن أتخصص فى اللغة العربية، ما شكوت له عسراً حتى أحاله فى حنان الوالد إلى يسر..

- النحو عسير يا أستاذى..

- لا عليك.. الأستاذ إبراهيم مصطفى سيعنى بذلك..

والتلميذ عن قرب للأستاذ الكريم - رحمه الله - فيقول:

- لو كانت درجتك على قدر المجهود الذى بذلته لاستحققت مائتين من مائة ولكن بالمقارنة بأقرانك درجتك دون المائة بكثير.. لا تيأسى ستصلين حتماً.

وأواصل الدرس وأتصدر الناجحين تحوطنى رعاية أساتذتى جميعاً وطه حسين وحده له مكانته الخاصة..

ولكن أستاذية طه حسين لم تكن عطفاً ورعاية كلها ولم تكن دفعاً قوياً نحو المثل الأعلى عن طريق اللين دائماً وإنما كان يأخذنا ويأخذنى أنا أكثر من غيرى بالشدة أحياناً..

أذكر فى أول عام وأنا أتهيب كل شىء حولى فقد كنت الطالبة الوحيدة فى القسم كله أنه طلب إلى أن أقرأ بحثى على الطلبة لنناقشه.. وتلعثمت أولاً، ثم راحت رهبة البداية واستمررت، وكان البحث عن «طرفة ابن العبد» وقلت:

- أنا لا يعنينى أن يكون طرفة بن العبد جاهلياً أو إسلامياً أو حتى محدثاً ما دام شعره هو هذا الذى أجد فيه متعة متجددة لأنه يصور النفس الإنسانية ورد فعل فكرة الموت المحتوم فى نفس شاب مقامر فى الحب والحرب..

وإذا بأستاذى يقول:

- مرحى مرحى وفيم دخولك كلية الآداب يا هانم وأنت فى بيتك يمكن أن تحصلى على هذه المتعة، نحن هنا نبحث عن الشاعر وعن عصره وعن صلته بعصره.

ومادت بى الأرض وعدت إلى مكانى وقد كدت أقع فى طريقى إليه، ولما انتهى الدرس ودخلت غرفة الطالبات بكيت بحيث لم أستطع متابعة دروس اليوم فعدت إلى بيتى..

وكنا ونحن طلبة نسمع من أستاذنا نقد أعمالنا سواء أكانت بحثاً أم شرحاً فيقول دائماً كلمات مشجعة مسرفة فى التشجيع ثم يقول بعد ذلك «ولكن» وتأتى بعد و«لكن» تلك طائغة من النقد فى الصميم، وكثيراً ما كنا نقول من ذا الذى ينجينا مما بعد و«لكن» تلك..

فى كل درس لطه حسين «وكان يحضر دروسه كل طلبة الكلية تقريباً، يتخلفون عن دروسهم فى أقسامهم ويأتون معنا ليسمعوه» كنا نجد شيئين لا مناص من أن يوجدا فى درسه، أفقاً منفتحاً فى الموضوع يغرى بشكل عجيب بالاستمرار فى البحث والدرس، أفقاً ينفتح ويمزج بين أطراف الموضوع وما يمكن أن يتصل به من موضوعات فى قدرة عجيبة خالقة تجعل من الحياة كلاماً متكاملاً لا مجال فيها لشىء وحده أو لفكرة منفصلة عن غيرها فكان هذا يشعرنا بما يشعر به الإنسان أمام الأثر الفنى الرائع المتكامل المنسجم..

وأما الشىء الثانى فهو الفكرة اللماحة المضيئة التى تضيء هذا الأثر الفنى المتكامل بضوء ساحر فريد، لا بد من فكرة بل أفكار جديدة لها طلاوتها وحلاوتها ولا بد من أفق رحب تجول فيه هذه الأفكار يتسع ويتسع حتى يشمل الحياة كلها..

إن علمه الدقيق المتخصص وثقافته الواسعة الرحبة التى وسعت الثقافات المعروفة كلها يتداخلان بشكل رائع فى درسه، فيلهم طلابه دائماً وكل يوم..

ومرت الأيام ودخلت معه قاعة الدرس معيدة له، يحيل الطلبة على لأقرأ معهم نصاً أو ألخص معهم كتاباً وهنا اطلعت على بعض عاداته كأستاذ، أن طه حسين وهو من هو علماً ومعرفة لم يكن يدخل قاعة الدرس قبل أن يعد درسه، كم مرة درس عمر بن أبى ربيعة مثلاً ولكنه فى كل مرة كان يقرأ عمر بن أبى ربيعة من جديد، أنه لا يعتمد كأستاذ جامعى حق على علم الأمس فى الأدب، إن الحياة تتجدد وتذوقنا للأدب يتجدد ومعلوماتنا تزداد ولزيادتها دخل كبير فى تذوقنا الجديد..

إن عادة طه حسين التى علمنا إياها أن نجل الدرس وأن نحترم مقامه فى حياتنا هى التى تجعلنا إلى اليوم لا ندخل قاعة الدرس قبل أن نعد درسنا إعداداً جديداً.

ولقد علمنا طه حسين كثيراً غير العلم المدون فى الكتب، علمنا كيف نعشق الآفاق الرحبة وكيف نفتح أذهاننا لكل جديد ولا نحكم على شىء إلا بعد أن نعرفه..

إن منهجه الذى يوصف بأنه منهج ديكارتى «نسبة إلى ديكارت الذى شغف طه حسين بفلسفته وتأثر بها دون شك» هو المنهج الذى صاغ طريقة تفكيرنا نحن أيضاً زمناً طويلاً تأثراً به..

وعلمنا طه حسين كذلك وبنفس القدر أن نحب الحياة فى تجددها، وأن ننتصر لكل مظاهر الحياة على أى مظهر من مظاهر الجمود أو الشلل أو الموت، إنه مشغوف بالتجديد محب للشباب لعناصر للحياة المتجددة يكره الركود والجمود وتحجر الفكر..

أما خلقيات الأستاذ فلقد صبغنا بصبغتها وما زلنا إلى اليوم نتوق إلى أن نكون مثله أو قريبين منه، ما اعتذر عن درسه يوماً إلا مضطراً أشد الاضطرار وما دخل درسه إلا فى الميعاد وبالضبط دون إبطاء وما شرب سيجارة فى درس ولا تحدث إلينا إلا فى الدرس وما يمكن أن يتعلق بالدرس من شئون حياتنا نحن لا حياته هو..

وكنا كثيراً ما نقارن بينه وبين أستاذ آخر «حضرت له درسين وصممت ألا أحضر له بعد ذلك مهما تكن العواقب» لأن الأستاذ الآخر كان يبدأ الدرس فلا يستمر فيه إلا بضع دقائق وإذا به يقول: «لما كنا فى إنجلترا» وكانت هذه العبارة كإشارة المرور معناها أننا سندخل متاهات لا صلة لها بالدرس إطلاقاً، وكنا نطوى دفاترنا وننصت وأصبح الحديث معاداً ثم أصبح تافهاً ممجوجاً حتى سمينا الأستاذ «لما كنا فى إنجلترا»..

ولحسن الحظ كان أساتذة القسم الأصليون به بعيدين عن مثل هذا الأستاذ الآخر قريبين لطه حسين فى تقديسه لوقت الدرس ولمادته وللظروف التى يجب أن تلقى فيه..

إن احترام قاعات الدرس بل ممرات الجامعة هو الذى جعل طه حسين يرفت طالباً لأنه زعق على زميل مرة، وآخر لأنه دخن سيجارة فى شهر رمضان، وطالبة لأنها جلست تنسج التريكو فى الشمس، ولم يكن هذا تزمتاً وهو الأستاذ الحر الفكر الطلق الأفق وإنما كان إجلالاً للعلم وتوفيراً لعملية تربية العقول ومرانها..

