الأربعاء 26 يونيو 2024

لا أشبه أمي

فن31-10-2020 | 16:55

"أنت شبه مامتك الله يرحمها".. جملة تستوقفني كثيراً كلما سمعتها، ما وجه الشبه بيننا، لأن العقل يبني على آخر خبرة، لكن القلب يتذكر كم كانت جميلة راقية تمضي في سبعينيات القرن السابق فخورة بنفسها، كانت تعمل بالتدريس، وترتدي أحدث الثياب، لديها مساعدة في البيت، لها نظرة ثاقبة يتبعها رأي صائب، وفجأة أصيبت بالمرض اللعين لم تستكن له، قاومته بضراوة، تغلبت عليه، تقبلت سقوط شعرها وتبدل لون بشرتها، حتى انتصرت عليه، وعادت إلى الحياة، لكنها فقدت روح السخرية والجاذبية التي كانت تتمتع بهما طوال الوقت.


في مرحلة دراستي الإعدادية كنت تلميذة   بالمدرسة نفسها التى تعمل بها، وكانت تطلب تقريرا دقيقا عن مدى انتباهي ودقة إجاباتي في كل درس، ليس تقريراً يومياً أو شهرياً، وبالتالي تفوقت تفوقاً كاذباً، وتنفست الصعداء عندما انتقلت إلى المرحلة الثانوية، بالكاد نجحت في أولى دراستي الثانوية، ويبدو أنني كنت أعوض مرحلة الرقابة المشددة.


أمي قبل مرضها كانت تشبه الفنانة برلنتي عبدالحميد، وبمرور الأعوام أصبحت تشبه الفنانة كريمة مختار شكلاً وليس موضوعاً، قوية شديدة -ناظرة مدرسة ـ عزّت علينا المساعدات في البيت، فكنت "بلية التي تحت يديها"، علمتني فنون الطهي وقد برعت فيه، أذكر أول مرة حاولنا مساعدتها لزواج مربيتنا، اقترحت على أخي أن نطهو الأرز، و"عادي جداً غسلنا الأرز" ووضعناه في إناء الطهي، لا ماء ولا ملح ولا زبدة، أتى الجيران على رائحة الشياط الصادرة من مطبخنا، أخبرتنا بعد عودتها أنها تريد تنظيم الشقة، فاقترحت على أخي إزالة السجاجيد ومسحها بالكامل، الحقيقة أغرقنا العمارة، يبدو أنني كنت محركة للشر دون أن أدري، وحفاظاً على أرواح الجيران اقترحوا عليها الإشراف علينا فترة انشغالها في العمل.


أمي كانت سيدة شديدة، فالتأخير بعد الساعة التاسعة محرم تماما، حتى بعد أن تخرجت والتحقت بالعمل، كان أصدقائي يطلقون عليّ لقب "سندريلا"، فعيناي على عقارب الساعة من الثامنة، وأتحرك في الثامنة والنصف، ويا ويلي لو تأخرت حتى التاسعة والنصف، أخبرني أبي بعد أن فارقتنا أنها في حالة تجاوزي للموعد المحدد، كانت تنطلق لتحريضه فى مواجهتى، حتى يثور عليّ، بمجرد عودتي وأقول له السبب، ويقتنع، وتقول له: "هو ده اللي قدرت عليه".


تعبت أمي من عناء سنوات العمل الكثيرة، فقررت أن تخرج إلى المعاش "معاش مبكر"، ويبدو أن المرأة التي اعتادت العمل، تختلف طبيعتها عن طبيعة "ست البيت" التي اعتادت قضاء أوقات فراغها بطرق مختلفة.


عاد إليها مرضها اللعين، لكن بضراوة أشد، حينها أخبرنا أبي أن الطبيب السابق قال له بعودة المرض بعد عشرين عاماً، قاومت أمي مرة أخرى، خاصة بعد أن صدمت أبي سيارة وأصيب إصابات بالغة أقعدته عن الحركة، توليت أمر رعايتهما معاً، مستشفيات، أطباء، أشعّات، تحاليل، علاج إشعاعي، علاج كيماوي، جسدها خذلها كما أخبرتني، اختفى رونقها شيئاً فشيئا، قاومت حتى استكانت، انتشر المرض حتى وصل عظام الجسد، أتذكر يوم أن شاهد نائب الطبيب الأشعّة، التفت برأسه إلى الجهة الأخرى وأغمض عينيه من سوء حالتها. على الرغم من صعوبة مرضها، رفضت الجلوس على الكرسي المتحرك وصاحبتها في ميكروباص المستشفى مع بعض المرضى لأخذ جلسة إشعاعية بمستشفى آخر، ثم جلسَت في الميكروباص معتدة بنفسها غير متخاذلة، فارقتنا بعد عدة أسابيع ولم تتركني بالرغم من غيبوبتها إلا وأبي يقف بجواري، كأنها خافت أن أتلقى خبر فراقها وحدى.

"نعم أنا لا أشبه أمي".