الجمعة 5 يوليو 2024

إشراقات التصوف في رواية "قلب الليل" لنجيب محفوظ

فن26-10-2020 | 21:52

كان نجيب محفوظ قد تجاوز السبعين حين كتب روايته البديعة "رحلة ابن فطومة"، وكان قد كابد السنوات والتساؤلات لزمن ليس بالقصير، مثله مثل بطله المعذَّب ابن فطومة، الذي جاب طويلًا في الزمان والمكان حتى بلغ دار الجبل، حيث الكمال وجنة الروح والبدن؛ إنها المحاكاة الأبلغ لرحلة طويلة وشاقة، خاضها محفوظ بشجاعة وصبر جديرين بالتأمل، حتى بلغ الحالة الصوفية التي اتصفت بها نصوصه منذ ذلك التاريخ، وهي ذات الحالة التي يُشارف بطله في ختام الرواية على ارتقائها، مع تسلُّقه لدار الجبل. لكن يبقى من غير الممكن فهم الحالة الصوفية التي بلغها هذا المفكر الفذ، دون استيعاب للرحلة التي قطعها على امتداد تجربته الفكرية، وتأمُّل تساؤلاته التي طرحها عبر نصوصه السابقة في أزمنة الحيرة والشك، تلك التي بلغَت ذروتها في روايته "قلب الليل".


لقد طرحَ محفوظ همومه الفلسفية والوجودية في عدد من النصوص الروائية السابقة على "قلب الليل"، بداية من "الثلاثية" ومرورًا بـ "أولاد حارتنا" و"الطريق" و"الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" وغيرها. أما ما يميز محفوظ في رواية "قلب الليل" فهو طرحه لإشكالية العلم والدين باستعراض مدهش، ومحاولته الدمج بين منهجي الدين والعقل عبر تجربة فكرية غير مسبوقة. إنها نفس الإشكالية التي انشغل بها قبل جعفر الراوي بطل قلب الليل، أبوه الأسبق كمال عبد الجواد أحد أبطال الثلاثية، فلو كُتِب لكمال أن ينجب ولدًا لكان جعفر أحد أبنائه المحتمَلين، فقد تخبَّط كمال طويلًا بين مذاهب الفلسفة والعلم والدين كما فعل جعفر، بل وكتب ونشر مقالات يعرض فيها لاكتشافاته التي تحققت عبر قراءاته المتعددة في العلم والفلسفة، من بينها ما كتبه عن نظرية دارون، وكان سببًا في الخلاف مع أبيه حين سمع بالمقال واطَّلع على محتواه، وهو نفس ما قام به والد جعفر الذي مات أثناء طفولته المبكرة، حيث يُشير جعفر لتلك المقالات التي كتبها أبوه الراحل والتي تدور حول التوفيق بين الدين والعلم والفلسفة (ص 32)، إذًا فكمال هو أب شرعي لجعفر من حيث الهمِّ الفكري، وجعفر هو ثمرة هذا الشقاق العميق بين الدين والعلم، الذي كرَّسَت له المؤسسات الدينية المحافِظة مثل الأزهر والكنيسة. وكثيرًا ما سُئل محفوظ عن كمال عبد الجواد وعن تماهي شخصيته في العديد من الجوانب مع شخصية محفوظ، ولم يُنكر ذلك بل ربما أكَّد عليه، ومن غير المستبعد أن تكون نظرية دارون إحدى المعضلات الكبرى التي واجهَت محفوظ في شبابه، خاصة وأن المؤسسة الدينية رفضتها بشكل قطعي ووصمَت بالكفر مَن يَقبَل بها كما فعل السيد أحمد عبد الجواد مع ولده كمال، وكما كان الشيخ الراوي ليفعل قطعًا مع ابنه كاتب المقالات. 


