الثلاثاء 4 يونيو 2024

مراكز الفكر والبحوث فى عالم جديد مصر أين هى من الإبداع والفكر العالمى؟

25-4-2017 | 15:03

بقلم –  السفير عزمى خليفة

اكتسبت مراكز الفكر والبحوث والدراسات أهمية متزايدة فى السنوات الأخيرة لعدة أسباب أهمها على الإطلاق أن البيئة السياسية بصفة عامة قد اتسمت بتغييرات سريعة حادة وانقلابية غير متوقعة تجعل من الطبيعى أن تكون هذه البيئة موضع اهتمام جميع دول العالم سواء أكانت دولا غنية أم فقيرة، دول نامية أم دول متقدمة؛ لأن ما يجمع هذه الدول وغيرها الرغبة فى النمو والتقدم؛ ولذا انتشرت هذه المراكز فى جميع دول العالم دون أى استثناء خلال الربع قرن الماضى بهدف سد الفجوة بين المعرفة وتقدمها فى عصر المعلومات وبين صنع السياسات، خاصة أن هذه الفترة الزمنية قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك أننا دخلنا طورا جديدا من أطوار الحضارة الإنسانية يختلف كلية عن مرحلة التصنيع الكثيف الذى عالجه وعالج تبعاته الفنان العظيم «شارلى شابلن» فى فيلمه الشهير «الأزمنة الحديثة» أو «العصور الحديثة»

ولذا فلا عجب إذا علمنا أن أهم هذه المراكز فى العالم يبلغ عددها حوالي٦٨٤٦ مركزا تبحث فى موضوعات مهمة مثل الأمن والإرهاب، والاقتصاد، والحكم، والعولمة، والدراسات الاجتماعية، والعلاقات الدولية والسلام، والعدالة الاجتماعية، والدبلوماسية، والقانون الدولي، والبيئة والمناخ، وهذه المراكز موزعة على مختلف قارات العالم؛ حيث تستأثر أمريكا الشمالية بعدد١٩٣١ مركزا (الولايات المتحدة وكندا) بنسبة٢٨,٢٪ منها ١٨٣٥ مركزا فى الولايات المتحدة وحدها، بينما يوجد فى أوربا حوالى ١٧٧٠ مركزا بنسبة تبلغ ٢٦٪، وآسيا تملك منها ١٢٢٦ مركزا بنسبة، وأمريكا الوسطى والجنوبية ٧٧٤ مركزا، وإفريقيا ٦١٥ مركزا، والشرق الأوسط بما فى ذلك دول شمال إفريقيا ٣٩٨ مركزا.

وبالطبع لا عجب فى أن توزيع مراكز الفكر فى العالم يتم حسب مواقع النمو والتقدم العلمى من أمريكا الشمالية إلى آسيا مركز الثقل العالمى فى العالم سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا فى القرن الحادى والعشرين حيث تنتقل إليها الثروة والمعلومات من المراكز التقليدية فى أوربا والولايات المتحدة، بينما نلاحظ أن أكثر مناطق العالم تخلفا من الناحية الاقتصادية والعلمية وأقلهم تسجيلا لبراءات الاختراع هى أقلهم امتلاكا لمراكز الفكر والبحوث وهى إفريقيا والشرق الأوسط على التوالى.

أوضاع مراكز الفكر والبحوث تعكس حقيقة أخرى وهى توزيع جامعات العالم حسب مستواها العلمى على المؤشر العالمى لتوزيع الجامعات، فأيضا الجامعات الأمريكية والأوربية هى المكتسحة للمراتب الخمسمائة الأولى، تليها بعض الجامعات الآسيوية وفى نهاية المؤشر وبعد الخمسمائة جامعة الأولى تظهر الجامعات الإفريقية والشرق أوسطية؛ لأن الجامعات أقيمت فى مطلع القرن العشرين كمؤسسات تعليمية فقط، ثم تحولت طبيعتها إلى مؤسسات بحثية إلى جانب الطبيعة التعليمية فى منتصف القرن، ثم مع مطلع السبعينيات تحولت إلى «خدمة المجتمع» وقد واكبت مصر مختلف هذه التطورات، إلا أنه بتحول الجامعات إلى مراكز إبداعية فيما بعد توقفنا عن التطوير، ومن ثم فكافة المراكز بالجامعات المصرية ومكتبة الإسكندرية حتى اليوم هى مراكز بحثية تقوم على إعادة إنتاج معارف الغرب وليس لدينا كقاعدة عامة مراكز فكر إبداعية كاملة جودة فى الولايات المتحدة وأوربا، وبالتالى فإنتاج ما يتوافر من مراكز بحثية بالجامعات المصرية والشرق أوسطية مراكز بحثية تنقل معلومات الغير وتعيش عليها وليست مراكز فكرية تنتج الأفكار، ولا أستثنى من ذلك أى مراكز فى المنطقة العربية تحديدا.

