سأنحى جانباً كل ما هو خاص يمكن كتابته بالنسبة للدكتورة هالة السعيد. ولا حتى الكتابة عن والدها المرحوم حلمى السعيد. وسأدخل فى موضوعى مباشرة، وهو ما نسب إليها فى الصحف عن فكرة المعاش المبكر. الذى من المتوقع أن تعلنه قريباً لموظفى الحكومة البالغ عددهم ٦.٥ مليون من العاملين.
وحسب ما أعلن فإن المعاش المبكر اختيارى، وأنه تحفيز لخروج ٢ مليون موظف على مرحلتين، وفى كل مرحلة تضم مليوناً من الموظفين. وأنه لن يكون هناك تركيز على الموظفات، لأنهن الفئة الأكثر استجابة لفكرة المعاش المبكر، بسبب الظروف الخاصة بكل واحدة منهن باعتبارهن عائلات وربات أسر. ولكن التركيز سيكون على كبار السن. خاصة من هم فوق سن الخمسين.
الهدف المعلن من هذه المسألة التخلص من العمالة الزائدة فى الجهاز الحكومى الآن. وهذا الكلام يعلن تطبيقاً لقانون الخدمة المدنية الذى وافق عليه مجلس النواب، واللائحة التنفيذية للقانون التى أعدتها الوزارة أو مجلس الوزراء.
فى الإعلان هناك حوافز تدفع الموظفين للإقبال على هذه التجربة:
منح الموظف ترقية واحدة فى السلم الوظيفى.
إضافة خمس سنوات فى المعاش لسنوات خدمته الحقيقية.
مهما كانت الأسباب والدوافع، ومهما كان الإحساس غير العادى بعبء موظفى الدولة المصرية على ميزانية الدولة، فإن الأمر يحتاج لمناقشة. وجدل مجتمعى واسع قبل أن ندخل فى الموضوع ونتسبب فى مشاكل ثم نندم على ما قمنا به. لأن ذلك يعطى انطباعاً بأننا ندير بلادنا بطريقة عشوائية إن لم تكن ارتجالية.
أتمنى من الوزيرة العودة لسبعينيات القرن الماضى. عندما بدأت تجربة الخصخصة فى مصر، وليتها ما بدأت، وليتها ما استمرت، وليتها ما كانت. لأنها أدت إلى ما سمى وقتها بالمعاش المبكر. وخرج من القطاع العام أفضل ما فيه. أغرتهم الأموال المعروضة عليهم. وبدلاً من الذهاب للعمل ذهبوا للمقاهى وأنفقوا الأموال التى حصلوا عليها فى غمضة عين. واكتشفوا بعد ذلك أن عائلاتهم التى كانت مشروعات تقدم للوطن أبناء جددا ومواطنين يساعدون فى بنائه قدمت جيوشاً من العاطلين عن العمل، بل إن أسرا كثيرة قد تم هدمها وتدميرها بعد تجربة المعاش المبكر فى سبعينيات القرن الماضى.
لا أعرف إن كانت هناك دراسات تدور حول هذا الأمر فى أى جهة بحثية مصرية، أو فى أى من الوزارات. لكن دراسة التجربة القديمة شديدة الأهمية قبل الدخول على التجربة الجديدة. فنحن شعب يميزه عن الدنيا كلها أنه مثقل بالتاريخ. ولديه تاريخ طويل، ومن لم يستفد من تاريخه لا يستحق أن يكون إنساناً.
بل إن المرحوم أحمد بهاء الدين يعرف الإنسان فى مقدمة كتابه: أيام لها تاريخ، بأنه حيوان له تاريخ. وأن هذا التاريخ هو ما يميز الإنسان عن الكائنات الأخرى على ظهر الكرة الأرضية. وبالتالى فإن من لا يستفيد من تاريخه ليس جديراً بحاضره، ولا يستحق أن يكون له مستقبل يحلم به ويشكله كما يريد.
هل فكرت الوزيرة فى أن المعاش الذى سيحصل عليه الخارج من الخدمة يعتبر٤٠ فى المائة من دخله؟ وبالتالى فإن ٦٠ في المائة سيتم استقطاعها، وهو مبلغ رهيب وغير عادى، من المؤكد أن الدكتورة هالة كمصرية مثلنا تعيش كما نعيش وتعانى كما نعانى – أو هذا هو المفترض – تدرك ما جرى مؤخراً من ارتفاع جنونى فى الأسعار وفقدان الجنيه قدرته المالية تماماً. ألا تعرف الوزيرة أن فى مصر الآن الوظيفة الثانية والثالثة والرابعة، وأنه لا يوجد موظف حكومى يعيش من مرتبه. أتحدى أن يكون هناك من يعيش من مرتبه.
