الخميس 23 يناير 2025

ثقافة

«من داخل الجهادية».. فرهاد خوسرو خاور يتناول مغزى الإنتاج الفكري الجهادي وآثاره بالعالم الغربي

  • 6-9-2021 | 12:05

فرهاد خوسرو خاور

طباعة
  • محمد الحمامصي

يرى أستاذ في مدرسة الدّراسات العليا في العلوم الاجتماعية في باريس فرهاد خوسرو خاور أن الجهادية تعيث بوصفها النهج المتطرّف للإسلام، فساداً في كلّ أنحاء العالم تقريباً، ويمكن أن نَسِمَ بالجماعة الجهادية أيَّ فئة، صغيرة كانت أو كبيرة، تتبنّى العنف بصفته الاستراتيجية الوحيدة الموثوق بها لتحقيق غايات إسلامية، لافتا إلى أن الجهادية تعدّ أكبر حركة عنفيّة في العالم.

 

ويوضح فرهاد في كتابه "من داخل الجهادية.. فهم الحركات الجهادية على امتداد العالم" والذي ترجمته التونسية فطيمة الرضواني أستاذة الآداب والحضارة بجامعة تونس أن الجهادية "حركة طوباوية قائمة على معاداة الغرب ومناهضة الدّيمقراطية. امتدّت رقعتها لتشتمل على جميع القارات باستثناءٍ جُزئيٍّ لأمريكا اللاتينية حيث لا تزال الظاهرة ثانويّة غير ذي أهميّة. لكنّها، في الوقت ذاته، تستميل عدداً هائلاً من غير المسلمين الذين يعتنقون الإسلام، ويتبنّون وجهة نظر جهادية للعالم.

 تؤلّف الجهادية بين العديد من العناصر الإيديولوجية لليسار المتطرّف في صراعه ضد الغطرسة الأمريكية والإمبريالية من بين أمور أخرى، وبين اليمين المتطرّف وفق منظور استرداد الأسرة العفيفة الشريفة وإعادة المرأة إلى البيت لتضطلع بدور الأمومة المنوط بها، وكذلك القضاء على جميع الرذائل الاجتماعية مثل المثلية الجنسية وتناول الكحول.

 

يهدف فرهاد من كتابه الصادر عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود" إلى تناول مغزى الإنتاج الفكري الجهادي والوقع الذي خلفه في العالم الغربي، أو حتى في البلدان الإسلامية؛ حيث يتتبع في سبعة فصول مختلف الإشكاليات والأصول التي تتحرك وفقها الجهادية، فيتناول دور شبكات التّواصل الاجتماعي وديناميكيّة المجموعات، المسائل الاقتصاديّة والحركات الجهاديّة، الإيديولوجيا الجهادية، الجهاديّة: ثقافة العنف تتحوّل إلى ثقافة الموت، النّظرة الجهاديّة للتّاريخ: معركة الغرب الدّائمة ضدّ الإسلام، الغرب بوصفه ثقافة منحرفة للبشرية في مواجهة الله.     

 

يرى فرهاد أن الإسلام المتطرف الراهن ينتسب إلى أصول خمسة؛ يعود الأول إلى فجر الإسلام، إثر وفاة النبي وعقب حكم الخلفاء الراشدين الأربعة الكبار أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، الذين امتدّ حكمهم من الفترة (602) إلى (660) ميلادي. انتشر الإسلام في ظلّ حكم الخلفاء إلى جزء من الإمبراطورية البيزنطية وبلاد فارس (إيران)، وشمال أفريقيا.

 

لقد باتت الانشقاقات بين المسلمين خلال عهد الخليفة الأخير عليٍّ أمراً معلَنَاً؛ إذ أعلن الخوارج، وهي طائفة من المسلمين الغلاة في التطرّف والمتزمتين ("أولئك الذين خرجوا" عن سواء السّبيل ودين المسلمين)، الانشقاق عن عليّ، فتمرّدوا عليه معلنين محاربته وقتال مسلمين آخرين من بين من رَمَوْهُم بالكفر والزندقة، حتى استحلّوا دم الإمام عليّ الذي قُتل على يد أحد أعضاء هذه الجماعة سنة (661م).

 

 كما تميّز سلوكهم بالإغراق في التعصّب والغلوّ في الدّين، والبسالة، والمناداة بالمساواة الاقتصادية، والصّرامة، والعنف ضد أولئك الذين يَعدّونهم مسلمين سيئين. كُتب للخوارج الاستمرار كأقلية خلال القرون الأولى من الإسلام، لكنهم اختفوا تدريجياً في النهاية، ومع ذلك لا يزال إرثهم يشكّل الراديكالية باسم الإسلام، على الرغم من أنّ مصطلح «الخوارج» نفسه ينطبع بمعنى ازدرائي.

 

يعزى الأصل الثاني للتطرّف الإسلامي إلى القرن الثامن عشر وظهور الوهابية في الجزيرة العربية بقيادة محمد بن عبد الوهاب. لقد تأسّست الدّولة السّعودية الحديثة على التحالف بين الحركة الدينية الوهابية وبين بيت آل سعود، وعلى الرغم من معارضة الجهاديين للمسؤولين الوهابيين، يتّفقون معهم على العديد من القضايا الرئيسة المتعلّقة بتفسير الإسلام.

