كلما جاء شهر رمضان، أتطلع إلي ابنى «هشام» وأتذكر طفولتي. أن «هشام» يترصد مدفع الإفطار كل يوم، فتلبسه أمه البنطلون الفانلة، والبلوفر الأصفر،.. ومن نفسه يجري إلي دولابه الصغير، فيتناول فانوسه الأحمر، ويعدو ناحية الباب مسرعا علي صوت أصدقائه الصغار، فيهبط معهم إلي الشارع في موكب صغير.. يغني مثلهم «وحوي يا وحي». وتطل عليه أمه وتبتسم . وأراه أنا فأتذكر طفولتي. كل شيء قد تغير . «هشام» يلبس البنطلون، وكنت أرتدي الجلابية. وهو يحتفل بالشهر الكريم في شوارع القاهرة، وكنت أستقبله في حواري القرية. أشياء ثلاثة فقط لم تتغير. شهر رمضان نفسه.. .. والفانوس الأحمر.. واحتفال الأطفال به..
كنا نحن الأطفال في القرية، نقف أمام الجامع في انتظار المغرب، فإذا تصاعد صوت المؤذن بالتكبيرة الأولي.. رقصت قلوبنا من الفرح وكأننا نحن الصائمون.. وهللنا جميعا في صوت واحد: هيه.. هيه! ثم جرينا جماعات إلي بيوتنا، وصوتنا الرفيع يؤكد غروب الشمس بالغناء:
يا أم رمضان قومي افطري
ع العيش اللين والفجل الطري
ولا يزال غناؤنا يسابق أقدامنا في الجري.. حتي يصل كل منا إلي «الطبلية» العامرة بأصناف الطعام. كنا لا نأكل، وإنما نعبيء جيوبنا بالموجود. وفي الحال يخطف كل منا فانوسة الأحمر لنلتقي مرة ثانية أمام الجامع. ونحن الأطفال.. كانت لنا خطة ساذجة ندور بها علي أبواب البيوت في القرية. داير البلد أولا.. وبعد ذلك نخترق الحواري الداخلية. وأثناء المرور لا تكف أصواتنا الرفيعة عن الغناء:
وحوي يا وحي ايوحه بنت السلطان ايوحه
لابسة الفستان ايوحه ماسكة في محروس ايوحه
وف ايدها فانوس ايوحه أحمر.. وأخضر ايوحه
وبتتمخطر .. ايوحه بيتهم عالي ايوحه
طب وأنا مالي ايوحه وحوي يا وحي ايوحه
يا الله الغفار
ونصل إلي داير البلد. لم يكن يخيفنا القرب من المقادير وأشجار السنط واللبخ. كنا نقف ونحن نغني. وفجأة يصيح واحد منا في حماسة لذيذة:
- يللا يا عيال نغفر علي إسماعيل؟
ونصيح جميعا في نفس واحد:
- علي دار سماعين يا عيال..
ووسط صيحات الفرح والتهليل، نجري علي ضوء الفوانيس. ولا نكاد نقترب من الدار حتي تطالعنا الزغاريد منطلقة من الشبابيك المفتوحة. ويلقانا إسماعيل نفسه علي عتبه الباب ممسكا بفانوسه. ثم يندمج معنا في التغفير:
لوما اسماعين ماجينا يللا الغفار. ولا تعبنا رجلينا.. يللا الغفار
حلوا الكيس وادونا يللا الغفار.. ادونا.. ما تدونا يللا الغفار
ادونا ميتين ريال يللا الغفار. نسافر بيهم علي بر الشام يللا الغفار
هاتو العادة لبه وقلادة الفانوس طقطق والعيال ناموا
يالله خليه ملأ جل أهاليهم هيه.. هيه.. هيه.. هيه
وتنزل «أم إسماعيل» بنفسها، لتوزع علينا الكنافة والفول السوداني والحلوي.. وأحيانا نادرة كانت تعطينا الملاليم الحمراء. وننتقل إلي «باب» آخر. الفوانس لاتزال تضيء. والغناء لا يتوقف. وجيوبنا وبطوننا تزدحم بالحلوي والكنافة. وكنا لا نخطف من بعضنا أبدا. كل واحد منا «غني» بحلواه وكنافته!