ثم ما هو الضمان أن يخرج بموجب هذه الإجراءات العمالة الزائدة. أليس من المحتمل أن تخرج العمالة الماهرة من أجل العمل لدى القطاع الخاص أو المؤسسات الأجنبية؟.
الهدف نبيل ولا خلاف عليه. لكن المشكلة هى فى آليات التنفيذ.
الدكتور طارق شوقى، وزير التربية والتعليم صاحب تجربة فى المجالس المتخصصة برئاسة الجمهورية يمكن أن يقال إنها تجربة ناجحة. ومنذ دخوله وزارة التربية والتعليم وهو يحاول أن يُحدث فى العملية التعليمية ما يوجد له مكاناً فى تاريخ التعليم المصرى. وأن يتوقف أمام معضلة هذه العملية وقفة موضوعية وجادة، ونحن كلنا معه فيها. فالتعليم هو الأساس الذى يمكن أن يوفر لنا مواطناً حقيقياً. ولا أقول صالحاً. لأن عبارة الصلاحية انتهى زمانها. ولكن مواطناً واعياً يدرك ظروفه وأحوال بلاده ويصبح لبنة فى بناء الوطن.
لكنى توقفت أمام أمرين مؤخراً. الأول وسأمر عليه مروراً عابراً ما قاله إن نصف المعلمين “حرامية “ونصفهم الآخر غير أكفاء. ويكفينى بيان المهندس شريف إسماعيل، رئيس مجلس الوزراء الذى حاول أن يعالج هذا الأمر. لكن الدكتور طارق شوقى يعرف أكثر منى أن أى أحكام عامة خطأ. وأنه عندما يقول إن نصف المدرسين “حرامية” وأن نصفهم الآخر غير أكفاء. لا بد أن يكون لديه قدر من المعلومات الحقيقية والدقيقة التى تم التوصل إليها بموجب أجهزة علمية يستند إليها عندما يقول هذا الكلام.
أما الكلام على عواهنه أو الكلام المرسل أو الكلام الذى لا يستند لحقائق. فمن حق المواطن العادى أن يمارسه. ونحن فعلاً نمارسه آناء الليل وأطراف النهار. لكن ليس من حق المسئول أن يقترب منه على الإطلاق. فلسان المسئول مسئول مثله تماماً.
ما أريد الكتابة عنه ما قرأته فى الصحف أن الوزير سيرفع المصروفات المدرسية. وهو أمر كنت أتمنى مراجعته أكثر من مرة قبل إعلانه. فكل شئ يرتفع فى مصر الآن. الأسعار، الإيجارات، إيصالات الكهرباء، إيصالات الغاز، إيصالات المياه، أجرة المواصلات، أسعار الوقود، كل شئ يرتفع ارتفاعاً جنونياً فى الفترة الأخيرة. فهل معقول أن نجارى هذه الارتفاعات ونرفع مصروفات المدارس؟.
ليست هذه هى المشكلة. المشكلة الأساسية أن الوزير نسب له أنه قال إن من يحضر شهادة فقر من التلاميذ سيتم إعفاؤه من الزيادة الجديدة من المصروفات.
وهذا مربط الفرس يا معالى الوزير.
شهادة الفقر ليست جديدة. كانت موجودة من قبل. وهى مسألة بالغة الخطورة بالنسبة للطالب الذى يحضرها لكى يتم إعفاؤه من المصروفات. وكان هذا يجرى من قبل. أو يتم إعفاؤه من زيادة المصروفات. وهذا ما ينوى الوزير تطبيقه الآن.
أن يحضر طالب شهادة فقر، أياً كانت المبررات أو الهدف أو العائد عليه معناه أنك تضعه فى موقف نفسى وسط زملائه لا يحسد عليه. بل بالعكس يمكن أن يحدد علاقاته بكل زملائه حتى يذهب كل منهم لحال سبيله. بل بالعكس أنت تصمه بأنه فقير، ونحن وإن كنا فقراء جميعاً أو وإن كان أغلب أبناء هذا المجتمع من الفقراء فإنك إن قلت للفقير إنه فقير ربما اعتبر أنك تهاجمه، وأنه لا يجب أن تقول له ما قلته.
أتمنى ألا يكون ما نقل عن الوزير صحيحاً.
وإن كان صحيحاً، لا أتمنى إيضاحاً ولكنى أحلم كواحد من الشعب أن يلغى الوزير هذا الأمر. لأن شهادة الفقر تحدث فى أوساط الطلاب فرزا طبقيا ليسوا مستعدين للتعامل معه، وربما غير مؤمنين بوجوده، وبالتالى حرام ثم حرام ثم حرام أن نحول أبناءنا فى المدارس إلى فقراء وأغنياء.