السبت 29 يونيو 2024

إلا "الصَّنم" التُّركي

أخرى21-1-2021 | 14:14

استقدم العرب قبل قُرابة 1700 سنة الأصنام إلى وطنهم الأم الجزيرة العربية، ولم يكن عمرو بن لحيِّ الخُزاعي يعي أنها ستجد إيمانًا مُنقطع النظير بين قومه إلى الدرجة التي يُحافظون على اعتقادهم بها أكثر من 300 سنة، حتى بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، فظلَّ المؤمنون بالأصنام ينافحون عن إيمانهم سنين.

لن نعود إلى ذلك الزمن البعيد بقرونه لنُقيِّم العقل العربي في حينه، للفارق في معطيات عصر الأصنام، على رغم أن ذلك لا يُعفي المنطق العقلي من أن يُربأ به أن ينزلق إلى الإيمان بضُرِ ونفعِ ما تصنعه يديه، ابتداءً بهُبل "الشام" وانتهاءً بإله التمر مُطعم من كان يعبده لحظة الجوع.

غير أنَّ الأمر يتكرر بصيغٍ أُخرى وقناعات جديدة باستقدام الرمزيَّة الإيمانية، التي تتأصل في خيالات أجيال على أنها الحقيقة بكل تفاصيلها، وكل ما يتعارض معها يُصنَّف كحالة حرب على القناعات والإيمان مهما كانت صيغه.


انتهت السيطرة التركية على العالم العربي منذ أن مُكِّن للعربِ أن يتخلصوا من شرِّها المُستطير، وزبانيتها الذين استنزفوا الكرامة العربية أربعة قرون تقريبًا (1517-1924)، بينما لم تزل قضية التُّرك حيَّةً في أدبيات الصراع الثقافي والسياسي بين العرب أنفسهم قبل أن تكون بين العربِ والتُّرك باعتبارها قومية وهوية وثقافة.

ومن دون أن نخوض في تفاصيل الصراعات والتحولات في العالم العربي تجاه الأتراك والحقبة العثمانية المُظلمة، لأنها ستبقى في قناعات المدافعين عن تلك الحقبة صراع الإيمان ونقيضه، مع أن التاريخ ليس جزءًا أساسًا من العقيدة.

لكننا يجب أن نعترف بأن قوميتنا تمر بأزمة حقيقية في صراعاتنا البينية التي يُمثل الآخر طرفًا فيها، وتتصاعد هذه الأزمة في الارتباط بالآخر التركي، بين مبدأ ديني إسلامي أو جعل "التركيَّة" قومية موازية للعربية بغض النظر عن أي ارتباطات أخرى.

وبالمناسبة لم تدخل قوميتنا بأيِّ صراع طويل مع قوميات كثيرة مرتبطة بها بحكم الجغرافيا أو التاريخ أو الدين، بما يجعلها تمثل قضية داخلية مُعقدَّة كما هي مع الجنس التركي. ولكن تكمن الأزمة في هذا الانقسام العربي بناءً على الارتباط التاريخي ومداولة العرب مع الأتراك السلطة والزعامة.

والأتراك أنفسهم أحدثوا الأزمة في الداخل العربي؛ حين اخترقوا العقول بالارتباط الديني، فالذين قتلوا قرابة مليون وسبعمائة عربي خلال أربعة قرون من دون أي ذنب يبرر القتل، هم أنفسهم من يقولون: إننا نرتبط معكم دينيًّا.


فحالة التخدير الديني المُمارس على العرب جعلت بعضنا يُكذِّب التاريخ بمصادره وشواهده وذكرياته بأن الأتراك سَبَوا العربيات وحولوهن جواري في القصور والبلاطات في أكثر من حدث تاريخي، وتعمدوا تهميش العرب بقصد تجهيلهم بسلب مادياتهم الحضارية، ونقل كل مظاهر الحضارة من أمتنا إلى أمتهم، وأرسلوا الجيوش المتوحشة إلى أرضنا فقتلوا الصغير والكبير والمقاتل والمُسالم واغتصبوا الأعراض، وفرضوا علينا أن نرضى عن تعليق المشانق في حق أجدادنا، وعن تهجيرنا من أراضينا بالقوة، والدفع بنا في أرض المعركة من دون أن يكون لنا أي مصلحة سوى الحفاظ على عرش المنتفخ التركي، وعينوا الولاة المولَّدين والموالي على بلادنا، فاستغلوا خيراتنا في زيادة أموالهم، وهم من نشروا جنودهم في أسواق العرب يأخذون منها من دون ثمن، وفي التاريخ ما هو أكثر قسوةً ووجعًا من ذلك، لكننا نخجل من أن نسوقه في ذاكرة الأجيال المقبلة، حفاظًا على مشاعرهم.

كل ذلك لم يكن لمرةٍ واحدة في التاريخ إنما هي أحداث متكررة ومتشابهة في كثير من الأراضي العربية، وحين أردنا التحرر من الجبروت والظلم وصفونا بالخونة.


اليوم بعد كل هذا الوجع التاريخي؛ يأتي من يقول "لا فرق بين عربيٍ ولا أعجميٍ إلا بالتقوى"، نعم لا فرق في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حين يُقام العدل، لكن الفرق يحدث حين يتنمر عليك الأعجمي ويريق كرامتك العربية على الأرض، يحدث الفرق حين يخبئ العربي نساءه في جحور الأرض مع أطفاله، حتى لا يُغتصب عرضه ويُسترقُّ أبناؤه، يحدث حين تُصبح مهمشًا بيد من كانوا عبيدًا لك ليكونوا أسيادًا عليك.

يئِن التاريخ بكل تفاصيله وأحداثه وشواهده...

أولئك الذين يتململون وهم يقرأون ويُزمجرون ظنًّا منهم أننا نتجنى على التاريخ؛ عليهم فقط أن يعودوا لمن عاصروا التاريخ وكتبوه، من ابن طولون وابن إياس وابن فهد المكي إلى وكالات الأنباء العالمية الحالية ليقرأوا ويقنعوا أن التركي لا تتغير سياسته في تطويع غيره، خاصةً تجاه العرب.

لذا لا تجعلوا من التركي صنمًا كما استقدم عمرو "هُبل"، ولا تجعلونا ننافح أجيالاً في هدم هذا الصنم المستفز.

حديثي للعُقلاء العرب من غير المؤدلجين المُتحزِّبين الحركيين، والمرتزقة المشردين في "إسطنبول"، والجرذان المُختبئة بيننا، والغوغائية المقنعين في مواقع التواصل الاجتماعي بأنواعها... لأن هؤلاء استثناء من الكرامة العربية، فلكل رأس مال هامشه، وهم هامش الكرامة المُراق على الأرض زكاةً للأمَّة.  

 كاتب سعودي