الأربعاء 3 يوليو 2024

بلقيس.. المرأة التى بهرها سليمان وخلد قصتها القرآن

سيدتي25-12-2020 | 20:40

مرت العصور وتتابعت الأجيال، وقصة "بلقيس" ما تزال حديثاً يروى وقصة تستعاد، وصورتها ما تزال تتراءى من أعماق ذلك الماضى السحيق الموغل فى القدم، ساطعة البهاء نابضة بالحياة، قد أعيا الزمن أن يطمس معالم فتنتها، أو يحجب شيئاً من روائها وسناها، أو ينحى عنها تلك الظلال الأسطورية التى حفت بها فزادتها سحراً على سحر.

وقف التاريخ أمامها حائراً مبهوراً: لقد ظل آماداً طويلة يتجاهل وجودها ويحسبها من مبتدعات السمار وخيالات القصاص.

لكن الكتب الدينية المنزلة جاءت فاعترفت بها اعترافاً صريحاً جهيراً، لم يعد من السهل معه أن يهدر التاريخ وجودها وماذا يجدى الإهدار وقد أضفى عليها ذلك الاعتراف السماوى حرمة دينية، فصار من العسير انتزاع الإيمان بها من قلوب الملايين الذين آمنوا بما أنزل على موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام!

ثم جاءت الحفريات فأثبتت وجود كثير من معالم الدنيا التى كانت مسرحاً لتلك القصة التى فاقت الأساطير.

تبدأ القصة فى القرآن، حين ورث "سليمان" الملك والنبوة والحكمة عن "داود" عليهما السلام، ثم حباه الله بفضل منه، فعلمه منطق الطير وسخر له الجن، وحدث أن افتقد "سليمان" طائره الهدهد، فتوعده بعذاب شديد إن لم يقم له عذر مبين فى هذا الغياب، وجاء الهدهد، وعلم سليمان بأمر ملكة سبأ وعرشها العظيم، وسمع أنها وقومها يسجدون للشمس من دون الله، لا إله إلا هو رب العرش العظيم فما كان من "سليمان" إلا أن كتب إليها كتاباً، طار به الهدهد إلى سبأ، وألقاه إلى الملكة التى تلته فى عناية، ثم قالت لأهل مشورتها: "يا أيها الملأ إنى ألقى إلى كتاب كريم.. إنه من سليمان، وإنه: بسم الله الرحمن الرحيم، ألا تعلوا على وائتونى مسلمين".

ثم سألتهم الفتيا والرأى قائلة: "يا أيها الملأ أفتونى فى أمرى، ما كنت قاطعة أمراً حتى تشهدون.. قالوا: نحن أولو قوة وأولو بأس شديد.. والأمر إليك فانظرى ماذا تأمرين.. قالت: إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة.. وكذلك يفعلون.. وإنى مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون.. فلما جاء سليمان، قال: أتمدوننى بمال، فما آتانى الله خير مما آتاكم، بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم، فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون".

وتمضى القصة القرآنية، فتروى لنا كيف وفدت ملكة سبأ على سليمان تبغى المسالمة، فما راعها إلا أن رأت عرشها هناك، فقيل لها: "أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو!".

وقاد سليمان ضيفته إلى صرح ممرد لم يسبق لها أن رأت مثله، "فلما رأته حسبته لجة، وكشفت عن ساقيها، قال: إنه صرح ممرد من قوارير".

إذ ذاك شعرت الملكة بضآلة سلطانها وتفاهة ملكها، أمام الذى شهدت من آيات ملك سليمان، وجبروت سلطانه، ومعجزات نبوته فلم تتردد بعد ذلك فى الإيمان برب سليمان، وقالت فى خشوع: "رب إنى ظلمت نفسى، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين".

هذا هو جوهر القصة كما وردت فى القرآن الكريم، مكتملة العناصر، متسقة المواقف، مترابطة المشاهد، لكن دون اهتمام بالجزئيات أو عناية بالتفصيلات، فما كان يعنى القرآن منها - وهو كتاب هداية ودين - إلا موضع العبرة ومضرب المثل وعنصرالعظة والهداية: ملكة ذات جمال وسلطان ورأى، تعبد هى وقومها الشمس من دون الله، فيأبى سليمان النبى إلا أن يردها عن هذا الضلال، ويبعث إليها على جناح طير، برسالة موجزة ما تكاد الملكة تقرأ ما فيها حتى تدرك بفطنتها ما وراء هذه الكلمات القصار من جد وحزم وتصميم، وترى الأمر أخطر من أن تبت فيه وحدها أو تستقل فيه برأى قاطع، فتجمع مستشاريها وتسألهم أن يفتوها، فيظهرون اعتداداً بقوتهم وبأسهم الشديد، معلنين بذلك عن استعدادهم لمواجهة هذا الخطر، تاركين للملكة بعد هذا، الكلمة الأخيرة، فلتأمر بما شاءت، فهم جندها الأقوياء ورعاياها المخلصون الأمناء.

