الأربعاء 26 يونيو 2024

الوعي والرصاصات الإعلامية

فن2-11-2020 | 17:33

الإعلام سلطة رابعة، ويعتبر بأشكاله المختلفة أهم وسائل تشكيل وعي المواطن بقضاياه ومشكلات مجتمعه، كما يُعد منبرًا لتوصيل أصوات الجماهير، ومنصة للمساءلة الاجتماعية لبعض الأفراد والحكومات، بل ولسياسات بعض الدول، لكن الواقع يقول: إن هذه الوظائف والأدوار الأساسية للإعلام قد تتحول وتتبدل لتكون أداة لتزييف الوعي بالقضايا والمشكلات الأساسية، فقد فقد الإعلام شفافيته ومصداقيته وحضوره لدى الجمهور العام، وأضحى أداة طيعة للنظام أيًا كان وحليفًا استراتيجيًا لأنظمتها السياسية والاقتصادية، ومتحدثًا رسميًا باسم الحكومات، وصانع الموافقة الجماعية لآرائها وقراراتها، ربما ليتفادى مقص الرقيب، أو لينعم بخيرات وحسنات الحكام، وأيًا كانت مبررات القائمين عليه؟ فالإعلام بمنصاته المختلفة سواءً كانت تقليدية (إذاعة، وصحافة، وتليفزيون) أو حديثة (مواقع تواصل اجتماعي) يشن حربًا فكرية على الجماهير من خلال توجيه عقولها نحو الاتجاه الذي يروق لصاحب التوجه سواءً أكان أشخاصا أم مؤسسات أم حكومات أم دول؛ فهو وسيلة لتعتيم الحقائق والتلاعب بالعقول وتزييف الوعي عبر الاستراتيجيات والأساليب المستخدمة، والمضامين السلبية المزيفة لوعينا على المدى القصير أو الطويل، ولما كانت هذه الأساليب متنوعة بتنوع الرسائل والمنصات والأهداف والغايات التي يسعون لتحقيقها، فسوف اقتصر على آليتين فقط في التناول وهما:     

   الأولى: التقليل من المضامين الفكرية والعلمية لصالح ساعات الترفيه والمرح، والمتتبع منا لوسائل الإعلام - وخاصة التليفزيون - يرى أنه يقود حربًا ضد كل ماهو جاد وعلمي لصالح برامج الترفيه والمرح بمختلف أشكالها، فنظرة واحدة لعدد الساعات المتاحة للبرامج الجادة العلمية والطبية والفكرية مقابل البرامج الترفيهية والمرح وبرامج الطهي يلاحظ الغلبة للترفيه، علاوة على إتاحة مساحات كبيرة من البرامج للفنانين ولاعبي كرة القدم في مقابل عدم إتاحة أية مساحة لرجال الفكر والعلماء، وقد تجلى هذا الأمر مؤخرًا في إدارة أزمة كورونا فبدلًا من الاعتماد على الأطباء في إدارة الأزمة وتوعية الناس بمخاطرها، اعتمد الإعلام على رجال الفن والرياضة في توصيل الرسالة للجماهير وأغلبها كانت مضامين فارغة بلا قيمة.

  ويُخطئ من يظن أن برامج التلسية والترفيه هدفها الهروب المؤقت من الواقع، وتحقيق حالة من الاسترخاء والمتعة، فأنواع التسلية المختلفة مشبعة بسلوكيات سلبية مؤثرة في وعينا شئنا أم أبينا، والفكرة القائلة إن الترفيه لا ينطوي على أي سمة تعليمية، هي إحدى أكبر الخدع في التاريخ !!!

 ففي كتاب شيلر"التسلية والترفيه تعزيزًا للوضع الراهن": يتناول ثلاث مؤسسات ثقافية إعلامية تقدم نفسها بوصفها "مؤسسات لا أيديولوجية" أي أنها لا تحمل قيمًا معينة تريد نشرها، وسأقصر الحديث هنا على شركة منها وهي: والت ديزني بوصفها الأشهر للقارئ العربي.

   والسؤال المهم: هل تهدف المضامين الموجهة عبر عشرات الأفلام الطويلة، والمسلسلات التليفزيونية وآلاف الكتب القصصية والهزلية والوسائل التعليمية في ديزني إلى الترفيه فقط؟ وما نوع التعليم والأفكار التى قدمها ديزني بوصفه المعلم الأعظم في هذا القرن على حد تعبير البعض؟ لقد توصل باحثان شابان كانا يعملان في شيلي وهما: (أريل دورفمان، وأرماند مايتلارت) خلال تحليلهما لكتب ديزني الهزلية إلى أن العنصرية والإمبريالية والجشع متخللة كل المضامين المقدمة والموزعة على نطاق جماهيري، وثلاثة أرباع القصص تستهدف البحث عن الذهب، وفي الربع الأخير تتنافس الشخصيات على المال والشهرة، فالتعرض لهذه المضامين يؤثر على العقل وعلى الانطباعات الذهنية للقراء والمشاهدين.

 الثانية: تتعمد أجندة وسائل الإعلام تزييف وعي المشاهد أو القارئ بإعادة ترتيب أولوياته من خلال المبالغة في الحديث عن قضايا ثانوية وإنجازات ورقية وأبطال وهميين مقابل تهميش القضايا الأساسية والأبطال الحقيقيين لتزييف وعي الرأي العام، والمبالغة في الحديث عن أخطاء ثانوية، وتجاهل الأزمات والكوارث الكبيرة، فوسائل الإعلام لا تنجح في إبلاغ الجماهير كيف يفكرون، ولكنها تنجح دائمًا في إبلاغهم عن ما يجب أن يفكروا فيه.

