منذ أن جاء الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو يرفع صوته بالسيطرة على كندا وجرينلاند، فيما يعلن أمام العالم عن رغبته فى إنهاء الحرب الروسية - الأوكرانية بخطة تفضى بإجبار كييف على التنازل عن أراضيها لصالح موسكو، وهذا بالتزامن مع مساعى الصين للسيطرة على تايوان وتوسيع نفوذها فى البحر الجنوبى، مما يطرح سؤالا مهما على طاولة النقاش: هل يحاول الزعماء الثلاثة إعادة رسم خريطة العالم والعودة لعصر «مناطق النفوذ»؟
فسّرت مونيكا توف، أستاذة السياسة الدولية، ومديرة مركز الدراسات الاستراتيجية فى كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة توف الأمريكية، خطط الزعماء الثلاثة بمقال نُشر بمجلة «فورين آفيرز»، إذ اعتبرت أن تلك الجهود ترمى إلى تقسيم العالم إلى ما يُعرف بمناطق النفوذ، وهو مصطلح ظهر للمرة الأولى فى مؤتمر برلين عامى 1884 و1885، الذى وضعت خلاله الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية «القواعد الرسمية» لتقسيم إفريقيا، والذى يسعى بشكل رئيسى إلى تقويض استقلالية الدول الصغرى وانتهاك سيادتها. وهذه ليست المرة الأولى التى يسعى بها زعماء الدول الكبرى لتنفيذ تلك الخطة، ففى أعقاب الحرب العالمية الثانية سعى الرئيس الأمريكى فرانكلين روزفلت، والرئيس البريطانى ونستون تشرشل، والزعيم السوفييتى جوزيف ستالين، إلى تقسيم أوروبا إلى «مناطق نفوذ» اعتقادًا منهم بأن ذلك أقصر الطرق لتفادى حرب عالمية، ولكن بحلول نهاية الحرب الباردة انهارت تلك التقسيمات. والآن، مع صعود السياسات القومية فى أمريكا، ربما نشهد «رِدة جيوسياسية» غير مسبوقة سوف تكون جميع دول العالم تقريبا مجبرة على التعامل مع آثارها. ووفقًا لـ«توف»، ربما كان الغزو الروسى لأوكرانيا عام 2022، وضم جزيرة القرم عام 2014، اختبارًا روسيًّا لتلك السياسة.
كانت تلك الحرب مؤثرة على العالم أجمع، ففى البداية شهدنا أوروبا وهى مجبرة على إعادة النظر فى اعتمادها على واشنطن، فيما أعاد الزعماء الأمريكيون تقييم الوفاء بالتزاماتهم الخارجية. وبالطبع، قادت الحرب الصين إلى دور جديد داعم لروسيا وجعلت دولًا على بُعد آلاف الأميال تُصارع أسئلة جوهرية حول مستقبلها وكيف يُمكن موازنة شراكاتها مع القوى الكبرى المتحاربة، وما الخيارات المادية والمعنوية التى ينبغى اتخاذها والتى ستبدو حكيمة حين يُنظر إليها بعد عقود؟، ولعل الإجابة على تلك الأسئلة تتمحور حول فهم رغبة القوة الكبرى فى التفاوض حول نظام عالمى جديد كما فعل قادة الحلفاء عندما أعادوا رسم خريطة العالم بمفاوضات «يالطا» عام 1945. وترى «توف» أنه فى حال توصل الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، والرئيس الصينى شى جين بينج، بالإضافة إلى ترامب، إلى إجماع غير رسمى على أن «سياسة القوة» أهم من الخلافات الأيديولوجية، فإنهم سوف يسيرون على خطى «يالطا» فى تحديد سيادة ومستقبل الدول المجاورة. وفى عالم كهذا، سوف تهمش المؤسسات المتعددة الأطراف مثل حلف شمال الأطلسى (الناتو) والاتحاد الأوروبي، وسوف تتعرض استقلالية الدول الصغرى للتهديد، بصورة غير مسبوقة منذ عقود، خاصة ونحن نشهد وقوع الدول الكبرى تحت سيطرة زعماء يتبنون سردية «إعادة البلاد عظيمة» مرة أخرى، وهو مبدأ يسعى فى باطنه وظاهره إلى نهاية واحدة لا بديل لها، وهى ممارسة القوة الصلبة للسيطرة على «مناطق النفوذ» وتوسيعها واستعادة الشعور بالعظمة. وهو ما يقودنا إلى فكرة فى غاية الأهمية، وهى أن الصين لن تكتفى بالسيطرة على تايوان، ولن تكون أوكرانيا وحدها كافية لطموح بوتين فى تحقيق رؤيته لمكانة روسيا، ولا أحد يعرف ما هى طموحات ترامب، حقًا.
