زياد عساف - باحث في الموسيقى والغناء العربي
لم تحل الأحداث التي عصفت بفلسطين دون أن يكون لفنانيها ومبدعيها دور مهم ومؤثر للارتقاء بإحساس ووجدان الإنسان العربي جنبا إلى جنب مع رواد الثقافة والفن والنغم من مصر وسوريا ولبنان والعراق والمغرب العربي، ولأن المعاناة هي الباعث الأول للإبداع وفي مجال الموسيقى والغناء تحديدا، استطاع كثير من الفنانين الفلسطينيين من موسيقيين ومطربين والذين توزعوا في البلاد العربية إثر نكبة 1948، أن يحولوا هذه المعاناة لحالة إبداعية وليتحول الشتات الفلسطيني إلى أنغام وأغنيات تعكس أحلام أبناء هذه الأرض بالعودة وإعلاء قيم الجمال والرقي والعواطف النبيلة الصادقة وفي الوقت نفسه تسهم في تعزيز الهوية الثقافية للأغنية العربية بتقديم كافة ألوان الغناء المتميز (العاطفي والوطني والموشح والقصيدة والأغاني الفولكلورية والتراثية والدينية) مكملين بذلك رسالة إذاعة القدس التي تأسست عام 1936 بعد إنشاء الإذاعة المصرية بعامين.
كان لإذاعة القدس دورها الرائد في تعزبز رسالة الفن العربي، وفي استوديوهاتها تم تسجيل أجمل الألحان والأغنيات لأشهر المطربين العرب أمثال صالح عبد الحي وأم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان ومحمد عبد المطلب وعبد الغني السيد وفيلمون وهبي ولوردكاش.
للتعريف بالدور الحقيقي الذي قدمه الفنانون الفلسطينيون نستعرض المسيرة الفنية لمجموعة من الموسيقيين والمطربين من أرض كنعان وأهم إنجازاتهم التي برزت معالمها في بلاد حلوا بها بعد عام 1948، ومنهم روحي الخماش ورياض البندك وحليم الرومي ومحمد غازي.
روحي الخماش.. الوتر السابع
ولد روحي الخماش في مدينة نابلس الفلسطينية عام 1923، كانت أم كلثوم الشاهد الأول على نبوغه بالموسيقى والغناء أثناء وجودها في القدس عام 1933 لتقديم مجموعة من حفلاتها، يومها قدموه لها وهو ابن العشر سنوات لتستمع له وهو يعزف على العود الذي أحضره والده تشجيعا له، يومها طلبت منه سيدة الغناء العربي أن يسمعها بصوته أغنيتها ”سكت والدمع تكلم” وأداها باقتدار مما حدا بأم كلثوم أن تجلسه على ركبتها وتطبع قبلة على جبينه إعجابا بغنائه وعزفه معا، منحه هذا الموقف الثقة بالنفس للاستمرار على درب الغناء والموسيقى، ليسافر عام 1935إلى بغداد بدعوة من الملك غازي، وعندما استمع إليه الملك لم يجد وسيلة للتعبير عن إعجابه بصوته سوى أن قدم ساعته الشخصية هدية له، وأثناء وجوده في بغداد قدم مجموعة من الحفلات لطلاب المدارس.
التعليم كان الخطوة التالية لروحي الخماش ليسافر إلى مصر ويلتحق بمعهد فؤاد للموسيقى العربية في القاهرة وينهي الدراسة بمدة سنتين بدلا من خمس نظرا لتفوقه ونبوغه، عاد بعدها لفلسطين ليلتحق بإذاعة القدس، ثم توجه لسوريا وسجل في إذاعتها مجموعة من الأغاني والتواشيح ليستقر بعد النكبة في بغداد ويسهم بتأسيس القسم الموسيقي للإذاعة العراقية، وتم تعيينه قائدا للفرقة الموسيقية العراقية، وأسس مع الموسيقار علي الدرويش ”فرقة الموشحات الأندلسية” التي أصبح اسمها”فرقة أبناء دجلة”، ومع بداية سبعينيات القرن العشرين عادت لتظهر باسم ”فرقة الإنشاد العراقية” وضمت أشهر الموسيقيين والمطربين العراقيين أمثال ناظم الغزالي ورضا علي وجميل ومنير بشير.
مع الحرب العراقية الإيرانية وفي أواسط ثمانينيات القرن العشرين اعتزل الخماش الفن واشترى مزرعة صغيرة تفرغ لمتابعتها مع استمراره بأداء رسالته التعليمية يدرس لتلاميذه نظريات الموسيقى العربية والعزف على العود في معهد الفنون الجميلة إلى أن توفاه الله في بغداد عام 1998.
رياض البندك.. يا عيني ع الصبر
حواري وأزقة مدينة بيت لحم الفلسطينية كانت شاهدة ومبشرة بموهبة رياض البندك المولود فيها عام 1926. في سنوات طفولته الأولى شارك مع أصحابه في إحياء الحفلات والأفراح في الحي بالإضافة لغنائه الأناشيد في الطابور الصباحي بالمرحلة الابتدائية، وفي المرحلة الثانوية برزت لديه موهبة التلحين وبدأ بتلحين الأناشيد برعاية وتوجيه أستاذه الموسيقار يوسف بتروني.
