الخميس 2 مايو 2024

فلسفة الفن

مقالات14-11-2022 | 22:26

لما كان الكائن البشري ظاهرة طبيعية من ظواهر هذا الوجود، ولما كانت الطبيعة الكونية تنطوي على أسرار لا حد لها، فإن الطبيعة البشرية تنطوي كذلك على أسرار لا حد لها، وقد استطاع الإنسان بفضل ما وفره العلم والتكنولوجيا من وسائل وأدوات أن يسخر الطبيعة لخدمته ويكشف أسرارها، كما تمكن عن طريق الحدس والتخيل، أو بعبارة أخرى عن طريق الفن من سبر غور النفس البشرية. 

والفن من حيث هو ظاهرة إنسانية لا يقل أهمية عن العلم أو عن الأخلاق في تحقيق التكامل النفسي والاجتماعي للإنسان. وإنه لمن العبث أن تعقد الموازنات بين نشاط الإنسان في ميدان العلم ونشاطه في ميدان الفن بغية تفضيل أحد جانبي هذا النشاط على الآخر، فالحياة الإنسانية وحدة متكاملة مع تعدد جوانبها، وهي كيان حي معقد لا يتحقق وجوده إلا بتوفير كل وظائفه، والأمراض التى تنتاب الإنسانية - إذا جاز لنا استخدام هذه العبارة - إنما تنشأ من انعدام التعادل بين جانبي هذا النشاط المتكامل. 

ولقد عرفت البشرية منذ أقدم عصور الفكر ثلاث قيم كانت تمثل أهدافًا ينبغي أن يسعى الإنسان إلى تحقيقها في نفسه وفي العالَم المحيط به بكل ما يملك من طاقات، وهى قيم الحق والخير والجمال.

وكان هذا التقسيم الثلاثي للقيم الإنسانية الكبرى مبنيًا على نظرة متكاملة إلى الطبيعة الإنسانية الروحية، التى لا تكتمل مقوماتها إلا إذا كرَّس الإنسان حياته من أجل اكتساب الحقيقة فى العلم، وتوخى الخير فى التعامل مع الغير، وبَحَثَ عن الجمال فى الطبيعة والفن. وهكذا كانت هذه القيم الثلاث تناظر ثلاثة أنواع رئيسية من النشاط الروحى للإنسان: العلم والأخلاق والفن.

وإذا كانت أنواع النشاط هذه جديرة بسعى الإنسان واهتمامه حتى تتكامل شخصيته، فإنها فى الوقت ذاته تعبر عن ثلاثة مسالك متباينة، لكل منها طابعه الخاص، مع تضافرها جميعًا فى تكوين شخصية الإنسان.

ولا شك أن البحث الفلسفي فى مشكلات الفن له قيمته، لا من حيث هو تحليل فكري وحسب، بل لأنه يزيد من استمتاعنا بالموضوعات الفنية، ويوسِّع فهمنا لها، ويفتح أمام الناقد والمتذوق آفاقًا جديدة يطل منها على ميدان الفن. 

لا شك أن تعلق الإنسان بالجمال واستمتاعه به وافتتانه بمظاهر الطبيعة قديم قدم الإنسانية، وما تركه لنا من آثار منذ العصر الحجرى الأول حتى عصور الحضارات القديمة المعروفة يشهد على صحة هذا الرأى. فإذا أخذنا مثالاً للحضارة اليونانية، نرى أن اليونانيين - حتى قبل عصر الفلسفة - قد أقبلوا على تمجيد ربات الفنون وعبادتها وتقديم القرابين لها ورعايتها، إيمانًا منهم بتقديس مظاهر الجمال الخالدة فى الفن والطبيعة، ولكن الشيء الآخر المؤكد، هو أن الشعور بالجمال كان سابقًا على النشاط الفنى، فلقد أحسَّ الإنسان أولًا بجمال الزهرة أو غروب الشمس قبل أن تكون هناك لوحات جميلة أو منحوتات رائعة - هناك إذن جمال طبيعى مستقل 

يختلف الناس فى تحديد معنى «الجمال» وإن كانوا يستخدمون هذه الكلمة كثيرًا فى حياتهم اليومية، فهم يطلقون كلمة جميل على مظاهر كثيرة تختلف فى طبيعتها وتكوينها، وهم لا يعرفون ناحية من أوجه الشبه بين هذه المظاهر. فنحن كثيرًا ما نسمع عن جمال هذا المنظر الطبيعى، أو أن هذه الصورة أو ذلك التمثال جميل، أو أن فى هذه القصيدة جمالاً، وإن هذا المبنى جميل، وذلك النغم الموسيقى جميل. وهكذا نجد تباينًا شاسعًا فى الموضوعات التى يمكن أن نصفها بالجمال، حتى إننا لا نكاد نستطيع أن نجد ناحية من أوجه التشابه بين هذه الموضوعات، ومع ذلك نصفها جميعًا بأنها «جميلة».

وإننا لنود أن نميز أولًا بين كلمة «جميل» وبين بضعة ألفاظ أخرى قد تختلط بها من حيث المعنى فى ذهن بعض الناس. فليس من اللازم أن يكون «الجميل» «مفيدًا» كما أنه ليس من اللازم أن يكون المفيد جميلًا، وإذن هناك فارق بين معنى هاتين الكلمتين. ولعل من الأمثلة التى نوضح بها الفارق بين المعنيين، إننا لا نستطيع أن نقول على الدواء المر إنه جميل، أو أن نقول بالضرورة على المنظر الجميل إنه «مفيد». بل أكثر من ذلك إننا يمكن أن نقول على بعض الحشرات المؤذية للإنسان أن فيها جمالاً، بل إن الثعبان والنمر وبعض الطيور الجارحة قد نحس بما فيها من جمال. فالجميل إذن قد لا يكون بالضرورة هو المفيد.

وليس الجميل أيضًا هو «الصالح» أو «الملائم» حقيقة يجوز أن نطلق هذه الكلمة على بعض ما هو ملائم، ولكن ليس كل ملائم وصالح جميلًا، فنحن لا نستطيع أن نطلق دائمًا كلمة «جميل» على أى آلة هى أنسب وأصلح ما يؤدى عملية من العمليات، فالسيارة «الصالحة» أو «الملائمة» للركوب وقطع المسافات قد لا تكون بالضرورة «جميلة».

وينبغى أن نفرق أيضًا بين ما هو «لذيذ» وما هو «جميل» فنحن نشعر باللذة من بعض الأكلات أو من بعض الروائح كرائحة البحر، ومع ذلك فنحن لا نطلق كلمة جميل على هذه الأشياء، بالرغم من أن بعض الناس يستعملونها خطًأ على هذا النحو، فيقولون: «أكلة جميلة»، ويقصدون أنها كانت «لذيذة».

ولقد كان بعض قدماء الفلاسفة يستخدمون كلمة (الجمال) على أنها مطابقة لكلمة «خير» أو «كمال» فكل ما هو «خير» من الناحية الخلقية، أو كل ما يساعد الحياة على النماء والقوة يُعَد فى نظرهم جميلًا، ويرى بعض الباحثين أن الجمال خاضع للمعيار الحيوى كما هو خاضع أيضًا للمعايير الأخلاقية، والواقع أنه ينبغى أن نفرق بين ما هو «جميل» و«خير».

إن الإنسان الجميل فى منظره قد يكون شريرًا فى أفعاله، كما أن الفنان قد يرسم لوحة تمثل شحاذًا ضعيفًا متسولاً فى شارع ضيق مظلم، ومع ذلك تحس ما فى هذه اللوحة من جمال.

Dr.Randa
Dr.Radwa