عندما وصل الاستهداف الغربى ضد مصر إلى ذروته.. خلال العدوان الثلاثى عام 1956.. بحجة أن مصر قامت بممارسة حقها القانونى بتأميم قناة السويس.. ظهرت العشرات من الأغانى والقصائد الشعرية.. التى تؤكد على حق مصر.. وتواجه العدوان.. وتعلن أن أمن مصر القومى (خط أحمر).. وعلى من ينوى الاقتراب منه التفكير ألف مرة.. قبل أن تصيبه لعنة المصريين.. وكان على قمة هذه القصائد.. قصيدة الشاعر كمال عبد الحليم.. التى غنتها السيدة فايدة كامل وتقول بعض أبياتها.
دع سمائى فسمائى محرقة دع قنالى فمياهى مُغرقة
واحذر الأرض فأرضى صاعقة هذه أرضى أنا.. وأبى ضحى هنا
وأبى قال لنا مزقوا أعداءنا
ومن الواضح أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى أشد الحاجة لمن يقرأ له هذه القصيدة.. أو يُسمعها له بصوت فايدة كامل وهى تؤدى بكل الحماسة والشجاعة.. وكأنها جندى جسور على خط النار.
وإذا كان ترامب يفتقد إلى وجود مستشار عاقل يعمل على فلترة تصريحات الرجل التى تنهال على الناس كالسيل.. لتخبط وتتخبط فى كل الاتجاهات والزوايا.. فإن عليه عندما يقترب من مصر أن يكون شديد الحذر.. خاصة عندما يقترب من قناة السويس.. التى اختلطت مياهها بدماء عشرات الآلاف من المصريين.. الذين حفروها.. أو الذين شاركوا فى الحروب.. التى دارت على شاطئها دفاعاً عنها وحماية لها.. لتتحول القناة إلى منجم لبطولات المصريين.
ويحمل كلام ترامب عن ضرورة عبور السفن الأمريكية مجاناً لقناة السويس.. الكثير من السذاجة والمغالطات، فالرجل يدعى أن بلاده قد ساعدت فى حفر تلك القناة.. وهو بهذا الكلام الساذج يحتاج إلى منْ يطلعه على تاريخ بلاده.. فعندما كان المصريون يقدمون أرواحهم.. تضحية لكى يحفروا تلك القناة.. تحت سياط السخرة.. التى ألهبت ظهورهم.. عندما استطاع الأفاق فرديناند ديليسبس.. الحصول من صديقه الوالى سعيد على امتياز حفر قناة السويس.. ورغم أن هذا الامتياز ينص على جلب ديليسبس للمعدات والآلات التى تقوم بحفر القناة.. إلا أنه تحايل على تلك النصوص.. وأجبر الوالى على جلب عشرات الآلاف من المصريين لكى يعملوا بالسخرة فى حفر القناة.. تلك القناة التى حفرت فى عشر سنوات (1859- 1869).. وعندما كان المصريون يموتون أثناء عمليات الحفر الشاقة.. كان الأمريكان يقتلون بعضهم فى حرب أهلية طاحنة استمرت أكثر من أربع سنوات فى الفترة من 1861 – 1865.. وقد راح ضحية هذه الحرب الأهلية التى دارت رحاها بين ولايات الشمال وولايات الجنوب.. ما يقرب من مليون قتيل فى الجانبين المحاربين.. وكان من أهم نتائج تلك الحرب الأهلية.. توحيد الولايات الأمريكية تحت حكومة واحدة.. والأهم إلغاء نظام العبودية.. الذى كان يعانى منه السود.. الذين تم جلبهم من البلدان الإفريقية بالعنف والقهر.. فكيف ساعد الأمريكان فى حفر قناة السويس.. وهم خلال فترة الحفر كانوا يقتتلون ويقتلون بعضهم بعضا.. ثم إن عملية مرور السفن فى قناة السويس تخضع لاتفاقية القسطنطينية.. التى تم توقيعها فى عام 1888.. وقد حفر المصريون قناة السويس بمعاولهم.. وسقط منهم أكثر من مائة ألف شهيد خلال السنوات العشر.. التى تم خلالها حفر القناة.. ولم يكن هؤلاء الشهداء هم التضحية الوحيدة.. التى قدمتها مصر من أجل القناة.. حيث استطاع الأفاق النصاب ديليسبس توريط