أما المكتبة والاطلاع فيها فكان جزءاً لا يتجزأ من تدريس طه حسين، كل درس تكلف بعمل بطول ساعات عديدة فى المكتبة ومن دون هذا لا يمكن أن نفيد من دروسه.. وتنعكس أخلاق طه حسين الإنسان وهى معروفة ولا مجال لذكرها هنا على كل تصرفاته كأستاذ، إنه أب للجميع، الأب المثالى فى كل ما يقول أو يفعل حتى ليكاد يكون أسطورة فى أبوة تلاميذه..

ولكن فكرة طه حسين عن العلم فى حد ذاتها تستحق بحثاً طريفاً، لقد صور لنا معلمه الأول فى القرية صورة لا تنسى، إنه سيدنا الذى أبدعته ريشته الفنانة فى «الأيام» «ضخماً بديناً»، «دليته» تزيد فى ضخامته يبسط ذراعيه على كتفى رفيقيه.. ويتخير من تلاميذه لهذه المهمة أنجبهم وأحسنهم صوتاً ذلك أنه كان يحب الغناء.. إلى آخر هذه الصورة التى لا أقوى على ذكرها هنا..

و«الأيام» حافلة بوصف خلق هذا «السيدنا» وتصرفاته التى تدل على فساد علمه وتعليمه، ولعلنا نستطيع أن نلمح قبل «سيدنا» صورة «الشاعر» الباهتة من بعيد التى ذكرها طه حسين فى «الأيام» والتى كانت السياج تحول بينه وبين فنانه المعلم هذا الذى كان يمتعه بما ينشد، لكم أبدع فى وصف السياج التى تعكس شهور الحرمان وقد اضطربت له نفسه الرقيقة الصغيرة قبل أن يتبلور إحساسه بأن بينه وبين الحياة سياجاً فعلية بسبب كف البصر..

ولا تقتصر «الأيام» على صورة الشاعر الباهتة من بعيد أو صورة «سيدنا» الثقيلة عن قريب، وإنما فيها صورة «العريف» أيضا، «العريف» مساعد «سيدنا»، وقد أصبح طه حسين نفسه معلماً منذ صباه المبكر فى «الأيام» فقد وكل إليه «العريف» أمر تعليم القرآن الكريم لبعض التلاميذ ومنهم «نفيسة» التى كان يطرب الصبى لبعض قصصها الساذجة..

وتمتلئ «الأيام» بذكر من تعلم عليهم طه حسين أو من ابتغى عندهم العلم فلم يجده أو لم يجد إلا أقله، شيوخ ومشايخ طرق صوفية ومدعى علم ما لا يعلم، ولعل أبرزهم هذا المفتش المجود للقرآن الكريم وكان سبباً لما كان بين ابنته وبين الصبى من حب يمثل طفولة بريئة فى أواخر القرن الماضى..

ومنذ «الأيام» تجد أن طه حسين قد ركز آماله حول أن يكون معلماً بل معلماً فى الأزهر الشريف لأول مرة، كم كان سعيداً حين أخذ مكانه فى الحلقة على هذا البساط الرقيق إلى جانب عمود من الرخام لمسه فأحب ملامسته ونعومته فأطال التفكير فى قول أبيه: «إنى لأرجو أن أعيش حتى أرى أخاك قاضياً وأراك صاحب عمود فى الأزهر»..

وتمر بنا صور شيوخه فى الأزهر وهو قلق يوم يتحول من هذا إلى ذاك ويصطدم بهذا ويتشاجر مع ذاك يصفه بعضهم بالحمق ويتهمه البعض الآخر بالخوض فيما لا يعلم ويحرم بعضهم الثالث عليه أن يحضر دروسه، وتبرز من بين صور كل هؤلاء صورة الشيخ المرصفى الذى بغض إليه أبا العلاء فأحبه وشغف به بالرغم من بعض رضاه عن دروس الشيخ المرصفى..