هاتان الحقيقتان – قلة عدد المراكز البحثية وطبيعتها البحثية الناقلة – يضاف إليها مشكلة ثالثة تعانى منها هذه المراكز وهى ضعف التمويل المالى لها، فميزانية مركز واحد مثل بروكينجز ٩٠ مليون دولار، وهو رقم عادى جدا لمراكز الفكر الأمريكية، أما ميزانية راند فإنها غير معلنة باعتبارها ممولة من تبرعات كما يعلن المركز، ورغم أن جميع مراكز الفكر فى مختلف أنحاء العالم تعلن أنها غير ممولة حكوميا حفاظا على استقلاليتها، إلا أننى أقطع أن التمويل الحكومى ضرورة لابد منها لأن مراكز الفكر هى جزء لا يتجزأ من النظام السياسى لأى دولة، ولأن معظم هذه المراكز من دون استثناء واحد تابع لجهات حكومية فراند يتبع البنتاجون وبروكينجز يتبع الخارجية، وهناك مراكز تابعة لمؤسسات الجيش المختلفة وأفرعه، وهناك مراكز تابعة للبيت الأبيض فمن الناحية العملية يصعب تحقيق الاستقلالية بصفة مطلقة فكيف أكون مصريا وأدير مركزا مصريا وبتمويل من الحكومة وأدعى الاستقلالية بصفة مطلقة، ما تطالب به هذه المراكز استقلالية نسبية، تتركز على المجال الفكرى والبحثى والإبداعى دون تدخل من الدولة بوضع توصيات معينة قد لا تكون متسقة مع واقع البحث العلمي.

أيضا من المهم أن ندرك أن أكثر من ٩٠٪ من مراكز الفكر فى العالم أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية، صحيح هناك مراكز أقيمت قبل الحرب الأولى العالمية الأولى مثل العهد الملكى للخدمات الذى أنشئ فى بريطانيا عام ١٨٣٠ بمبادرة من دوق ولينجتون للتركيز على موضوعات الأمن وسياسات الدفاع نتيجة تطور أسلحة الحرب فى عصر الثورة الصناعية الأولى (قوة البخار) ومثل الجمعية البريطانية التى تأسست عام ١٨٨٤ وركزت بشكل رئيسى على التغيير الاجتماعى التدريجى، كما أن بعضها الآخر ارتبط قيامه بالحرب العالمية الأولى الذى أقيم فى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٩١٦، إلا أن الغالبية العظمى للمراكز الفكرية ارتبط إنشاؤه بالحرب العالمية الثانية، وكلما تقدم الزمن وظهرت مشكلات جديدة، زاد عدد المراكز الفكرية فى الدول المختلفة وخاصة الدول المتقدمة مثل راند الذى أقيم عام ١٩٤٦ بدعم من وزارة الدفاع الأمريكية لتقديم المشورة العسكرية للحكومة الأمريكية ومصالحها فى مختلف العالم وكانت أولى هذه المناطق هى منطقة الشرق الأوسط وساهم بالفعل فى تطوير دراسة العلوم الاجتماعية ككل من خلال تقديم منهج دلفى لدراسة المشكلات السياسية ومنهج السيناريوهات من خلال بناء نموذج لاستخدام الطائرات فى أى حرب قادمة فى الشرق الأوسط.