 

أمّا الأصل الثالث للجهادية فيُنسب إلى حركة الإصلاح، التي انطلقت في أواخر القرن التاسع عشر بقيادة الأفغاني، ومحمد عبده، ومثقفين إسلاميين آخرين عدّة اصطبغ تفكيرهم التّنويري بتجديد الإسلام، لكن سرعان ما انصهرت هذه الحركة في العصر الإسلامي الذهبي مسانِدةً بشكل غير مباشر التطرّف في الإسلام.

 

تمتدّ جذور الأصل الرّابع للتّطرف الإسلامي إلى النّصف الأوّل من القرن العشرين، ولاسيما مع بروز المفكّرين الجدد في العالم الإسلامي، مثال: حسن البنّا (1906-1949م)، وسيد قطب (1906-1966م) في مصر، وأبو الأعلى المودودي (1903-1979م) في باكستان، وعلي شريعتي (1933-1977م) وآية الله الخميني (1902-1989م) في إيران، وغيرهم من المفكرين في جميع أنحاء العالم الإسلامي. نلحظ إكساء هؤلاء الرواد التّطرف الإسلامي سمةً جديدة من خلال تحديثه وانشغالهم بمزاوجته مباشرة بالسّياسة.

 

يؤثّث جيل جديد من الجهاديين الأصل الخامسَ يتصدّرهم عبد الله عزام (1941-1989م)، وأبو محمد مقدسي، وأبو بصير الطرطوسي، وأبو مصعب السّوري، وأبو قتادة الفلسطيني.

 

ويشير فرهاد إلى أن المجموعات الجهادية تستميل الشبابَ من خلال ثلاثة أبعاد. يقوم البعد الأوّل على رغبة مجموعات الأقلّيات في صفوف المسلمين في الافتداء بالنفس في سبيل قضيّة الإسلام المقدّسة جرّاء الإحساس باليأس وفقدان الأمل في عالم يوصد أمامهم آفاق الفرص الإيجابيّة وفق منظورهم الذي يتعرّض للإيذاء. تجدر الإشارة إلى تلاعب المجموعات والشبكات المنظّمة، التي تضع الرّغبة في الموت رهن خدمة دوافع إيديولوجية، بهذا النّداء.

 

يندرج البعد الثاني، في كون الموت ليس مجرّد موت ينمّ عن الإحباط، بل يُذكيه إحساسٌ عميق بالانتقام يرتكز على البغضاء والضغينة، فهو لا يتوقّف على قتل النفس المتعمّد فحسب، بل يستتبع قتل العدوّ. تكمن المشكلة في افتقاد العدوّ، الذي قام الجهاد الوطني بتحديده (السياقات الفلسطينية والشيشانية والكشميرية)، تعريفاتٍ دقيقة في الفكر الجهادي العابر للحدود الوطنية.

 

أمّا البعد الثالث، الذي يجسّده الشّباب المسلم، فيتّسم بالطابع الحداثيّ تماماً؛ إذ لا تنحصر عملية الاستشهاد في العلاقة بين الذّات وبين العدوّ، بل تحدثُ أمام العالم بصفته المشهد الذي تعزّزه وسائل الإعلام العالمية وتروّج له، تُعرضُ مشاهد القتل والمقتل كلّها على الساحة العالمية بشكل يؤكّد احتلال الهيمنة الرّمزية للأمّة الإسلامية الجديدة لجزء مهمّ من الرّسالة.

 

كما يتبيّن غياب الثنائية وقيام الاستعراض على العلاقة الثّلاثية لتشتمل على وسائل الإعلام العالمية بصفتها المقوّم الأساس في مشهد الاستشهاد، يحتلّ البعد النرجسي الحديث، من خلاله، مكانته في هذا النمط الجديد للشهادة التي تتمدّد رمزياً إلى جماعة «المُصطَفين» كلّهم؛ أي الجهاديين، ويشكّل الوضع، الذي تنقلب الحياة فيه إلى موتٍ، الحدثَ البارز في عالم يكون فيه الغرب المهيمنُ محتكِراً لكلّ قيم الحياة، ومُحكِماً قبضته عليها، ففي ترويج الاستشهاد وتقويتهِ سعيُ الجهاديين إلى الاستئثار بقيم الموت ثقافةً مناهضةً لحبّ الحياة، متباينة مع القيم الدّنيوية؛ حيث يحظى الغرب المعولم فيها بمكانة بالغة الأهميّة، وسيلحق ضرراً بقيم الموت وسيشوّهها برش الملح على الجرح على الرغم من إنكاره الجهاديين، متّخذاً بذلك سبل إرساء ثقافة استعراضية ترمي إلى تدنيس الموت المقدّس.