فمن تكون ملكة سبأ هذه التى بدت فى القرآن الكريم ذات فطنة ورأى وسلطان، وخبرة بتدبير الملك وأساليب السياسة؟

وما صفة هذا العرش الذى قال فيه القرآن الكريم "عرش عظيم" فأضفى عليه سمة من جلال حين وصف العرش الإلهى فى السياق نفسه بالعظمة؟

وما مدى قوة سبأ، رعايا الملكة الذين قالوا فى اعتداد: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد"؟

وأى شىء كانت هدية الملكة، لملك نبى، تهابه وتشفق من واجهته بالمخالفة والعداء الصريح؟

وكيف كان هذا الصرح الممرد، الذى أذهل ربيبة القصور، إلى حد أن حسبته لجة فكشفت عن ساقيها اتقاء الماء، ولم تفطن إلى حقيقته حتى قال لها سليمان: إنه صرح ممرد من قوارير؟

أسئلة جالت بخواطر كثيرين من تلوا القصة المنزلة، وراجوا يلتمسون الجواب عنها فى فضول غالب وشوق مستثار، فكان أهل الكتاب - من يهود الحجاز - هم الذين تولوا إرضاء هذا الفضول بما أوتوا من علم بأساطير الأولين.

ومن ثم راجت فى الأفق الإسلامى، ذائعات شاذة، ملأت قصة ملكة سبأ بإضافات وحواش دخيلة، وامتلأت كتب التفسير بهذه الإسرائيليات التى تضخمت تضخماً أسطورياً: فقيل - فيما قيل - أن أم بلقيس كانت من الجن، أما أبوها فالمشهور عند المسلمين أنه شراحيل ملك أرض اليمن كلها، وقد ورث الملك عن آبائه وأجداده الذين تعاقب منهم على العرش أربعون ملكاً، ثم جلست عليه "بلقيس" حين مات أبوها وليس له ولد سواها.

وذكروا فى وصف عرشها، أنه كان ثمانين ذراعاً فى ثمانين، وسمكه ثمانون كذلك، وكان من ذهب وفضة، ترصعهما أنواع من الجواهر، أما قوائمه فكانت من ياقوت أحمر وأخضر ودر وزمرد!

وحددوا مقر ملك بلقيس، فى قصر مأرب قرب صنعاء اليمن، وذكروا أن الهدهد حين أتاها بكتاب سليمان، ألفاها راقدة فى مخدعها بالقصر، وقد غلقت الأبواب جميعاً عليها، فنفذ من كوة هناك وطرح الكتاب على نحرها وهى مستلقية، وقيل إنها كانت فى غفوة، فنقرها فانتبهت فزعة، وقيل أتاها والقادة والجنود حواليها، فرفرف ساعة والناس ينظرون، حتى رفعت رأسها فألقى الكتاب فى حجرها، وكانت قارئة كاتبة عربية، لأنها من نسل ملوك حمير.

أما أهل مشورتها، فأحصوا عددهم: ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، كل واحد منهم على عشر آلاف!

وكان حظ الهدية الملكية من تفانين الخيال جماً وفيراً، فروى "أنها بعثت إليه خمسمائة غلام أمرد عليهم ثياب الجوارى وحليهن الأساور والأطواق، وخمسمائة جارية فى زى الغلمان، راكبات خيلاً مسرجة بالديباج المنسوج بالذهب، وملجمة بأعنة ذهبية مرصعة بالجواهر، كما بعثت إليه ألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت، ومسكاً وعنبراً، وحقاً فيه درة عذراء لم تثقب..، كما سمت القصة من رسل بلقيس إلى سليمان، المنذر ابن عمرو من أشراف سبأ.

ولم تمر مسألة الإهداء ببساطة، بل حددوا موضوع الامتحان وأسئلته فإن كان سليمان نبياً ميز بين الغلمان والجوارى، وثقب الدرة ثقباً مستوياً ! وإن نظر إلى رسول بلقيس غضبان فهو ملك، يهون أمره، أما إذا بدا لطيف المحيا فهو نبى!