ومع عقد السبعينيات وما تلاه وهى عقود التحول السياسى والاجتماعى والاقتصادى فى العالم نتيجة التوسع فى استخدام تكنولوجيا المعلومات ثم اختراع الإنترنت عام ١٩٩٦زاد عدد مراكز الفكر فى أوربا وأمريكا زيادة رهيبة ولحقت بهم الصين والهند فيما بعد فظهرت مراكز الفكر الحقوقية، والتكنولوجية، وأخيرا مراكز الدراسات المستقبلية وهى أحدث صيحة فى المراكز الفكرية فى العالم لدراسة تأثيرات الثورة الرقمية – وهى ثورة ثلاثية الأبعاد معلوماتية وبيوتكنولوجية ونانوتكنولوجية – على الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وعلى البيئة وعلى الاعتبارات الأمنية مع انفجار الموجات الإرهابية وظهور تهديدات الأمن الناعم، وما يرتبط بذلك من الاستغناء عن ٢٠٠ وظيفة على الأقل من الوظائف الحالية مما سيؤدى لأضخم موجة إحلال وظائف فى التاريخ ويزيد نسبة البطالة ما لم نستعد لها فى مصر بالتعرف على مستقبل الاحتياجات الوظيفية من ناحية وبناء القدرات فما حدث شركات معروفة مثل فورد للسيارات ونوكيا وكوداك سيحدث لمزيد من الشركات والدول، مما يؤدى لانهيار دول اقتصاديا نتيجة الدخول فى عصر البيئة الذكية خلال بضع سنوات تعد على أصابع اليد الواحدة.

فقد أقيم مصنع فورد لإنتاج السيارات فى إطار تحول الولايات المتحدة إلى عصر التصنيع بدلا من الزراعة وتحديدا زراعة الغلال وطحنها ولم يتصور أحد نجاح المصنع فى استيعاب الأيدى العاملة الزراعية، إلا أن المصنع نجح بفضل اعتماده على أسلوب «خطوط الإنتاج» فى التصنيع وهو أسلوب إدارى كان حديثا فى وقتها ويناسب الإنتاج الكبير، واستمر المصنع حتى عام ٢٠٠٧ حينما أغلق نتيجة منافسة مصنع تويوتا اليابانى له فى عقر داره الذى اعتمد على أسلوب إدارى آخر أحدث ناتج عصر المعلومات العولمة وهو سلاسل الانتاج العالمية، كذلك شركة نوكيا للتليفون المحمول والتى كانت رائدة فى هذا الاتجاه حققت فى آخر أعوامها ربحا وصل إلى ١٤ مليار دولار، ثم عجزت عن تطوير إنتاجها فنيا نتيجة العجز عن التكيف مع المنتجات الوسيطة للمحمول فباعت جميع أصولها فى مختلف أنحاء العالم فى صفقة بلغت قيمتها ٧ مليارات دولار فقط، كذلك احتكرت شركة كوداك سوق بيع الصور الورقية فى العالم عام ١٩٨٨ فكانت تبيع ٨٥٪ من هذه الصور فى العالم وتوظف ١٧٠ ألف شخص، إلا أنها تحولت إلى شركة صغيرة لا تمثل نسبة فى السوق العالمية نتيجة العجز عن التكيف مع التغييرات الهيكلية التى لحقت بالصناعة فى العالم نتيجة ازدهار تجارة وصناعة سوق البرمجيات الذى أثر سلبيا على وضعية الشركة فى العالم.

شيء أشبه بذلك يحدث للدول أيضا فالقطاعات الحكومية تنقرض، حتى إن الاتجاهات العالمية تحارب الآن لترك ثلاثة مجالات فى أيدى الحكومات وهى مجالات التعليم والصحة والضمان الاجتماعى على أن تترك باقى المجالات للقطاع الخاص فى ظل استمرار الموجة العاتية للعولمة، التى أضحت تسيطر على الدول شاءت أم أبت، من خلال ما يسمى علميا وعالميا بشبكات الهيمنة الكبرى وهى بالدرجة الأولى تابعة للبنك الدولى وصندوق النقد الدولى ويتولى البنك والصندوق التنسيق بين هذه الشبكات وتوصياتها وبين الدول من خلال الأمم المتحدة التى تتمتع الدول بعضويتها ومثالها منظمة التجارة العالمية التى تعالج حقوق الملكية الفكرية ومجموعة الثمانية ومجموعة العشرين.

هذه التحولات العالمية نتيجة الثورة الرقمية، والتحولات الناتجة عن العولمة وما طرحته من عدم عدالة عالمية بين الدول وبين الفئات المختلفة داخل الدولة الواحدة للاستفادة من عوائد العولمة والتنمية وزيادة القدرات للأفراد يتطلب إسراع الدولة فى إنشاء مركز يساعد الحكومة والدولة على حل كثير من المشكلات التى تواجههم مثل الإرهاب الذى تطور والتنمية المستدامة ويفضل أن يكون المركز مخصصا للدراسات المستقبلية التى تطورت تطورا رهيبا، ولا يوجد لها مركز واحد فى مجمل عالمنا العربى ونحن فى عصر العلم.