 

ويوضح فرهاد أن عملية الاستشهاد تعرض من خلال الجهاد العالمي، مقتلَ كلٍّ من الجهاديين والمارّة على دنيا الخيال لشاشات التلفزيون العالمية بقوّة هائلةٍ ماحقةٍ تُبيدُ، دون تمييز، ثلاث فئات من الناس هم: العدوّ والمتفرّج (ربما كان من المشاهدين للتلفزيون كذلك) معاً مع المقبل على الموت المقدّس والشهيد المحتمل، ولسوف يُحدِثُ ذلك إحساساً بالتّماهي في قلوب المتابعين الذين يستوقفهم مشهد هلاك العالم المروّع على شاشات التلفزيون، والذين قد يشعرون بالانتساب إلى ضحايا التفجير. تَكمن القوة الرّمزية للحركة الجهادية في تعزيزها قيم الموت من ناحية، والتي لا تتوقف حصراً على العدوّ، بل تمتدّ لتخترق المتفرّجين على اختلافهم مسلمين كانوا أو غير مسلمين.

 

كما يستهدف القتل من ناحية أخرى المتفرّجَ الذي يُفترضُ القضاءُ عليه باعتباره أحد المارّة، الذي يغدو في الوقت ذاته شاهدَ عيان على عملية قتل جماعي في صورة الاستعراض المسرحي على السّاحة العالمية لكن برداء المتفرّج هذه المرّة، تُضاف إليها دعوة الغرب الذي كان من المفروض إبادتُه الفصل لأخذ دور في الاحتفالات بالقتل والموت ضمن الجمهور. وفي ذلك بيان للمهمّة التي تؤدّيها وسائل الإعلام العالمية، والتي أخذتها على عاتقها دون قصد.

 

ويقول فرهاد "تنطوي أبرز نجاحات حركة الإصلاح الإسلامية، خلال القرن العشرين، على قدرتها على فصل مذهب التّصوّف الإسلامي (الصّوفية) عن الفكر الجهادي.

 

لقد دَأَبَ معظم المتصوّفة الإسلاميين تاريخيّاً على احتضان الجهاد العنيف خلافاً للمتصوّفين المسيحيين الذين كانوا منصرفين عن الحرب العادلة، ولم يبذلوا جهداً في دفعها؛ إذ لم يتعارض جهاد المتصوّفة الإسلاميين الأعظم (أو الجهاد الأكبر)، القائم على ابتغاء الاستنقاء الداخلي وعلى الروحانية، مع الجهاد الأصغر. بل كانا يتمّمان بعضهما بعضاً؛ إذ التحق عدد جمٌّ من المتصوفة مقاتلين مِقْدامين أوفياء للجهاد العنيف (الجهاد الأصغر).

 

ويستدرك موضحا أن مذهب التصوّف الإسلامي الجديد، على اختلاف انتمائه عند الشيعة أو السنّة، يضع خيطاً فاصلاً بين نمطي الجهاد، وذلك بإخضاع الجهاد الروحي حصراً للجانب الروحي، وإيلاء مهمّة الفضاء الاجتماعي للبشر القادرين على التشريع باستقلالية تحت مسمّى إعادة النظر في الموضوعات الإسلامية.

 

نشير إلى إخفاق مذهب التّصوف الجديد في الاستفادة من الأهميّة التي يوليها المسلمون والغرب نتيجة هيمنة الإسلاميين المحافظين والأصوليين في إحكام قبضتهم على المؤسسات الإسلامية، التي تُعنى بالتعلّم والتّعليم العالي. يبدو من الضرورة بمكان وقف اتجاه هذا التّيار وقلب اتجاه البوصلة حتّى يتاح للمتصوّفين المسلمين الجدد والإصلاحيين تبليغ صوت الطبقات المتوسّطة الإسلامية الحديثة الحرّ والتعبير عن تطلّعاتها؛ طبقات ما انفكّت تعاني من التّهميش على يد الأنظمة الإسلامية المستبدة والحكومات العلمانية الاستبدادية في العالم الإسلامي (مثال الحكومة التونسية).

 

ويخلص فرهاد إلى أنه آن الأوان ليرتفع عالياً صوت الاعتدال الحرّ القادم من المتصوّفة الإسلاميين العصريين أو من المسلمين العلمانيين أو من المسلمين ذوي النزعة الإصلاحية، أو حتى الصوت القادم من الأصوليين المسالمين، ولِيتردّد هذا الصوت بوتيرة أوفر ليُسهم في تعزيز نسخة جديدة من الإسلام زاخرة بالأمل في هذه الحياة وفي أخرى تبزغ في الأفق مبشّرة بحياة أفضل لا معادية له لن يكون الموت محور عقيدتها، ولن يكون فيها غير المسلمين أعداء محتملين.

 

تبدو التأويلية الجديدة للإسلام في حركة دائبة تسير قدماً في تعاملها مع أسس التّفسير. وسعياً إلى تحقيق الغرض المنشود، فهي في حاجة، ببساطة، إلى انفتاح المؤسسات القديمة، وإنشاء هيئات إنسانية جديدة في الحضارة الإسلامية باسم مُناخ أَرحَب يغمره شعاع الأمل بحياة أفضل ومستقبل لن يُغيّبَ بصيصاً من شمس ترقص على نغمات الأمل وهي تتلو آية الإشراق.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة