كثير من المتابعات العربية للانتخابات
الأمريكية؛ وكذلك التعليقات على فوز «بايدن»؛ تكشف عن حالة فكرية ونفسية يجب
التوقف عندها؛ ليحدد كل منا موضع أقدامه، ونكتشف بعض العقليات التى تحاول أن تؤثر
فينا أو تسيطر علينا.
يمكن القول إنه حتى عدة شهور مضت؛ كان
المتصور أن «دونالد ترامب» سيفوز فى الانتخابات وأنه لا يوجد لدى الديمقراطيين
منافس له؛ وكان الحزب الديمقراطى يمر بأزمة البحث عن وجه جديد ينافس فى
الانتخابات؛ حتى جاءت كورونا، واستخف الرئيس ترامب بها، هو على المستوى الشخصى لم
يكن يلتزم بالإجراءات الاحترازية؛ كان يرفض ارتداء الكمامة وغير ذلك؛ قارن موقفه
مع الرئيس الصينى مثلًا أو الرئيس الروسى
؛ ومع ازدياد أعداد الإصابات فى الولايات
المتحدة؛ حتى صارت هى الأولى عالميا فى أعداد الضحايا وأعداد المصابين، وجدها
الديمقراطيون الفرصة السانحة، فخرجت هيلارى كلينتون تندد بسياسات ترامب مع كورونا،
رغم أنها ظلت صامتة منذ 2016 وخرج الرئيس أوباما ينتقد سياسات ترامب؛ وأمسك بها
المرشح «جو بايدن»؛ وهكذا فإن السبب الأكبر لخسارة ترامب هو فشله فى التعامل مع
أزمة كورونا أى أنه خسر لسبب محلى تماما؛ لم يخسر كما يتصور البعض لأنه أعلن ما
أطلق عليه «صفقة القرن» وليس بسبب أن أقر خطوة الحكومة الإسرائيلية بنقل عاصمتها
إلى القدس؛ باختصار لم يكن الشرق الأوسط بكل قضاياه عنصرا حاسما فى الانتخابات
الأمريكية؛ وهذا أمر واقع يجب أن نقر وأن نعترف به؛ ولا نخدع أنفسنا؛ وفى معظم
الانتخابات الأمريكية يفضل الناخب المرشح الذى يعبر عن قضايا الحياتية المباشرة،
هذه المرة كانت قضية الكورونا ومعها كل القضايا الصحية للمواطن الأمريكى هى التى
حددت بوصلة الاختيار؛ التى ركز عليها المرشح جو بايدن؛ أما الرئيس ترامب الذى
تنتهى ولايته فى السادس من يناير القادم؛ فإنه أيضا كان يبرر عدم اتخاذ المزيد من
الإجراءات بخصوص كورونا لأسباب اقتصادية؛ تتعلق بحياة المواطن اليومية؛ كانت وجهة
نظره أن إغلاق المدن بالكامل؛ معناه توقف الحياة التجارية والمصانع؛ بما يمكن أن
يؤدى إلى انهيار اقتصادى يدفع ثمنه ملايين الأسر؛ التى سيفقد عائلوها فرص العمل
والرزق؛ وهذا يعنى أن طرفى المعركة الانتخابية دارا حول قضية داخلية بامتياز، وليس
حول قضايا لمنطقتنا وبلادنا.
لو أدركنا ذلك فإن المهللين لفوز بايدن
عليهم أن يتريثوا قليلًا والحزانى لخسارة ترامب عليهم أن يمسكوا بمشاعرهم قليلًا.
• يتصور البعض أن بايدن سوف يعيد جماعة
الإخوان الإرهابية إلى المشهد؛ أن يتصور الإخوان ذلك فهذا شأنهم وقد اعتدنا منهم
الغباء السياسى والتعلق بقشة الأجنبى، هم كذلك من أيام حسن البناء وعلاقاته
بالاحتلال البريطانى؛ أما أن يتصور بعضنا ذلك؛ فلابد أن نقول لهم بملء الفم
مخاوفكم مبالغ فيها؛ مصدر المخاوف أن بايدن كان نائبا للرئيس أوباما؛ عراب الإخوان
سنة 2012 وكان زميلا لهيلارى كلينتون الداعم الأخير للإخوان والتى تبنت - تقريبا-
محمد مرسى وخيرت الشاطر؛ نعم هذا حدث؛ لكن تفاصيل المشهد تنبئنا بأن دعم الإخوان
كان نهجا أمريكيا؛ وجدناه من الرئيس بوش الابن؛ الذى ضغط خلال انتخابات مجلس الشعب
سنة 2005 لصالح الإخوان وكان يلح ويضغط على الرئيس مبارك ليترك الإخوان فى الحكم؛
ثم جاء أوباما من بعده وأكمل المشوار.