جعفر هو اسم بطل الرواية، وفي ذات الوقت اسم الحي الذي نشأ فيه، خان جعفر، ما يشير لإمكانية التعامل مع جعفر كرمز أكثر عمومية من الشخصية الروائية المفردة؛ إنه الإنسان الناشئ من الحي المقدس، حيث أيام الهناء والتجربة (ص 6)، وفي ذلك إشارة لنشأة النوع البشري وتجربته البدائية الطليقة قبل معرفة الأديان. يقول جعفر في مستهل حكايته: "صدقني سأكافح، لقد حملتُ حياةً لا يُقدِم على حملها الجن" (ص 8)، وهي إشارة إلى الأمانة التي عرضها الرب على السموات والأرض والجبال وحملها الإنسان؛ أمانة الاختيار بإرادة حرة، التي اختار الإنسان حملها بدافع الظلم والجهل طبقًا للوصف القرآني (سورة الأحزاب- آية 72)، وستكون حياة جعفر بدءًا من هذه اللحظة انعكاسًا صادقًا لهذا الوصف.


هنا يسأل موظَّف الأوقاف جعفر: أليس لك أهل؟ فيقول: "لعلهم يملؤون الأرض، لي أبناء قضاة ومجرمون" (ص 10)، في محاكاة لقصة آدم وابنَيه قابيل وهابيل، يؤكدها في نفس السياق: "إنني أتمرغ في التراب، ولكني هابط في الأصل من السماء" (ص 10)، ما يُشير صراحة لقصة آدم كما صاغتها الكتب السماوية، ثم يكمل بقوله: "هي الحياة الإنسانية الأصيلة، جرِّبها بشجاعة إن استطعت" (ص 10)، وفي هذه العبارة مفتاح لفهم شخصية جعفر بطل الرواية، الذي يمثِّل الإنسان حامل الأمانة، الذي يختار بشجاعة خلافة الله على الأرض، ويتحمَّل العواقب لما بقي من زمن وجوده على الأرض. فيما يطالِب جعفر بألا يُحاسَب على تناقضاته، فيعترف: "إنني حزمة من المتناقضات" (ص 11)، ويُقرِّر أخيرًا: "سأشعل ثورة تقلب نظام الكون" (ص 12)، مُشيرًا لكونه نموذجًا مغايرًا لبطلَي "الطريق" و"الشحاذ"؛ ليس الإنسان التائه المرهون للضياع، بل الإنسان المسلَّح بإرادة لا تلين، والمدفوع بإصرار جنوني نحو اكتشاف معنى وجوده.


ثم يبدأ جعفر في قص حكايته بداية مما يُسميه "عهد الأسطورة"، أي طفولته المبكرة تحت رعايته أمه، يقول: "كانت دنيانا حية، تنبض بالرغبات والعواطف والأحلام، فيها الجد والمزاح، فيها الفرح والأسى، ينتظمهم جميعًا -الإنس والجن والحيوان والجماد- لحنُ التفاهم والتعامل" (ص 19)، ما يستعيد لأذهاننا عهود البشرية المبكرة، حين كان الكائن البشري مجرد عنصر من عناصر الحياة لا يميزه شيءٌ عن سائر المكونات، لكن سرعان ما تطوَّر وامتلك أدوات السيطرة على العالم، باختراعه الآلات واللغة واستطاعته التحكم في النار والانتفاع بها، فصار مؤهلًا للسيادة والخلافة. يسأله موظَّف الأوقاف: ألم يطوقك الخوف؟، فيقول: "أحيانًا، ولكني سرعان ما ملكتُ أسلحة الدفاع والهجوم وصرتُ سيد الدنيا" (ص 19)، ثم يكمل: "وآوي أنا لجنتي الأرضية بين القطط والدجاج" (ص 20)، مشيرًا لتطوُّر المجتمع البشري منذ اكتشاف الزراعة واستئناس الحيوانات، وهو ذات التوقيت الذي ينتهي فيه عهد الأسطورة بموت الأم، أي بانقطاع شعور الإنسان بانتمائه إلى "الطبيعة الأم"، عند بلوغه القدرة على التحكم فيها لصالحه؛ النار، الزراعة، السيطرة.


