السبت 27 ابريل 2024

المستشرقة الألمانية آنا مارى شيمل وخدمتها للإسلام والتصوف

مقالات11-6-2021 | 12:40

الاستشراق (Orientalism)‏: هو حركة فكرية وفلسفية تم تأسيسها فى بريطانيا بغرض فهم الثقافة والفلسفة والأديان فى بلاد الشرق فترة الاستعمار البريطانى للهند فى أواسط القرن الثامن عشر. ثم توسعت حركة الاستشراق فى الدول الإستعمارية كبريطانيا، فرنسا، وألمانيا، ودُرِست من قبل الأكاديميين فى أروقة الجامعات والمعاهد العلمية بصورة أكثر منهجية، وشملت الشرق الأقصى والأدنى والأوسط بما فيها الدول العربية.

 

ورغم أن الاستشراق حركة استعمارية فى أصلها تستهدف البنية الثقافية والفكرية فى الدول المستهدفة، وتزيف تاريخها وأديانها أحياناً، بغرض مساندة المحتلين عسكرياً وسياسياً فى تنفيذ أهدافهم.. إلا أنه ظهر قلة من أولئك المستشرقين قد تحولوا عن هذا النهج إلى الموضوعية والإنصاف، وقام بعضهم بخدمة الإسلام عبر تصانيفه المفيدة للمسلمين قبل الباحثين فى جامعات الغرب. ومنهم من أسلم وأعلن إسلامه كـ"روجيه جارودى"، و"دينيه" الذى سمى نفسه الشيخ عبدالواحد يحيى، وقد ترجم كتبه إلى العربية فضيلة الإمام الراحل عبدالحليم محمود.

 

ومن أبرز المستشرقين المهتمين بالتصوف الإسلامى فى القرن الماضى الدكتورة "آنا مارى شيمل"، وهى مستشرقة ألمانية وأستاذة للثقافات الإسلامية والهندية فى جامعتى هارفارد وبون. ولدت عام 1922، وتوفيت عام 2003.

تعلمت "مارى" اللغة العربية عام 1937. وكان عمرها خمسة عشر عاماً كما تعلمت الفارسية والتركية لشغفها بدراسة الاسلام وتاريخه، ورسالتها الأولى فى الدكتوراة كانت عن علماء الدين فى المجتمع المملوكى بمصر.  وعبر مشاركتها فى مجلة "فكر وفن"، قدمت "مارى شيمل" لأغلب الشعراء العرب المعاصرين، مثل نازك الملائكة وصلاح عبدالصبور ونزار قبانى.. الخ، ونقلت أشعارهم إلى اللغة الألمانية، كما كان لها الفضل فى ترجمة شعر جلال الدين الرومى ومحمد إقبال.

 

لقد خدمت المؤلفة التراث الإسلامى لأكثر من 62 سنة. ألفت ما يقرب من مائة وعشرين كتاباً بلغات مختلفة، ومن أبرز كتبها كتاب "محمد رسول الله" وقد دافعت فيه عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بحجج أسكتت من يتناوله بسوء من أقلام الغرب، كما حرصت على كتابة اسم محمد باللغة العربية على غلاف الكتاب.

 

وكانت هذه المرأة العظيمة من زملاء وأصدقاء أستاذى المرحوم الدكتور محمود حمدى زقزوق، وقد كتب عنها كثيراً فى مؤلفاته المختلفة، وقد حدثنى كثيراً عنها وكيف كان الباحثون الألمان وغيرهم يحرصون على حضور محاضراتها بشغف، ويسألونها عن الإسلام والتصوف والقرآن وهى تجيب بحجج دامغة دفاعاً عن الإسلام.

 

وفى حوار لى مع الأخت الكريمة الدكتورة ماجدة زقزوق ابنة المرحوم الدكتور حمدى زقزوق، وكنت أعلم أنها كانت تحرص على حضور فعاليات الدكتورة شيمل بحكم صداقتها بأبيها وأسرته. سألتها: هل أسلمت الدكتورة شيمل؟.. قالت: أظنها كانت مسلمة ولكنها لم تعلن عن إسلامها حتى يكون لخطابها مصداقية أكثر عند الأوروبيين! وخاصة أنها كانت تضع فى اعتبارها النزعة العصبية غير المعلنة فى مجتمعها، وأيضاً ما حدث لجارودى ومحاكمته فى فرنسا، إلا أن المعلن والمعروف أن الدكتورة شيمل ماتت غير مسلمة.