الوالى سعيد ومن بعده الخديو إسماعيل.. فى الكثير من الديون مما أدى إلى أن يبيع الخديوى إسماعيل حصة مصر فى أسهم القناة (44 فى المائة من الأسهم).. باعها إسماعيل للإنجليز.. ثم باع الخديوى توفيق حصة مصر فى أرباح القناة (15 فى المائة من الأرباح).. لتصبح الدولة المصرية بلا أى عائد من القناة.. التى حفرها المصريون ومات عشرات الآلاف من أجلها.. ولم تتوقف التضحيات المصرية عند هذا الحد.. حيث أدى الصراع الإنجليزى الفرنسى إلى قيام إنجلترا باحتلال مصر عام 1882.. واستمر هذا الاحتلال البغيض أكثر من سبعين عاماً.. حتى جاءت ثورة يوليو 1952.. وأجبرت هذا الاحتلال البغيض على أن يحمل عصاه على ظهره ويرحل عن الأراضى المصرية.. يعد توقيع معاهدة الجلاء فى أكتوبر 1954.. ليرحل آخر جندى إنجليزى عن الأراضى المصرية فى 18 يونيه 1956.. ولتقوم مصر بممارسة حقها القانونى فى تأميم قناة السويس فى 26 يوليو 1956.. حيث أقدم الزعيم جمال عبدالناصر على تلك الخطوة العملاقة.. رداً على سحب أمريكا وإنجلترا والبنك الدولى عرضهم لبناء السد العالى.. ذلك السد العظيم الذى كان بناؤه العمود الفقرى لخطة التنمية الطموحة.. تلك الخطة التى تصدت للفيضان.. وأطلقت يد مصر فى الصناعة وفى استصلاح الأراضى الصحراوية، وانفجر الحقد الغربى ضد مصر من خلال العدوان الثلاثى.. الذى شاركت فيه كل من إنجلترا وفرنسا والكيان الصهيوني.. وقدم أبناء مصر من سكان مدينة بورسعيد الباسلة.. عشرات المئات من الشهداء.. لكى يحافظوا على قناة السويس.. ولكى يحافظوا على استقلالية القرار المصرى.. ولكى يؤكدوا لكل العالم أن قناة السويس جزء أصيل من الأمن القومى المصرى.. وأن هذا الأمن خط أحمر.. لن نسمح لأى كائن مهما كانت قوته.. من الاقتراب منه.. واستطاع المصريون دحر هذا العدوان الثلاثى.. والاحتفاظ بقناة السويس إلى الأبد وتحويلها إلى واحد من أهم روافد الاقتصاد المصرى.. ولم تتوقف المطامع الغربية عند هذا الحد.. حيث قام الغرب بقيادة أمريكا بدعم الدولة العبرية.. لتشن عدوانها ضد الدول العربية وخاصة مصر.. فى الخامس من يونيه 1967.. لينتفض جيش مصر العظيم من الكبوة إلى المقاومة.. من خلال حرب الاستنزاف العظيمة.. التى بدأت منذ الثلاثين من يونيه 1967.
واستمرت لأكثر من ألف يوم.. قدم خلالها أبطال مصر 4400 عملية عسكرية ضد قوات العدو على أرض سيناء.. كما شهدت تلك الفترة تشييد كل الأعمدة التى قام على أكتافها العبور العظيم فى السادس من أكتوبر 1973.. وتحقيق الانتصار.. ليثبت المصريون أنهم على استعداد لتقديم التضحية بالدماء والأرواح.. للحفاظ على قناتهم التى حفروها بأظافرهم.. لتتحول إلى واحد من أهم رموز بطولاتهم.. ولذلك فهم على استعداد بشكل دائم.. لمواجهة كل من يحاول المساس بهذا الرمز الوطنى العظيم.. ولذلك فإن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى أمس الحاجة لمن يشرح له ماذا تمثل قناة السويس بالنسبة للمصريين، وماذا تمثل القناة بالنسبة لهذا الشعب العظيم.. الذى استطاع تحويل مجرى قناة السويس.. إلى مقبرة عملاقة لكل من يحاول المساس بالأمن القومى المصرى.. انطلاقاً من أن القناة تمثل درة التاج.. ليس فى مجال الاقتصاد فقط.. ولكن فى كل المجالات الاقتصاد والسياسة والجغرافيا والتاريخ الوطنى.. الخ.