وهنا، نأتى للجزء الذى يجب التطرق إليه بينما يرسم زعماء الدول الكبرى خريطة العالم من جديد، وهو مسار تكيف الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطلسى (الناتو). وفى هذا السيناريو، ربما تعمل تلك القوى على موازنة جهود واشنطن وروسيا والصين الرامية إلى استخدام القوة الباطشة لتحقيق مصالحها الضيقة بشكل يهدد سلام العالم وأمنه وازدهاره، ولكن فى تلك الحالة، سيتعين على هذه القوى الموازنة أن تكافح من أجل هذا البديل، وأن تستغل العقبات التى يفرضها عالم اليوم -الأكثر عولمة- على القوى العظمى، خاصة فى ظل صراع واشنطن وبكين بهدف الهيمنة على الساحة التكنولوجية والاقتصادية العالمية، حيث فرضت واشنطن عقوبات على عمالقة التكنولوجيا الصينيين، بينما استثمرت بكين بكثافة فى سلاسل التوريد البديلة ومبادرة «الحزام والطريق» الضخمة. فيما تحركت روسيا ببراعة تُحسد عليها رغم ضعفها المادي، مستخدمة بفاعلية أسلوب الحرب الهجينة لإضعاف الغرب بما يشمل الهجمات الإلكترونية وحملات المعلومات المضللة للتأثير فى استحقاقات حيوية مثل استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى عام 2016 والانتخابات الرئاسية الأمريكية فى العام نفسه. والواقع يخبرنا بأن بوتين لم يتخلَّ قط عن فهمه للجغرافيا السياسية القائمة على «مناطق النفوذ»، وأنه يواجه صعوبة فى فهم استمرار (الناتو) فى الوجود، فضلا عن توسعه المستمر، وهو التوسع الذى جاء فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتى وجعل أوروبا بأكملها -وخاصة دول حلف وارسو السابقة- منطقة نفوذ أمريكية وهى نتيجة لم يقبلها بوتين قط. وفيما أثبتت تلك القوى على مدار العقود الماضية أن استخدام القوة أداة فاشلة لتحقيق أهدافها إذ باءت جميع محاولاتها بالفشل. يبقى السؤال: هل يمكن أن نشهد سيناريو تتفق فيه الولايات المتحدة والصين وروسيا على أن لديها جميعا مصلحة حيوية فى تجنب حرب نووية، فمثل هذا الاعتراف إلى جانب الإقرار بمجالات نفوذ كل من هذه الدول يمكن أن يكون آلية لردع التصعيد، ليبقى الجزء الأكثر تعقيدًا وهو «تقسيم مجالات النفوذ بدقة». ففى حين يتجلى هذا الجزء فى مثال تايوان التى تنتج رقائق ضرورية لنمو الدول وأمنها القومي، مما يجعل من الصعب على واشنطن السماح للصين بالسيطرة عليها، كما لا تريد واشنطن السماح لروسيا بالوصول الحصرى إلى المعادن الأرضية النادرة فى أوكرانيا، فيما تخشى بكين من وقوع اليابان وتايوان ضمن مناطق النفوذ الأمريكية ولهذا السبب تسعى الصين إلى أن تصبح قوة بحرية وتعمل بلا كلل لتعطيل النفوذ البحرى الأمريكي. ونظرًا لتشابك المصالح، فإن الاستنتاج الأكثر واقعية هو أن الولايات المتحدة لا تمثل عامل استقرارٍ موثوقًا به حاليا، إذ تحولت واشنطن من الرادع الرئيسى للأنظمة التوسعية الإقليمية، إلى مشجع ومقلد لتلك الأنظمة وهو ما يجعلنا أمام خيارين، إما أن نشهد توازنا للقوى وإما فتح حقبة طويلة من عدم الاستقرار والحرب على «مناطق النفوذ».