(3)


هنا ينتقل جعفر- الكائن البشري- لمرحلة التكليف، حين يبلغ من التطور ما يؤهله لخلافة الإله. يصف محفوظ بيت الجد على لسان جعفر بأوصاف تستدعي الجنة إلى الأذهان، يقول: "أما أنفي فقد فغَمَتهُ أخلاطٌ من روائح الجنة حتى أثملَته" (ص 24)، وبداخل هذا البيت يتلقى جعفر مبادئ دين جديد على يد جده، دين يؤهله لأن يصير إنسانًا إلهيًّا كما يريده الجد، في محاكاة لقصة اصطفاء آدم وتلقيه الحكمة من الرب قبل تكليفه، لكن جعفر يعود ويقول: "ولم يُنسِني ذلك ديني الأول، فتراكم الجديد فوق القديم، ولم يُسكِت صوت أمي في أعماقي" (ص 33). وقد نجد في هذه المرحلة من حياة جعفر مفتاحًا لفهم رمزية الجد، فليس الجد رمزًا للذات الإلهية كما يذهب البعض في تأويله، بل للمؤسسة الدينية المحافِظة، أو لصورة الإله كما ترسم أبعادها هذه المؤسسة في أذهان الأتباع؛ الإله المهيب والعظيم والجميل، المختفي خلف سور عالٍ لا يكشف ما وراءه، والذي يقرِّب الإنسان ويقرأ ما يُخفيه صدره، وبإمكانه أن ينقلب رأسًا إلى النقيض، فيصير مستبدًّا لا يلين إذا ما انحرف الإنسان قليلًا عن مراده. لذلك يربط محفوظ بين تمرد جعفر على الجد وبين تمرده على المؤسسة الدينية في سياق واحد: "لا بقاء في بيت جدي إلا لإنسان إلهي.. أما الأزهر فإنني ما وددتُ مهنته قط.. والإيمان لا يحتاج إلى جميع تلك التعقيدات" (ص 56).


ثم يصف انطلاقة جعفر بعيدًا عن هذا المفهوم الضيق للدين والإله، في مقولته: "كانت انطلاقة ملائكية، مثل أغنية الفجر، قدَح الحب الشرارة فكشَف ضوؤها عن حُلم يتجسَّد ويتوثَّب لتحطيم جدار القصر، والانطلاق متحديًا الجاه والقيود للتمرغ في تراب الأم الخالدة" (ص 58).. إنها انطلاقة الإنسان المحمَّل بالأمانة عائدًا إلى الطبيعة الأم، عازمًا على اكتشاف العالم وبناء الحضارة، انطلاقة ستفضي حتمًا لتحطيم جدران القصر، أي ذلك التصور الديني التقليدي لوجود الإنسان على الأرض. فليس المقصود من اصطفاء الإنسان وتكليفه أن يتحوَّل لكائن إلهي كما تُطالبه السلطات الدينية، بل أن يسبر أغوار العالم ويواصل عملية الخلق، فيصير خليفة مستحقًّا للإله، وكما يصوغها جعفر: "أرفض أن أكون شيخًا محترمًا وزوجًا نبيلًا وممارسًا للطقوس والتقاليد الرفيعة لا لأنني أختار ذلك بإرادتي الحرة، ولكن احترامًا لرؤيا جدي (المؤسسة الدينية) وطمعًا في تركته" (ص 74).


وقبل مغادرة جعفر الراوي لبيت جده، يحوك محفوظ إشارة صريحة لنظرية دارون داخل نسيج الحكاية، تمهيدًا لعبورنا الحد الفاصل بين الرؤيتين، الدينية والعلمية، وذلك حين يقول على لسان جعفر: "الإنسان يخلق المنطق ولكنه يتجاوزه في حياته، والطبيعة يا عزيزي تستعمل الطفرة كما تستعمل التطور" (ص 52) .