كانت السياسة الأمريكية تراهن على أن
الإخوان يمكن أن يتسلموا المنطقة؛ومارس أوباما ذلك منذ سنة 2011 لكن خاب رهانهم
وفشل الإخوان فشلا ذريعًا؛ وقامت ثورة 30 يونيه.، أثناء وجود أوباما؛ واتخذت
قرارات 3 يوليو 2013 فى وجود أوباما وتولى الرئيس عدلى منصور؛ وأمام نزول 30 مليون
مصرى إلى الشارع لم يكن ممكنا للإدارة الأمريكية أن تفتح فمها بكلمة وتتدخل؛
وليتنا نتذكر أنه حين طلب وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسى من ملايين
المصريين النزول لتفويض القوات المسلحة لمواجهة الإرهاب؛ يومها صدر عن الإدارة
الأمريكية تصريح بأنها لا تحبذ نزول ملايين المصريين إلى الشوارع مرة أخرى؛ وأنهم
يريدون من وزير الدفاع المصرى أن يعيد النظر فى مطلبه إلى المصريين تخوفا من أن
يؤدى ذلك إلى أعمال عنف؛ ومع ذلك لم يتراجع وزير الدفاع ونزل عشرات الملايين
وقدمنا التفويض، ومازال التفويض قائما إلى اليوم.
باختصار الكلمة للشعب المصري؛ فى ذلك الصيف
غاية ما فعلته الإدارة الأمريكية أن عرقلت عملية صيانة بعض الأسلحة لدينا؛ التى
استوردناها منهم؛ فكانت النتيجة أن اتجهت مصر إلى «تنويع مصادر السلاح» ؛ وبهذه
الخطة صار جيشنا هو التاسع عالميًا؛ من حيث التسليح والتدريب.
وفى سنة 2014 بعد انتخاب الرئيس عبد الفتاح
السيسى رئيسا للجمهورية وفى رحلته الأولى إلى الولايات المتحدة لحضور اجتماعات
الجمعية العامة للأمم المتحدة استقبله الرئيس أوباما وحاول أن يكون ودودًا؛ وقال
للرئيس كلمات طيبة؛ والتقت هيلارى كلينتون بالرئيس وحاولت فى اللقاء أن تنفض يدها
من الإخوان ومن رجلهم فى الاتحادية د. محمد مرسى؛ وقالت حاولت أن أنصحه؛ لكنه لم
يستجب؛ وفى تلك الزيارة التقى أساطين الحزب الديمقراطى بالرئيس السيسى منهم هنرى
كيسنجر ومادلين أولبريت؛ ليؤكدوا جميعا احترامهم لاختيارات الشعب المصرى ومساندتهم
لمصر.
الإخوان ثبت فشلهم الذريع وهم الآن مجموعة
من الفلول يحتمون بالرئيس التركى أردوغان المكروه دوليا، ولم تراهن أى إدارة
أمريكية على جماعة لا وجود لها فى الشارع المصري؛ ولا فى الواقع؛ هم مجموعة فلول
أو مرتزقة لدى أردوغان؛ وغاية مناهم أن يبقى محتفظا بهم كذلك فى حظيرته.
باختصار من يتصور أن الرئيس الأمريكى
المنتخب؛ سوف يكون مندوب مكتب الإرشاد أو التنظيم الدولى للجماعة الإرهابية داخل
البيت الأبيض واهم، «بايدن» ابن المؤسسة الأمريكية وابن الدولة العميقة ؛ وما يهمه
هو الصالح الأمريكي، الإخوان كانوا مجرد أدوات لديهم، وثبت أنهم أدوات مشلولة، أما
تصريحات بايدن أثناء الانتخابات عن المسلمين فى الولايات المتحدة، فهذه عن مواطنين
أمريكيين؛ ولدوا بها وتم تهميشهم فى السنوات الأربع الماضية؛ فضلا عن ذلك فهى
تصريحات انتخابية مثلها مثل تصريحاته عن إسرائيل وعن الصهيونية؛ قال إنه ليس
يهوديا ولكنه صهيونى.
وفى العموم فإننا سوف نرى مشهدا جديدا خلال
العام القادم، الإخوان الآن فى حظيرة الرئيس التركى وكفالته؛ ونعرف أن بايدن أعلن
عن توقيع عقوبات على تركيا بسبب صفقة صواريخ إس ٤٠٠ مع روسيا والتى يعتبرها البنتاجون
تهديدا للسلاح الأمريكي؛ بايدن هاجم ترامب لأنه لم يفرض عقوبات على الرئيس التركى؛
وإذا نفذ بايدن ما قال به؛ سوف يكون على الإخوان السعداء بفوز بايدن الاختيار بين
أحدهما (أردوغان.. بايدن)؟
الإخوان فى مصر؛ كما هم فى عدد من بلاد
المنطقة؛ باتوا خارج الحسابات السياسية والدولية الكبرى.، النموذج أمامنا فى تونس
مع حركة النهضة. حيث التراجع الشعبى والفشل وفقدان الثقة بهم دوليا. وإذا كان
الشعب المصرى أزاح الإخوان وهم فى السلطة وكانت الإدارة الأمريكية تساندهم؛ فهل
يمكن أن يعودوا إليها وهم خارج مصر؛ وباتوا جماعة إرهابية فى نظر معظم دول الغرب،
ومفرخة للإرهاب وللإرهابيين.
أما الرئيس ترامب فإنه لم يتخذ موقفا صارما
من الإخوان، ووعد فى حملته الانتخابية سنة 2015 أن يدرج الإخوان كجماعة إرهابية
بمجرد دخول البيت الأبيض، ولم ينفذ ذلك، نعم هو لم يدافع عن الإخوان؛ لكنه لم يتخذ
منهم موقفا عدائيا؛ هو تجاهل ذلك الملف، وكان مشغولا بأمور أخرى؛ هو اكتفى بتصريح
أنه يساند مصر فى معركتها مع الإرهاب والإرهابيين.
لا نعرف أنه حاول إدراج الإخوان كجماعة
إرهابية ورفض طلبه، باختصار كانت لديه ولدى الكونجرس قضايا أهم؛ الإخوان قضيتنا
نحن وقضية دول المنطقة.
معركة الانتخابات الأمريكية كشفت أن معظم
النخب فى المنطقة العربية يعلقون آمالهم على الإدارة الأمريكية؛ ومن يتحدثون عن
الديمقراطية ينتظرون المدد الأمريكى، الذين يريدون شكم إسرائيل يتوقعون المساندة
الأمريكية؛ وهو أمر أشبه بعشم إبليس فى جنة ربنا؛ الإخوان دائما يتعلقون بقوة
أجنبية؛ لذا لا نجد غرابة فى تهليلهم لفوز»بايدن».
الحل هنا وليس هناك؛ فى بلادنا ومن شعوب
المنطقة؛ الإدارة الأمريكية راهنت على الإخوان حين وجدوا أنهم ينالون ثقة
المواطنين فى انتخابات مجلس الشعب سنة 2005 بالإضافة إلى أن الإخوان قدموا أنفسهم
للأمريكيين، باعتبارهم من المؤمنين بالحلم الأمريكى والسائرين على دربه؛ عصام
العريان قالها ذات مرة فى أحد اجتماعاته معهم نحن جماعة علمانية؛ لا تحاسبونا على
اسمنا وصدقهم الأمريكان؛ لكن كما يقول المصريون «المياه تكذب الغطاس» وصل الإخوان
إلى الحكم فى سنة 2012 وتبين فشلهم وعجزهم التمام، فى السياسة الدولية لا أحد
يراهن على جماعة فاشلة وعاجزة، الفاشلون ينفض العقلاء أيديهم منهم؛ فلا مبرر لقلق
ومخاوف البعض، هو قلق مبالغ فيه ومخاوف فات أوانها وزمانها.