وراء المسحراتي
وفي داخل البلد.. لم نكن نطفيء الفوانيس، رغم توهج «الكلوبات» المعلقة علي واجهات الدكاكين، وفي مناور الفلاحين. فقط كنا نتلكأ وراء النوافذ لنستمع إلي «الفقي» وهو يقرأ وسط جمهور الكبار من أهل القرية. وكنا لا نتعب من الوقوف. ولا نتعب من العودة إلي مواصلة اللف في الحواري. ولا نتعب من «وحوي يا وحوي» و«لوما فلان ما جينا» شيء واحد فقط هو الذي كان يشعرنا بالتعب. أقصد يهديء قليلا من مجهودنا. ذلك الشيء هو صوت «المسحراتي». كان فانوسه أكبر من فانوسنا. وطبلته أقوي من أصواتنا. وغناؤه أعلي، وفيه كلمات جديدة يقولها في مدح النبي:
أحمد يا محمد يا باهي الجمال دا نور جبينك من ضي الهلال نورت الأراضي وطفيت الضلال
ونمشي وراء المسحراتي في موكب كبير، كله فوانيس مضاءة، وجيوب مملوءة، وعيون «مفنجلة». والمسحراتي لا يتوقف عن النداء. أنه يعرف أسماء الناس كلهم. يناديهم واحدا واحدا وهو سائر بخطواته المنسجمة مع دقات الطبلة. والناس «المبسوطين» في القرية، كان يقف أمام بيوتهم ليغني لكل منهم أغنية خاصة. فهو يقف علي باب محمد أفندي مدرس الإلزامي مغنيا:
محمد أفندي يا أصيل الجدود ياللي العطا طبعك وكنزك يجود
اسأل المولي الغفور الودود يحييكم الباري إلي كل عام..
طمطم ططم ططم طم..
ولا ينسي أيضا أن يقف أمام بيت «حسن أفندي» مأمور الزراعة:
يا سي حسن الله يزيدك هنا وتقضي طول عمرك سعيد وف مني
وتحج للكعبة.. ودار السلام طم طم ططم طام طام..
ولا نعود إلي بيوتنا قبل أن ينتهي المسحراتي من اللف علي بيوت القرية بيتا بيتا!
الهدي والغفران
وصرت في كل رمضان احتفل به مع أصدقائي دون أن أعرف شيئا عن سبب هذه «الزمبليطة» التي يستقبل بها الأطفال والكبار شهر رمضان!
ولما كبرت عرفت السبب.. عرفت أن الناس يحتفلون به لأنه «الشهر الذي أنزل فيه القرآن هدي للناس وبينات من الهدي والفرقان» وعرفت أنه أحد الشهور التي ترتبط بمناسك الإسلام.. وعرفت أشياء أخري كثيرة لم تكن تخطر علي بالي وأنا طفل .. عرفت متي بدأ الناس في مصر يحتفلون بليالي رمضان.. وكيف كانوا يقضون سهرات رمضان..
أيام الفاطميين
احتفل المصريون بشهر رمضان لأول مرة في بداية الحكم الفاطمي!
كان المصريون قبل ذلك يقضون الليالي مستمعين لتلاوة القرآن. وفجأة دخلت جيوش الفاطميين مصر في أول رمضان عام 358 هجرية فتفاءل قائد الجيوش الفاطمية «جوهر الصقلي» بمطلع الشهر الكريم.. واحتفل به، وجعل منه عيدا للمصريين له تقاليد وعادات. كان قاضي القضاة الفاطمي يتوسط موكبا كبيرا من الناس، يطوف به آخر يوم من شهر شعبان علي جميع مساجد القاهرة.. فيضيء بنفسه مصابيح المآذن.. ويفرشها بالحصير، ويوزع الغذاء والجنيهات الذهبية علي الأمراء والعلماء وكبار التجار. أما الفقراء.. فلم يكن يصبهم من نفحات قاضي القضاة شيء!
بدر الدين الجمالي
وجاء عصر الوزير «بدر الدين الجمالى» فأضاف إلي هذه التقاليد جديدا.