وعندما حلت النكبة كانت وجهته سوريا وأسهم في تأسيس القسم الموسيقي بإذاعتي سوريا ولبنان وفيما بعد ساهم بتأسيس إذاعة وتليفزيون الإمارات، المحطة الأهم في حياة البندك عندما تم توجيه الدعوة له من قبل جمال عبد الناصر للمساهمة بتأسيس القسم الموسيقي لإذاعة صوت العرب في بداية الخمسينيات وكان واحدا من المؤيدين لثورة يوليو 1952، وقال له عبد الناصر في ذاك اللقاء إنه متابع لكل ألحانه ودعاه لأخذ صورة تذكارية، وأشار إليه بالوقوف على يمينه، ويعتبر هذا مخالفا للبروتوكول كما هو متعارف عليه، إذ على الضيف الوقوف على يسار الرئيس. حاول البندك الاعتذار عن ذلك إلا أن عبد الناصر بادره قائلا: “نشيد واحد من أناشيدك لا يقل أهمية عن دور أي رئيس جمهورية!”، وفي تلك الفترة سجل رياض البندك لإذاعة صوت العرب لحني ”هلموا يا شباب العرب” و”السهول والربى”.
يعود للبندك فضل اكتشاف المطربة فايزة أحمد عندما التقاها مصادفة وهي تغني بإحدى الصالات الشعبية في سوريا، أعجب بصوتها ولم يرق له أن تغني بمثل هذا المكان، في البداية لحن لها ”امسحوا عن ناظري كحل السهاد”، ووقتها لم تكن فايزة أحمد تجيد القراءة والكتابة ووجد صعوبة في تحفيظها اللحن، بعد ذلك سافر معها للقاهرة وقدمها لمدير إذاعة ”صوت العرب” وبدأت تغني من ألحان محمد الموجي وبليغ حمدي وعبد الوهاب ورياض السنباطي محققة شهرة كبيرة على مستوى الوطن العربي، لدرجة أن أم كلثوم وفي جلسة خاصة صرحت بأن فايزة أحمد تذكرها ببداياتها وشبابها.
وللتعبير عن مشاعره بعد هزيمة 1967 لحن البندك لوديع الصافي أغنيته الشهيرة ”يا عيني ع الصبر" من كلمات نجيب نجم، معبرا عن هذه المأساة الكبيرة التي أحلت بالأمة العربية وكانت من أهم الأغنيات التي عبرت عن هذه الفترة لدرجة أن عبد الوهاب قال إن أغنية ”يا عيني ع الصبر” من أهم وأجمل ما غنى وديع الصافي.
حليم الرومي.. مكتشف فيروز
الموسيقار الفلسطيني حليم الرومي الذي ولد بمدينة الناصرة عام 1919 قدم ما يقارب الألفي لحن. وقد التحق بمعهد الموسيقى في حيفا وهو في سن صغيرة، وفي أواسط الثلاثينيات تنقل بين فلسطين ومصر وأكمل تعليمه في معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية بالقاهرة وأنهى دراسته بزمن قياسي أيضا نظرا لموهبته الفذة، وفي أواسط الأربعينيات التقى بالمنتج السينمائي إبراهيم وردة وشارك من خلاله بتمثيل فيلمين سينمائيين هما ”أول الشهر” و”قمر 14“ الذي غنى به ”يا مسا الورد على عيونك". وعاد إلى بيروت عام 1950 وعين رئيسا للقسم الموسيقي في إذاعة لبنان وكان له دور في رفع سوية الأغنية اللبنانية وتقديم عدد كبير من المطربين والفنانين اللبنانيين، وهو صاحب الفضل باكتشاف المطربة ”فيروز” عندما التقاها أواخر الأربعينيات وأثناء تقدمها لامتحان لجنة تقييم الأصوات بإذاعة لبنان، ومن شدة إعجابه بصوتها قدم لها أول لحن ”تركت قلبي وطاوعتك” 1950، والأغنية الثانية ”في جو سحر وجمال“، واشتركت معه في أغنية دويتو ”عاشق الورد” ولحن لها أيضا ”أحبك مهما أشوف منك”، وبعد هذه الأعمال قدمها لعاصي الرحباني الذي لم يقتنع بها في البداية إلا أن الرومي طلب منه أن يستمع لصوتها أولا ثم يحكم بعد ذلك، لتبدأ المسيرة الخالدة التي جمعت بين فيروز والرحابنة بعد ذلك. كان حليم الرومي هو من اقترح عليها اسم ”فيروز” بدلا من اسمها الأصلي ”نهاد حداد".