وكان حفل استقبال سليمان لبلقيس عجباً : قيل إنه أمر الجن فصنعوا قوالب من ذهب وفضة، رصفوا بها بين يديه ميداناً طوله سبعة فراسخ، وجىء بأحسن دواب البر والبحر، فربطت على يمين الميدان ويساره، ثم قعد على سريره، واصطفت جنوده من الإنس والجن والوحش والطير، صفوفاً أربعة متميزة، يمتد كل صف منها إلى آخر مرمى البصر.

وبقى للصرح الممرد بعد هذا كله، نصيبه من التهاويل وتفانين الخيال: فقيل إن الجن خافوا أن يفتتن سليمان بجمال بلقيس الساحر، فيتزوجها فتفضى إليه بأسرار لهم احتفظوا بها، وعرفتها هى - دون البشر - لأن أمها جنية "وقيل إنهم خافوا أن يكون له منها ولد، تجتمع له فطنة الجن والإنس، فحاولوا جهدهم أن يصدوا سليمان عن الافتتان بحسن بلقيس، وزعموا له أن رجلها كحافر الدابة، وأن ساقها شعراء مشوهة، فاحتال سليمان بهذا الصرح الممرد الذى حسبته بلقيس لجة، فكشفت عن ساقيها، فإذا هى أجمل الناس ساقاً وقدماً!

واختتمت القصة بالإعجاب المتبادل: أعجبت بلقيس بحكمة سليمان ودينه فأسلمت معه لربه، وأخذ هو بسحر جمالها الفتان، فأحبها حباً شديداً، وتزوجها، وأقرها على ملكها، وأمر الجن فبنوا لها الحصون والقصور، وكان يزورها فى الشهر مرة فيقيم عندها ثلاثة أيام، ومن نسلهما جاء ملوك الحبشة واليمن!

وواضح من هذه الأسطوريات أنها من تهاويل الخيال، وأنها بعيدة كل البعد عن روح القصص القرآنى، مجافية لأسلوبه فى البيان المعجز، منافية لمألوف صنيعه فيما يتناول من أخبار الأولين وقصص الغابرين، حيث يكتفى - كما قلت - بموضع العبرة ومضرب المثل، ويستهدف الهداية التى هى مناط التنزيل.

وإنما راجت هذه الأساطير لأنها أرضت الفضول المستثار، لمعرفة تفاصيل القصة المثيرة التى نزل بها الكتاب الحكيم مجملة موجزة، وخدع بها المفسرون لأن من بين الذين جاءوا بها، يهود أسلموا وحسن فى الظاهر إسلامهم أمثال وهب بن منبه وكعب الأحبار، على أن من المفسرين من أنكروا تلك الأباطيل الدخيلة على الإسلام، ولفتوا إلى خطرها ففى تفسير "البغوى" أن رجلاً سأل عبدالله بن عتبة عما كان من أمر بلقيس بعد إسلامها، هل تزوجها سليمان؟ فأجاب: إن مبلغ علمه أن أمرها انتهى إلى قولها: "وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين".

وأورد "ابن كثير" كل هذا الحشد من الأساطير فى تفسيره لآيات سورة النمل، ثم عقب عليها قائلاً: "والأقرب فى مثل هذه السياقات، إنها متلقاة عن أهل الكتاب مما وجد فى صحفهم، كروايات كعب ووهب، سامحهما الله تعالى فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بنى إسرائيل، من الأوابد والغرائب والعجائب، مما كان وما لم يكن، وقد أغنانا الله سحبانه عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ، ولله الحمد والمنة - 6/829".

ومع استيعاد كل ما أقحم على قصة بلقيس من أساطير، وتجريدها مما أضيف إليها من أوابد وغرائب، تبقى القصة بعد ذلك، نفحة من سحر هذا الشرق وعطره، ومزاجاً عبقرياً من روحانيته وماديته، وتتجلى "بلقيس" فى عنفوان جمالها، وروعة جلالها، وذكاء أنوثتها، نموذجاً أصيلاً لحواء هذا الشرق بكل سره وسحره، ومثالاً عجيباً تلتقى فيه الأرض بالسماء، والآدمية بالنبوة، والحقيقة بالوهم، والتاريخ بالأسطورة، والواقع بالخيال.