(4)


ينتقل جعفر لعشش الترجمان، التي يُحيلنا وصفها للمجتمعات البدائية في غابات أفريقيا- القرود، الطبول، زعيم القبيلة- وهي ذات الجغرافيا التي يُشير إليها العلم كموطن للإنسان الأول. يتزوج من راعية غنم تُدعى مروانة- اسم مستوحى من الحجارة الصلدة التي استخدمها الإنسان الأول في إشعال النار- مستجيبًا لنداءات المغامرة والشهوة العارمة، غامسًا نفسه في عالم الليل والمخدرات، والمكابدة الشرسة مع مروانة وذويها، حتى تنطفئ الشهوة ويحل الفتور ويُجبَر على ترك أبنائه لأهل مروانة، لكن سرعان ما تتلقَّفه هدى صدّيق، العاشقة الثرية ذات العلم والأصل، فتمنحه مفتاح المرحلة التالية من تطوره الإنساني، بقولها: "المغامرة الحقة في رأس الإنسان!" (ص 78)، إنها المرحلة التي يصفها جعفر قائلًا: "أما هذه الخطوة فتتحقق في رحاب الرويَّة وتُحسَب بالمنطق، أنتقل بها من حال إلى حال" (ص 81)، محيلًا إلى انتقال الإنسان لمرحلة الحضارة، المدنية والتشريع والأمن ووفرة الغذاء، التي تُفسح المجال للإنسان للتفكير والتطوير وتحصيل المعرفة.


تتسارع مع التحضر والتقدم وتيرةُ تحصيل المعرفة، فيكتشف الإنسان أصوله البعيدة ويتعاظم في مخيِّلته سؤال الوجود، وتتهاوى أمامه التفسيرات المتاحة لدى المؤسسات الدينية التقليدية. يتحول لإنسان عاقل عوضًا عن الإنسان الإلهي الذي لطالما صوَّرته الأديان. لكن، هل يمنحهُ العقل حلًّا نهائيًّا لمعضلة وجوده على الأرض؟ بل يحدث العكس، فالأفكار تتخبَّط والنظريات تتصارع، فتُعيد الإنسان لأبشع صور البدائية البعيدة: القتل، يقتل جعفر بدافع الغيرة الغريزية والتعصُّب العقلي لنظريته المخلَّقة من عدة أيديولجيات، مثلما اقتتل البشر "العقلاء" في حرب عظمى أولى وثانية وحرب باردة بين الرأسمالية والشيوعية.


(5)


اعتمد محفوظ تقنية الحوار المركَّب- حوار بداخل حوار- لبناء هذه الرواية المتميزة، التي لا أجد نموذجًا يماثلها من حيث البناء سواء في الأدب العربي أو العالمي؛ بناء مبتكر، يصوغ الحكاية والأفكار عبر حوار ممتد بين دفَّتَي الكتاب، يجمع موظَّف الأوقاف ابن المؤسسة الدينية النظامية المحافِظة، مع جعفر الراوي المتمرِّد أبدًا على النموذج المعتمَد والفهم المتوارَث، وهما الوجهين المتقابلين لمحفوظ نفسه، الذي نشأ ابنًا لأسرة قاهرية متديِّنة، ثم عمل موظفًا في وزارة الأوقاف نفسها لسنوات طويلة، والذي يُضمر بداخله ذاتًا مُتسائلة وحائرة، تحترم العلم وتُقدس العقل وتحتار في مسائل الوجود، لكنها أبدًا لا تتخلى عن الإيمان؛ هو المنتمي أبدًا إلى "الراوي" الكبير، ذلك المتخفّي خلف أستار الغموض والمجهول، الراوي الذي قصَّ على الإنسان أحسن القصص (سورة يوسف، آية 3)، تاركًا له حرية التفسير والتأويل.

    الاكثر قراءة