فى العام الأخير، قامت إسرائيل بدعم أمريكى كامل بقطع الأذرع الإيرانية فى المنطقة، ضرب حزب الله وقياداته خاصة حسن نصر الله، ثم الإطاحة بنظام بشار الأسد، وتدمير الجيش السورى، وإخراج إيران من هناك نهائيا، فضلا عن الهجمات على قيادات حماس والجهاد فى فلسطين، وامتد الهجوم حتى الحوثيين فى اليمن.
لكن قطع الأذرع لم يكن كافيا فى نظر الإدارة الأمريكية، الهدف هو منع المشروع النووى الإيرانى وتغيير النظام هناك.
الدول التى سُمح لها دخول النادى النووى كانت لديها مبررات مقبولة من النظام الدولى، تحديدا الولايات المتحدة، إسرائيل قُدِّم لها مفاعل ديمونة من فرنسا، وغضت أمريكا الطرف لأنها رفعت راية أن العرب يريدون القضاء عليها وإلغاء وجودها، الهند سُمح لها بالقنبلة لأنها دولة كبرى مجاورة للصين وروسيا، وكل منهما دولة نووية، وهكذا أرادت أمريكا ألا تنفرد الدولتان فى المنطقة بالقوة النووية، باكستان سُمح لها باعتبار أن لديها تهديدا وجوديا من الهند، وهكذا كان لا بد من ذلك التوازن.
إيران تريد دخول النادى النووى، وهذا يعنى أنها يمكن أن تهدد منابع النفط فى الخليج وتسيطر على مصادر الطاقة، وهذا لن تسمح به أمريكا، يُضاف إلى ذلك أن إيران منذ سنة 1979 رفعت شعار “نصرة المستضعفين” بما يعنى تصدير الثورة إلى بلاد المنطقة وتكوين ميليشيا موالية لها واعتُبر ذلك تهديدا لإسرائيل.
حاولت الولايات المتحدة أن تعرقل وصول إيران إلى مرحلة تصنيع القنبلة النووية، ولما اقتربت إيران كثيرا، كان لا بد من الردع والتعطيل، وهكذا استعملت أمريكا إسرائيل للقيام بتلك المهمة، الرئيس ترامب أعطى الضوء الأخضر، وأُحيط علمًا بالعملية لم تشارك أمريكا فى الغارة، لكنه قال “سنتدخل للدفاع عن إسرائيل إذا لزم الأمر.
لا أحد يعرف الهدف النهائي، هل هو تدمير المنشآت النووية وتعطيل المشروع النووى الإيرانى لسنوات أم إسقاط النظام، ليأتى نظام آخر يستبعد النووى نهائيا، نظام يبدأ من الصفر كما جرى فى سوريا؟
مع الغارة الإسرائيلية قرر الرئيس الروسى بوتين وقف رحلات الطيران الروسى إلى الأردن ولبنان وإسرائيل وإيران حتى يوم 26 يونيو، وهذا يعنى أن معلوماته هى استمرار الغارات حتى يوم 26 من هذا الشهر.
سوف تستمر الغارات التبادلية، يشجع على ذلك أنه لا حدود مشتركة بينهما، ومن ثم ليس واردًا أن يقتحم أى طرف حدود الآخر ويحتل أراضيه، كما جرى مثلًا فى الحرب العراقية – الإيرانية، أو حرب 67 بين إسرائيل ومصر وسوريا والأردن، الغارات أقرب إلى حرب استنزاف، يقصد كل طرف أن تكون موجعة للآخر، نجحت إسرائيل فى اغتيال عدد كبير من القادة العسكريين الإيرانيين، فضلا عن عدد من العلماء، أكثر من عشرين قائدًا وعالمًا، وتحدثت إسرائيل عن اختراقات مخابراتية شديدة قامت بها فى الداخل الإيراني، وهذا ملموس منذ عامين، مع عمليات الاغتيال التى نفذتها إسرائيل فى الداخل الإيراني، ربما تكون طائرة الرئيس الإيرانى السابق إبراهيم رئيسى واحدة من تلك العمليات. نائب مهم فى البرلمان الإيرانى اتهم وقتها إسرائيل بالمسئولية عن إسقاط الطائرة.
الهجوم المفاجئ على إيران بهذه الطريقة يثير التساؤلات: كيف أمكن لمائة طائرة حربية إسرائيلية أن تدخل المجال الجوى الإيرانى دون رصد ودون رد مباشر لحظتها، فضلا عن حجم تواجد الموساد على الأرض فى الداخل الإيراني؟.. ويبدو أنه كانت هناك استفادة ودراسة لعمليات الموساد السابقة هناك، مثل اغتيال إسماعيل هنية فى مقر إقامته بالمنطقة المؤمّنة فى العاصمة طهران.
نعرف أن جهاز المخابرات الإسرائيلية لا يعمل وحده، بل يتلقى مساعدات لإسرائيل من أجهزة أخرى كبرى، وبالتأكيد هناك أطراف كثيرة تريد إضعاف النظام فى إيران؛ فتقدم المساعدة لإسرائيل.
مصلحة إسرائيل المباشرة أن تكون القوة الوحيدة فى المنطقة، هذا يضمن لها الاستمرار للاعتماد لدى القوة العظمى واللجوء إليها فى المهام والعمليات التى لا تفضل تلك القوة أن تبدو متورطة فيها، الولايات المتحدة تريد استعادة إيران فى حوزتها وقريبة منها، كما كانت أيام الشاه، وليس كما هو الآن إذ تتحالف إيران مع روسيا، الإدارة الأمريكية اتهمت ايران أنها وراء هجمات الحوثيين ضدها، اتهمتها أيضا بمساعدة روسيا ضد أوكرانيا.