أمر بإغلاق دور اللهو طوال الشهر الكريم وأصدر أمرا يقضي بإقامة سرادق كبير أمام دار القضاء تمر من أمامه مواكب الأمراء وجنود الجيش وأرباب الحرف والصناعات وعلي هذه المواكب أن تسير في أكبر وأهم شوارع القاهرة ابتداء من ظهر اليوم الأخير في شهر شعبان حتي تغرب الشمس ثم تعود المواكب إلي السرادق لتستمع من قاضي القضاة إعلان ثبوت رؤية الهلال ومعني هذا أن تبدأ الاحتفالات فترتفع أصوات ا لمقرئين بتلاوة آيات الذكر الحكيم وتنطلق حناجر المغنين بالتواشيح الدينية ويغرق «بدر الدين» في نشوة الغناء من المحظيات والجواري!
وتدول دولة الفاطميين وتأتي دولة الأيوبيين وبعدها الشراكسة والتتر ظل الاحتفال بشهر رمضان كما هو مثلما رسم الفاطميون تقليد وحتي جاء حكم المماليك فأصبح لشهر رمضان لون «أحمر» من الاحتفالات!
فتح المماليك أبواب الفساد علي مصاريعها ارتكبت الموبقات فتحت دور اللهو والحانات وغرق الأمراء لشوشتهم في بحور الاثم والفجور وكتم المصريون غظيهم واحتفلوا به في مشاعرهم فقط كانوا يسهرون صامتين وقلوبهم تدعو علي الأثم والمماليك وعصرهم «المهبب».
الظاهر بيبرس
وبعد أن دالت دولة المماليك جلس «الظاهر بيبرس» علي عرش مصر اصطدم ورعه بما أصاب شهر رمضان علي أيدي المماليك أغلق جميع الحانات ودور اللهو هدد تجار الخمور وشاربيها «بصلبهم» علنا في الميادين العامة لا شيء سوي تلاوة القرآن والسهر في بيوت الله واستحالت ليالي رمضان إلي أفراح وعبادة وصلوات يذكر فيها اسم الله.
خدعة الفرنسيين
وبانتهاء حكم الظاهر بيبرس لم تتغير ملامح الحفاوة بشهر الصيام.. الحكام والسلاطين الذين جاءوا بعده ابقوا علي جلال الاحتفال حتي عندما جثمت الحملة الفرنسية علي صدر مصر بقيت هذه التقاليد علي حالتها لقد ابقاها الفرنسيون تغريرا بالمصريين عن طريق التظاهر باحترام عواطفهم الدينية ولكن المصريين احسوا بالخديعة لم تخدعهم زيارات قواد الجيش الفرنسي للعلماء والمساجد والاضرحة وهكذا استقبل المصريون رمضانهم صامتين ابطلوا مواكب الرؤية وخلت ايدي الاطفال من الفوانيس واستحالت ليالي رمضان إلي سهرات منزلية هامة تغلي فيها الصدور ضد مؤامرات الفرنسيين والاتراك والانجليز وبقية من المماليك.
أحزان «محمد علي»
ودخل محمد علي مصر وكان الآسي لا يزال يسحب رداءه علي وجوه المصريين كلما أهل شهر رمضان وظل الآسي يمضغ احزانهم خلال عهد الدخاخني الذي جاء من قوله لم تكن ليالي رمضان تعرف الافراح والبشر كان المصريون يسهرونها مع قصص الاعتداءات الغاشمة من جنود الأرناؤوط علي الأهالي وكانت أفواههم لا تلوك شيئا سوي حديث الغلاء الفاحش الذي يمزق بطونهم بالجوع وهكذا يأتي رمضان ويمضي رمضان بلا أفراح بلا ابتسامات بلا اطفال يهللون وبلا فوانيس!
وعادت الأفراح
ومضت الأعوام... تخلص المصريون من مآتم الشهر الحزين وقضوا علي صانعي هذه المآتم وعادت الافراح إلي الليالي الساهرة وسمعنا صياح الأطفال وغناء المسحراتي وتراتيل الدعاه والقرآن وكلما أهل رمضان ترصد «هشام» ابني مدفع الافطار وذهب من نفسه إلي دولابه الصغير فيأخذ فانوسه الأحمر ويعدو مسرعا ناحية الباب علي صوت اصدقائه الصغار وتطل عليه أمه وتبتسم وآراه أنا فأتذكر طفولتي .. وقصة التاريخ الطويل لأفراح رمضان.
عبدالقادر حميدة
الاثنين والدنيا - 1342 - 6 مارس 1960