 

وكتابها "الأبعاد الصوفية فى الإسلام وتاريخ التصوف" من أعظم ما كُتب بكل موضوعية عن التصوف خلال مائة عام، وكان الكتاب عبارة عن محاضرات للمؤلفة فى التصوف الاسلامى فى جامعة هارفارد، قبل أن يصبح كتاباً، وطُبع لأول مرة باللغة الانجليزية عام 1975، ثم صدرت منه عدة طبعات بالألمانية، إلى ان تم إصدار هذه الطبعة باللغة الألمانية فى خريف 1985، وترجمه المصريان محمد إسماعيل السيد، ورضا حامد قطب. والكتاب بترجمته العربية يقع فى 491 صفحة من القطع المتوسط. دار منشورات الجمل.

 

لقد هضمت الكاتبة التصوف الإسلامى على مستوى الفكر والفلسفة والتاريخ. بل وعاشته تجربة شخصية، وكأنها شيخ صوفى فى القرن الرابع الهجرى تتلمذ على يد الإمام الهجويرى، وهذا ما يلاحظه القارىء من بداية قراءته للكتاب، فضلاً عن إشارتها لذلك عند تناولها تعريف التصوف، كما تناولت الكاتبة تحليلاً نفسياً وعلمياً لأعلام التصوف بمدارسهم المختلفة ونقلت أيضاً آراء الكثير من المستشرقين والعلماء الغربيين عن التصوف الإسلامى ورموزه.

 

ذكرت الكاتبة أنها وجدت مشقة كبيرة للوصول إلى هذا المستوى من جمع مضامين الكتاب، وقالت إن الوصول إلى حقيقة الصوفية أو الروحانيات فى الاسلام، يكاد يكون مستحيلاً ! فمن اول خطوة يخطوها السالك فى هذا الطريق يرى أمامه تلالا ممتدة وهضاباً وعرة للوصول إلى غاية عند شعراء الصوفية فى الفرس، أو يحاول تسلق جبال التأملات الفلسفية، أو يبقى فى سهول العامة وتعظيمهم للأولياء.

 

كما تذكر فى تعريف التصوف: أنه أكبر تيار روحى يسرى فى الأديان جميعها، ويمكن تعريفه بأنه إدراك الحقيقة المطلقة، سواء سميت هذه الحقيقة حكمة أو نوراً أو عشقاً أو عدماً.

وتظل هذه المسميات معالم فى الطريق لأن الغاية عند المتصوفة حقيقة لا يمكن وصفها، إن الأمر يتطلب تجربة روحانية لا صلة لها بالمناهج الفكرية والعقلية، بل بصيرة القلب وحدها هى التى تجليها.

 

إن التصوف تجربة إن سلكها المريد فى بحثه عن الحقيقة، يهتدى بنور داخلى يزداد كلما تحرر من تعلقه بهذا العالم وكلما صقل مرآة قلبه، ولا يمكن أن يصل المريد إلى درجة من الكشف المطلق،التى يوهب فيها الحب والمعرفة الباطنية إلا بعد وقت طويل من التطهر.

 

كما ذكرت الكاتبة الأنماط التى شرح المتصوفة خبراتهم الصوفية من خلالها.

1- البحث المتواصل عن الله وعبر عن ذلك بعروج الروح.

2- تربية النفس وتنقيتها.

3- إشارات اقتبست من الحب الإنسانى ولوعة الحب.

كما شرحت الكاتبة ببراعة شديدة تاريخ التصوف بأسلوب علمى وروحى.

وتوقفت على كلامها عن الحلاج. الذى وصفته بشهيد الحب الصوفى!!

كما علقت على قتل الحلاج واتهامه بالزندقة. بقولها : لقد أثر تأثيراً بالغاً فى تطور التصوف، ولم يصبح اسمه مع مرور الزمن رمزاً للحب فحسب، بل أيضاً إشارة إلى اكبر ذنب ارتكبه محب! ألا وهو إفشاء سر الحب!

وهى بالطبع تشير إلى أن الناس قد ظلمو الحلاج ولم يفهمو مقصده من رموزه ومصطلحاته الصوفية التى تأولت إلى كفر وهرطقة.

ونقلت فى ذلك قول طولوك : الذى قال عن الحلاج "أشهر صوفى ظلمته الأقدار ونهش لحمه الناس"

ومرت فى الكتاب بعصر الشبلى والغزالى. والمقامات والأحوال… الخ

كما تناول كتابها مدرسة ابن عربى وابن الفارض وشعراء التصوف الفارسى والتركى والتصوف فى الهند وباكستان وأخيراً الشعر الصوفى باللغات الإقليمية السندية والبنجابية والبشتية.

هذا الكتاب يأخذ القاريء إلى الروح والعلم والعاطفة والصفاء..أنصحكم بقراءته.

والله المستعان.

Dr.Randa
Dr.Radwa