وأسهم الرومي أيضا في دعم كثير من المطربين في بداياتهم أمثال سعاد محمد وفايزة أحمد ونصري شمس الدين، ورغم كل ما قدمه من ألحان إلا أنه بقي طي النسيان ويتذكره الناس من خلال ابنته المطربة ماجدة الرومي التي أعادت بصوتها مجموعة من أغانيه التي لحنها وغناها والدها المتوفي عام 1983، ومنها ”يرنو بطرف” و”يا مكحل رمشك ليه يعني” و”اسمع قلبي شوف دقاته” و”يا معذب قلبي” و”اليوم عاد حبيبي” و”يا مسا الورد على عيونك".
تميز حليم الرومي بتلحين وغناء الموشحات وحصل على الجائزة الأولى في مسابقة تلحين الموشحات الأندلسية بمهرجان الموسيقى العربية الذي نظمه مجمع الموسيقى العربية في تونس عام 1972.
محمد غازي.. حجبوها عن الرياح
في قرية بيت دجن بمدينة يافا كان ميلاد الملحن والمطرب محمد غازي عام 1922، ليصبح واحدا من الفنانين الفلسطينيين الذين عانوا حالة الشتات ويتنقل بين الأردن وسوريا ويحط به الرحال في لبنان. لحن وغنى العديد من الأغنيات، وأبدع العديد من المؤلفات الموسيقية، وهو أحد المطربين الذين تميزوا بغناء الموشحات، ويؤكد ذلك أن الأخوين رحباني أوكلا إليه مهمة تدريب فيروز على غناء وأداء فن الموشحات الأندلسية، وشارك محمد غازي فيروز بغناء عدة موشحات مثل ”يا شادي الألحان” و”يا وحيد الغيد” و”حجبوها عن الرياح"، وذلك موثق في البرنامج الغنائي ”ضيعة الأغاني” الذي تم تصويره في استوديوهات التليفزيون اللبناني أواسط ستينيات القرن العشرين.
وكحال كل الفنانين العرب كان يعي أهمية مصر ودورها في ريادة الغناء العربي وزار القاهرة عام 1955وسجل في الإذاعة المصرية مجموعة من الأدوار والموشحات لزكريا أحمد ومحمد عثمان وسيد درويش، وتحتفظ له المكتبة الموسيقية في إذاعتي عمان ودمشق بمجموعة من الأغاني العاطفية والوطنية، أثناء حرب الكرامة التي خاضها الجيش الأردني والمقاومة الفلسطينية في صد العدوان الإسرائيلي عام 1968، وسجل في استوديوهات التليفزيون الأردني من شعر هارون هاشم رشيد أغنية ”هذه أرضي وهذا بلدي.. لا بقاء فيهما للمعتدي” ومن أغانيه الوطنية أيضا ”دعا وطني فكنت له الجوابا” و”يا شباب العرب".
في ربيع عام 1979 ورد خبر صغير في إحدى الصحف العربية يفيد بوفاة الفنان محمد غازي دون أي تكريم. ومن النادر إلى الآن أن نستمع لأغانيه في محطة فضائية أو إذاعية لتعريف الناس بمنجزاته الفنية في وقت نحن أحوج ما نكون لهذا النوع من الأعمال.
معجزة الحب
وبالرغم من عدم وجود سينما غنائية فلسطينية كحال السينما المصرية واللبنانية، إلا أن أول أغنية ظهرت في السينما العربية عموما كانت بصوت نجاة علي عام 1931 في فيلم ”معجزة الحب” الذي أخرجه الفنان الفلسطيني المقيم في مصر إبراهيم لاما، وكانت الأفلام الصامتة باستثناء الأغاني التي تم تركيبها بواسطة أسطوانات، وفي الوقت نفسه أخرج إبراهيم لاما أفلاما غنائية شارك بها مشاهير الغناء العربي ومنها ”عاصفة على الربيع“ لشادية، و”عريس الهنا” بطولة المطرب عبد العزيز محمود، و"يسقط الحب" بطولة المطرب إبراهيم حمودة، بالإضافة لأفلام شاركت بها رجاء عبده وسعاد مكاوي ورئيسة عفيفي ومحمد البكار، وعلى صعيد المسرح الغنائي كان للمخرج والمنتج الفلسطيني صبري الشريف دوره المهم والرئيسي في إنتاج وإخراج أهم المسرحيات الغنائية لفيروز والرحابنة.
لايزال أبناء فلسطين يرددون حكايات عن الفنانين العرب الذين حلوا في بلادهم قبل النكبة، وأجمل هذه المواقف حكاية السيدة ”أم فؤاد“ التي كانت بين حضور حفلة أم كلثوم بسينما عين دور في حيفا، ولم تتمالك نفسها لتقف بين الجموع مخاطبة أم كلثوم "انت كوكب الشرق!"، ليبقى هذا اللقب مصاحبا لأم كلثوم التي لم تنس ذكرياتها الجميلة هناك لتعود وتحيي كفاح الشعب الفلسطيني في نهاية الستينيات بأغنيتها الشهيرة ”أصبح عندي الآن بندقية.. إلى فلسطين خذوني معكم".