ويختلف إلى الجامعة إلى دروس حفنى ناصف، والشيخ مهدى ليدرس النصوص ويختلف إلى المستشرقين ليدرس تاريخ الأدب فيجد من هذا المزاج بين القديم والجديد بغيته التى طالما نشدها فلم يجدها، ويستمر فى الجامعة القديمة ثم يسافر فى البعثة ويعود أستاذاً بالجامعة، ولكنا لا نكاد نرى صوراً واضحة لشخصيات أساتذته من الأجانب، لقد ملأوا عقله وفكره بما عندهم من علم فلم يتركوا له وقتاً ليتأمل أكانوا ضخاماً أم نحافاً أكانوا يتعاطون مع التلاميذ حسب درجاتهم من الفقر أو الغنى أم كانوا يعاملون الكل بالعدل والميزان..

إن الأساتذة الأجانب استحالوا عنده عقولاً تتعامل مع عقول، فخرجوا من أن يكونوا مفردات صورة ترسم..

إن صلاته بهم صلات عادية من الحب والود والذى بهره منهم هو عقلهم وطريقة تفكيرهم ومدى ما يمكن أن يؤثروا به فى عقله المرهف المستعد لأن يتقبل هذا العلم بعد طول معاناة فى تلقى الجهل والخزعبلات باسم العلم أو فى تلقى العلم اليسير بأبشع الطرق وفى أسوأ الظروف لقد وجد طه حسين فى علمهم نفسه..

وعاد طه حسين إلى مصر ليرسم الصورة المثلى لما يجب أن يكون عليه المعلم وما يجب أن يتطور إليه التعليم فى الجامعة وفى المدارس الثانوية وفى المدارس الأولية خاصة، يوضح أهداف التعليم ويفتح آفاقه لآماد لا تحد، وفى كتابه «مستقبل الثقافة فى مصر» صورة واضحة لآرائه التى يضغط فيها على ما يجب للأستاذ والمعلم من إعداد واختيار ورعاية ليكون مكرماً كريماً فينشئ جيلاً مكرماً كريماً وليكون واعياً بدوره وخطر هذا الدور فى حياة الأمة فيسمو إلى مستوى هذه الخطورة ويعد نفسه للقيام بأعبائها.

 

وامتد الزمان فإذا طه حسين يلى أمر التعليم مستشاراً للوزارة ثم وزيراً لها فيخطو خطوة جبارة نحو تحقيق آمال الشعب إذ يجعل التعليم الثانوى مجاناً، كم خضع آنذاك لحملات من التشهير حتى لقبوه بوزير الماء والهواء لأنه قال: إن العلم كالماء والهواء يجب أن يكون متاعاً لكل أفراد الشعب، ولا يمكن أن تقوم ديمقراطية حقيقية من دون أن يتعلم الشعب..

ودارت الأيام وقامت ثورة الشعب وتعبيراً منها عن ضمير شعب يحب العلم ويؤثر التعليم فتحت أبواب التعليم كلها على مصراعيها ومجاناً وللشعب كله..

إن طه حسين لا يعيش إلا ليعلم ويتعلم، وتدور حياته كلها حول هذا المحور السامى الأساسى فى حياة الأمم..

إنى ما زلت أذكر كيف كان يتحامل ليأتى إلينا فى كلية الآداب منذ بضعة أعوام استجابة لرجاء وإلحاح قويين من طلابه ليدرس أبناءنا ولو ساعة واحدة فى الأسبوع، كم ذا كانت فرحة أبنائنا به وكم أضاء لهم من طريق وفتح أمامهم من آفاق وبسط لهم من آمال.

ولئن أقعده المرض عنا فإن كلية الآداب ما زالت تردد صوته إلى اليوم، إنها الكلية التى خرجت وأخرجت الجامعة كلها معها عام 1932، لتطالب بعودة طه حسين إليها يوم نقله منها إسماعيل صدقى ضمن مخطط بطشه بالطلاب بل بالشعب كله، ولو استطاعت الكلية اليوم أن ترد عنه المرض ليعود إليها ما ترددت أن تفعل المستحيل فى سبيل ذلك..

ولكن عزاءها أن طه حسين لا يحيا فى تلاميذه «وكل أساتذة الكلية من تلاميذه» فحسب وإنما هو يحيا فى طلابها الذين يدرسون طه حسين فى دراستهم للأدب الحديث، بل إن منهم من نال درجته العلمية العليا من بحوث حول أعمال طه حسين.