هناك عقاب أمريكى يوجه نحو إيران لأسباب كثيرة، وإسرائيل تمارس وتنفذ هذا العقاب لمصالحها أولا ولحساب الولايات المتحدة أيضا، بعض المحللين يقطعون بأن الضربة الأولى على إيران تفوق إمكانات وقدرات إسرائيل، وبدأت بعض الخبايا تتكشف عن الصواريخ التى نُقلت إليها من أمريكا قبل ثلاثة أيام من الهجوم ودون المرور بالكونجرس، استنادا إلى موافقة مسبقة.
لدى إيران عمق استراتيجى ومساحة وشعب ضخم يمكّنها من امتصاص تلك الهجمات والرد عليها، فضلا عن القدرة على التحمل.
الشعب الإيرانى فى أغلبيته من المسلمين الشيعة، لدى الشيعى استعداد لتقبل المحنة والإيمان بالمظلومية، وهذا يعنى أنهم سيتحملون بإيمان كل هذه الضربات، ومَن يراهن على أن الشعب سوف ينتفض ضد الدولة والنظام فى هذا الظرف فهو واهم تماما، الإيرانيون أيضا لديهم عمق تاريخى وحضارى ممتد يجعلهم قادرين على التحدى والمواجهة، تحملوا ثمانى سنوات من الحرب مع العراق وصدام حسين فهم أحفاد الفرس، أى أمة من المحاربين.
فى المقابل إسرائيل بلا عمق استراتيجى، لذا فإن الصواريخ الإيرانية تعطل الحياة هناك وتشل الاقتصاد، ليلة السبت كانت ليلة الفزع الأكبر عندهم، بسبب الصواريخ الإيرانية التى وصلت تل أبيب.. الإسرائيليون لن يتحملوا ذلك لذا فإن الأطراف الدولية سوف تتدخل لحماية إسرائيل، الولايات المتحدة حرّكت حاملة طائرات إلى المنطقة، بريطانيا ترسل طائراتها المقاتلة إلى المنطقة، الهدف هو عدم توسع العمليات العسكرية وتصبح حربًا شاملة، تجر معها أطرافا أو بلادا أخرى.. وكذلك منع إيران من تنفيذ تهديدها بإغلاق مضيق هرمز أو «باب المندب» مثلا.
هذا الحشد العسكرى فى المنطقة لا يمكن أن يكون ضد إسرائيل، بل هو لمساعدتها والدفاع عنها إذا لزم الأمر، خاصة أن لديها مفاعل ديمونة، ويجب أن يظل بعيدا عن أى هجمات أو غارات.
الصواريخ الإيرانية هدفها المباشر الانتقام ورد الاعتبار أمام الشعب الإيرانى وأمام شعوب المنطقة، حتى لا تفقد هيبتها باعتبارها قوة إقليمية.
المعطيات الدولية تقول إنه ليس مسموحا بهزيمة إيران ولا هزيمة إسرائيل.
إيران ملاصقة لروسيا وليست بعيدة عن الصين، وبقاؤها وبناء جيشها ضرورى للتوازن فى آسيا والشرق الأقصى، هى ملاصقة أيضا لأفغانستان وقريبة من باكستان وأذربيجان، هزيمتها تعنى خللًا فى توازن القوى بهذه المنطقة، وهذا ليس مسموحًا به، لذا وجدنا إسرائيل من اللحظة الأولى تعلق أنها لا تستهدف مرشد الثورة آية الله على خامنئى، الرسالة أنهم لا يريدون هدم الدولة ولا إسقاط النظام، فقط إضعافه وإعادته إلى الطريق الذى تريده إدارة ترامب، وقد استطاعت إيران استيعاب الضربة الأولى، ارتبكت لساعات، لكن أمكن شغر المواقع القيادية فى الجيش والحرس الثورى، وبدء الهجمات المضادة فى سماء تل أبيب وحيفا.
إسرائيل محمية أمريكية وبريطانية، لذا فإن السلاح والدعم الغربى حاضر والمشاركة المباشرة إذا اقتضى الأمر.
إذن المسموح به حرب استنزاف قد تطول أو تقصر بين الدولتين، إلى أن تتدخل القوى الكبرى لوقف إطلاق النار، ولم تحِن هذه اللحظة حتى الآن، إيران تريد الثأر ورد الاعتبار.
والواضح أن إسرائيل لديها بنك أهداف داخل إيران تريد تحقيقه، بحيث يمكنها الحديث عن نصر كبير.
النصر الذى تريده يتمثل فى ضرب المفاعلات النووية وتدميرها، الغارات التى نفذتها على المفاعل، فجر الجمعة، لم تُصِبه، سوى ببعض خدوش سطحية، أما التدمير فيحتاج إلى تدخل عسكرى أمريكى مباشر، الطائرات «152 - B» الثقيلة، لدى أمريكا فقط وليست لدى إسرائيل، هل يمكن أن تشارك أمريكا فى هذه العملية؟ لا أحد يمكنه القطع بذلك، كل الاحتمالات قائمة.
كل المؤشرات تقول إن المنطقة ستعيش أيامًا وربما أسابيع أخرى، فى ظل حرب الاستنزاف العنيفة والحادة بين إيران وإسرائيل، ولن تهدأ ما لم يقترب أحد الطرفين أو كلاهما من أهدافه الكبرى، أو أن يعلن أحدهما «تجرع السم» والعجز عن المواصلة، ولأسباب كثيرة تاريخية ونفسية وعقائدية لن يحدث ذلك.