الأحد 24 نوفمبر 2024

العرجاء..

  • 18-2-2017 | 18:14

طباعة

كتب: أحمد سعدة

إن مشكلتي يا سيدى تتلخص في أننى «عرجاء» لا ذنب لها في عجزها .. الطبيعة ظلمتنى، والمجتمع المريض لم يرحمنى.
أنا أُم رجل مسلوخة، كما ينادينى الأطفال.
لقد بدأت حياتى بمنتهى التفاؤل، لكن اصطدمت في عواطفي مبكراً، وعانيت من الكذب والخداع والاستغلال، سواء من صديق أو حبيب .. وفقدت تباعاً أغلى الناس في حياتى.
فقدت أمى وأبى .. وتزَوَجَت شقيقاتى .. وصرت وحيدة ويتيمة، بلا ظهر أو سند .. ومعاش والدى الذى أحصل عليه، لم يكف لاستكمال دراستى.
 

وكل مقابلة عمل تفشل .. وأصحاب الأعمال يحتاجون لفتاة تتحرك وتستقبل زبائن .. فتاة واجهة .. ولا يميلون لعرجاء مثلى.
وكل مشروع زواج لا يكتمل .. والأمهات لا يفضلن لأبنائهن زوجة عرجاء مثلى .. والشباب يمدحون ذكائى وأناقتى وأسلوىى، لكن في النهاية يتعاملون معي كأخت لهم.
ووجدت نفسى في النهاية أختاً لشباب مصر جميعهم.
ولن أخفي عليك أنني ممن يتقدم لهم عرسان، لكن كلهم ممن ضاقت بهم الدنيا وغضبت عليهم البنات .. وآخرهم كان «قزماً» جاءني عن طريق الجيران.

فهل يا سيدي لمجرد أني عرجاء، أستحق أن أكون مطمعا للعواجيز والأقزام ؟!
وتخيل أن صديقتى أخبرتنى أن خطيبها نصحها بأن تكون عاقلة مثلى .. رغم أنه عرفها من خلالى، وكنت أمامه ولم يخترنى .. فأنا في النهاية العرجاء التي سيخجل من الخروج والظهور معها.
لماذا ينبذنى الناس بمنتهى القسوة على عجز لا يد لى فيه.
إن معظم الناس الذين يعيشون بيننا يا سيدى شياطين رجيمة، مهما بدا غير ذلك .. وأنا في نظرهم عرجاء لا تصلح لشىء.
أنيقة وحلوة .. لكن الحلو ميكملش .. بتعرج يا خسارة.
وخللي بالك منها يا عم، أصحاب العاهات جبابرة.

ورغم أنني لا أزال في الثامنة والعشرين من عمرى، إلا أني أصبحت أشعر بأني عجوز في جسد شابة .. والتزمت البيت هرباً من الناس.

إن الناس يا سيدى كلهم عيوب، لكن عيوبهم تسترها ملابسهم .. أما عيبى أنا فمرئى، ومكشوف .. عيبى يراه الناس في مشيتى وخطوتى بوضوح.

إنني أحمل بداخلى أوجاعًا لا حد لها .. وأُداريها بضحكات عالية. كى لا يشعر بها أحد .. وأصبحت أمشى في الشارع كالبائسة، أنظر لأقدام البنات وأتساءل:
ماذا فعلت ليخلقنى الله هكذا ؟!

وفقدت ثقتى بنفسى .. وفقدت الأمل في الدنيا.

وأنا الآن في حالة انطواء وانزواء، وسخط على المجتمع والناس.
***
الــــــرد

إن المجتمع ليس له ذنب في كونك عرجاء .. وما أنت فيه لا يستدعى كل هذا الرثاء.
إن عذابك الحقيقي يكمن في نفسك، وفي عقدة النقص التي تلازمك بسبب عجزك.
إن اللحظة التي يتصالح فيها الإنسان مع نفسه، ويقبلها .. هي نفسها اللحظة التي يختفى معها شعوره بالنقص، ويستبدله بمشاعر الرضا وراحة البال.
والإنسان يحب الآخرين، حينما يتعلم أولا كيف يحب نفسه .. والسعادة هي حالة التناغم بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين مشاعره.
وأنت حزينة بسبب تراجع العرسان عن الزواج منك لعجز لا حيلة لك فيه .. رغم أنكِ أنتِ الأخرى رفضت عريسًا بسبب شكله وقِصره، الذي لا يد له هو الآخر فيه.!
إن ما في الناس، موجود أيضا فيك.
وتستنكرين السبب وراء خلق الله لك هكذا .. وتتخيلين أن الطبيعة تآمرت ضدك، وأن مأساتك هى الوحيدة في هذه الدنيا .. وتنسين أن هناك ملايين الأطفال الصم والبكم والعميان، والمرضى بالشلل. وُلدوا هكذا، بلا سبب. !

إننا نولد في هذه الدنيا، ولا دخل لنا أو اختيار في هيئتنا .. أو صحتنا ومرضنا .. أو حتى الطريقة التي نولد بها .. والشقراء لم تبذل مجهودا لتولد بشعر أصفر .. والقبيحة لا ذنب لها في قبحها .. والعرجاء أفضل كثيرا من غيرها.

وزيارة خاطفة لمستشفى أبناء مصر لحروق الأطفال، ستجدين بنات صغيرات مُشوهات الوجه والجسد .. وفي مستشفى السرطان، ستشاهدين بعينيكِ أطفالا أبرياء يصرخون ويتعذبون، والخراطيم والمحاليل في كل شبر من أجسادهم .. فماذا فعلوا، وما ذنبهم ؟

إن من ينظر إلى مآسى البشر ويشعر بهم، تهون عليه مأساته .. وتتواضع .. وتتضاءل .. وتختفي.
وفي نفس اللحظة التي أكتب إليك فيها هذه الرسالة، هناك عشرات الآلاف من عربات الإسعاف تنقل ضحايا الحوادث والاغتصاب والقتل والزلازل والأعاصير والحرائق والمجاعات والحروب الأهلية والمجازر حول العالم.

وهناك آلاف يرتدون بدلا حمراء، وينتظرون في رعب لحظة إعدامهم .. وهناك المظلومون والمضطهدون والمشردون في مخيمات، وملاجئ، ودور أيتام ومسنين.

إننا نلعن هذه الحياة التي تموج بالأحقاد والعدوان، ونستكثر ما فيها من شرور وعذاب .. ومع هذا نتمسك بها .. ونغنى ونرقص .. ونمرح ونحب .. ونتعلم ونسافر .. ونتأمل في الطبيعة رغم ما فيها من قسوة وعذاب وشرور وألم.

إن العذاب يحدث في هذا الكون لأنه جزء من تكوين الإنسان .. جزء من طبيعته .. جزء من حقيقته .. والحكمة من عذاباتنا خفية، ولا يعلمها إلا الله .. ولا سبيل أمامنا إلا الإيمان برحمة الله وعنايته، وأنه أبدا لا ينسى أحدا.

ولا مبرر ليأسك وسخطك، لمجرد أنك عرجاء .. فالإنسان في ضباب الكراهية ينسى نفسه ويعمى بصره وبصيرته عن اكتشاف ما بداخله من كنوز، وما حوله من جمال ونعم.


ومدام كورى كانت أقل منك...

    الاكثر قراءة