الولايات المتحدة إلى الآن دولة عظمى؛
لديها الكثير من الأزمات، وعلاقتنا بها منذ سنة 1974 وهى ليست علاقة رئيس برئيس؛
ولكن دولة عريقة بمؤسساتها وهى مصر؛ ودولة إقليمية كبرى؛ يهم الولايات المتحدة أن
تحافظ على علاقاتها معها؛ كما يهمنا نحن أيضًا تلك العلاقات.
تاريخيا كانت الكلمة للشعب المصرى؛ الإدارة
الأمريكية أى إدارة لن تقف ضد إرادة المصريين بشكل مباشر؛ لأنها لو فعلت ذلك فإنها
تخسر سمعتها الدولية كبلد ديقراطى؛ والنماذج أمامنا عديدة فى تاريخنا؛ نكتفى
بالإشارة.
إلى ثلاثة منها:
- الأولى: كان الرئيس الأمريكى ويلسون قد
أطلق تصريحات سنة 18 أنه بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى من حق الدول المستعمرة
أن تنال استقلالها، هزت تلك التصريحات بعض المصريين، وانطلقت شرارة ثورة 19
ومجاملة للإنجليز تراجع ويلسون عن تصريحاته وساند الإمبراطورية البريطانية، لكن
المصريين لم يتوقفوا، وقامت ثورتهم وتحققت بعض مطالبهم، ولم يكن أمام ويلسون
وبريطانيا سوى الانحناء أمام هذه الثورة، ونالت مصر استقلالها فى تصريح 28 فبراير
سنة 1922 نعم كان استقلالًا مشروطًا لكنه فتح الباب للاستقلال التام.
- الثانية: فى الخامس من يونيه 1967 تعرضت
مصر لعدوان من إسرائيل، تبين أن الرئيس الأمريكى جونسون أعطى الضوء الأخضر به، كان
جونسون يمقت الرئيس عبدالناصر من أيام تأميم قناة السويس، وكان هدفه أن يتم
الإطاحة به، إثر الهزيمة، ولكن هب المصريون فى 8 و 10 يونيه 1967 يرفضون تنحى
عبدالناصر، ولم يكن للإدارة الأمريكية أن تتدخل فى هذا الأمر، وما إن توفى جونسون
حتى جاءت إدارة جديدة عملت مع الدولة المصرية على استعادة العلاقات.
- الثالثة: عشناها جميعًا سنة 2013 ويهمنا
فيها أن صوت الشعب المصرى كان الأقوى، وقد واجهنا الإرهاب سنة 2013 فى سيناء دون
مساندة أو دعم من الإدارة الأمريكية، ونجحنا فى ذلك، لكن على مستوى مؤسسات الدولة
لنا علاقات قوية وعميقة، أتحدث عن وزارة الخارجية هنا وهناك، لنتذكر أن رفض الشعب
المصرى للسفيرة باترسون، دفع الإدارة إلى سحبها من مصر، قبل أن تكمل مدتها.
باختصار التعامل ليس فقط مع الرئيس
الأمريكى، لكن مع المؤسسات العميقة، وهذا ما يجب أن نحرص عليه، وللمتخوفين، فإن
الدولة المصرية سنة 2020 ليست هى دولة سنة 2021 والولايات المتحدة سنة 2020 ليست
هى نفسها سنة 2011 موازين القوة لم تعد كما كانت وعوامل الضعف التى كانت عندنا
ليست قائمة الآن.. فى سنة 2011 كان لدينا احتدام طائفى إسلامى قبطى وكانت لدينا
أزمة التوريث التى أضعفت النظام السياسى، وكان لدينا رئيس تجاوز الثمانين من
العمر، وتعرض لعدة أزمات صحية، وكانت الولايات المتحدة هى القوة العظمى الأولى
والوحيدة، الآن تغير الأمر، هناك روسيا والصين، وهناك احتدام فى الداخل الأمريكى
وأزمة كورونا وما تبعها من أزمات اقتصادية وعلاقات فردية مع الاتحاد الأوربى ومع
الصين وغيرها.
لهذا كان يجب أن نكون أقل قلقًا وأكثر ثقة
بأنفسنا وبالدولة المصرية.