والواقع أن أجندة وسائل الإعلام تؤثر في المتلقي، وتثير اهتمامه، وتجعله يدركها ويفكر فيها، وتوحي له أنه لا شيء يستحق الاهتمام أكثر مما يقرأ أو يشاهد، فيبدو له أن البرامج والموضوعات التي ركزت عليها وسائل الإعلام أهم من غيرها وأولى باهتمامه، فتصبح أجندته أيضا من حيث درا أم لم يدرِ، فتركيز وسائل الإعلام على الموضوعات الفنية والرياضية، وعلى الفنانين وحياتهم ومغامراتهم تجعل المتلقي يشعر أنه لا يحدث في العالم حوله سوى المباريات الرياضية، وقصص الحب في المسلسلات والأفلام، ولا شيء آخر يستحق الاهتمام في هذه الحياة.

ولخص أحد علماء الاتصال الفلسفة السابقة بقوله: "إنه مهم جدًا لدرجة أنه حاضر دائمًا في وسائل الإعلام، والآخر تافه للحد الذي لا يُرى في وسائل الإعلام"، وهي الأفكار التي صاغها "والترليبمان" في كتابه: "الرأي العام" الصادر عام 1922.

    واستطاع المنتج ستانلي مورتس تلخيص هذه الأفكار عام 1997 في فيلم "Wag The dog"، والذي يدور حول تورط أحد رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية في فضيحة جنسية قبيل موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية مما يفقده شعبيته، فيلجأ مسئول العلاقات العامة بالحملة بمساعدة أحد مخرجي هوليوود بصرف الجماهير عن هذه الفضيحة من خلال خلق قصة وهمية لحرب ستدخلها الولايات المتحدة الأمريكية ضد ألبانيا، وتتناقل وسائل الإعلام هذه الأخبار وتتناسى قصة الفضيحة.

        كما استطاع المخرج عاطف الطيب في مصر تقديم ذلك في فيلم "الهروب"، حيث نجح في تصوير كيف تستخدم السلطة الإعلام في الإلهاء ولفت نظر الناس لقضايا فردية وإبعادهم عن القضايا الجوهرية وهو ما يُعرف بــ"تحويل الاتجاه" أو "الإدارة بالأزمة"، وهي افتعال أزمة ما لصرف الناس عن الأزمة الحقيقية"، حيث حول الإعلام – في الفيلم- مجرما عاديا أحمد زكي، إلى سفاح وبطل إعلامي كبير بفعل ألاعيب االسلطة لصرف نظر الجمهور عن قضايا جوهرية.

      ولدينا العديد من الأمثلة واقعيًا: عالميًا: أثناء حرب العراق الثالثة عام 2003 سادت الاحتجاجات والمظاهرات الرافضة للحرب عددًا من الميادين الرئيسية ببعض الولايات المتحدة الأمريكية، وأغفلت التغطية هذه المظاهرات مقابل تركيز التغطية على أسباب الحرب، والأسلحة النووية في العراق،  ومخاطر بقاء صدام حسين بالحكم، وعلاقته بتنظيم القاعدة.

      موخرًا اتهمت عشرون امرأة الرئيس ترامب بالتحرش الجنسي بهن، وبدلًا من الرد أتى ترامب آنذاك بسيدات قد اتهمن الرئيس السابق بيل كلينتون بالتحرش بهن، ووضعت وسائل الإعلام قضية كلينتون على قائمة أجندتها، وبذلك تم صرف انتباه الرأى العام عن قضية ترامب إلى قضية كلينتون.

     وفي مصر في 2 فبراير عام 2006 خرجت مئات الأسر من المصريين احتفالًا بفوز منتخب مصر على منتخب كوت ديفوار في المباراة النهائية لبطولة الأمم الإفريقية وسط تغطية إعلامية كبيرة من كل الوسائل الإعلامية، في نفس الوقت تم تجاهل تغطية غرق العبارة المصرية السلام 98 والتي راح ضحيتها المئات من المصريين، ولم يكن عجيبًا اهتمام الإعلام والقيادات السياسية وعلى رأسهم رئيس الدولة بالاحتفالات على حساب الضحايا، فالمهم أن تمر الأزمة مرور الكرام.

وفي واقعنا الآني لدينا آلاف من الأمثلة، لكن دعني أسألك مجموعة من الأسئلة:

-     ما القضايا التي حظيت باهتمام وتغطية إعلامية واسعة خلال السبعة أيام الماضية؟

-     هل حظيت أزمة السودان الشقيق (الفيضانات) باهتمام إعلامي مُرضٍ وداعم لهم من وجهة نظرك؟

-     هل وقف الإعلام موقف الشاجب المندد بالتطبيع العربي لبعض الدول مع الكيان الإسرائيلي؟

-     هل حظيت بتغطية قلقة ومحذرة من تواجد الخبراء الإسرائيليين في سقطري؟

      هذه بعضٌ من القضايا العديدة التي يجدر أن تجد اهتمامًا إعلاميًا وتغطية واسعة من الإعلام بمؤسساته المختلفة، وإذا لم نحظ بها، فعلى الأقل ليكن بحثنا الدائم عن: "الخبر الأهم والأولى باهتمامنا"، ولتكن فلسفتنا: "كذب كل ما تسمع وصدق نصف ما ترى".