الأحد 28 ابريل 2024

الدولة المثالية بعيون رومانية.. قراءة في كتاب «عن الجمهورية لشيشرون»

مقالات30-12-2023 | 17:03

«الجمهورية هي ما يملكه الجمهور من أفراد الشعب، لكن مفهوم كلمة شعب لا يعني أي جماعة من البشر اتحدت بطريقة ما، بل حشد غفير من الناس اتحدوا فيما بينهم من خلال الاتفاق على احترام القانون والتعاون من أجل الصالح العام...» (الكتاب الأول، فقرة 25).

كاتب هذه الكلمات هو ماركوس تولّيوس شيشرون، فقيه وسياسي وخطيب وفيلسوف روماني، وُلد عام 106 ق.م في مدينة صغيرة تسمى "أربينوم" تقع جنوب "روما"، وتوفي سنة 43م، وعُرف باسم "شيشرون" أما اسمه على الأصح تقريبًا فهو "كيكيرو".وكانت حياة شيشرون انخراطًا في السياسة والتأليف في الفلسفة، وكادت السياسة تورده موارد التهلكة أكثر من مرة.

جمع شيشرون بين رجل الدولة الأول والتأمل الفلسفي. فكان غزير الإنتاج وكتب عددًا من المصنفات الفلسفية. مما جعله يتمتع بمكانة أدبية ممتازة ليس في عصره فحسب، بل كان نموذجًا ومعلمًا للأجيال اللاحقة.وإلى جانب خطبه ومراسلاته، يهمنا أن نذكر هنا أهم مُؤلف خطه في الفلسفة السياسية وهو «عن الجمهورية – باللاتينية De Republica».

وظهرت أول طبعة عربية لكتاب «عن الجمهورية»، بترجمة الأستاذان الجليلان، الدكتور علي عبدالتواب علي، والدكتور جمال الدين السيد، وهي صادرة عن المركز القومي للترجمة بالقاهرة. وجاءت هذه الترجمة عن الأصل اللاتيني.

ونجد كتاب «عن الجمهورية» وهو يحمل نفس عنوان المُؤلَّف الذي كتبه أفلاطون في نفس الموضوع، ولكنه يختلف كثيرًا عن بحث أفلاطون. فبحث شيشرون يقع في ستة كتب، وقد بدأه سنة 54 ق.م واستمر في كتابته ثلاثة سنين. وقد فُقِدَ منه أجزاء كثيرة، ولم يبق منه سوى أجزاء من الكتب الستة التي تضمها المحاورة، ولكن بحلول عام 1822م،عُثر على أجزاء مهمة منها بالإضافة إلى وصول نص حلم سكيبو كاملًا، بفضل اقتباس الكاتب مكروبيوس.

ويُعد المُؤلَّفعبارة عن مناقشة استمرت – على ما يبدو – ثلاثة أيام سنة 129 ق.م بين "سكبيوأفريكانوس الأصغر" وصديقه "لايليوس" وسواهما من أعضاء جمعية سكيبو الأدبية. ولم يكن موضوع الكتاب «العدالة» كما تتمثل في «المدينة الفاضلة» لأفلاطون، ولكنه يدرس الدولة نفسها وأفضل نظمها، وحكومتها، ومثله الأعلى للدولة – كما جاء على لسان سكيبو – هو مدينة «روما» حيث كانت تساس بحكمة ووطنية رجلها العظيم سكيبو. ولنستعرض الآن، بعضًا من فقرات الكتاب، حتى يتسنى لنا الوقوف على بعض الموضوعات التي قدمها شيشرون خلال هذه الكتب الستة.

«تتفق طبيعة أيه دولة مع طبيعة وإرادة من يحكمها؛ ومن ثم فإنه لا مواطن للحرية في أية دولة سوى تلك التي تمثل قوى الشعب القوة العظمى؛ والحق أن لا شيء بمقدوره أن يكون أكثر حلاوة من الحرية؛ لكن إن لم تكن الحرية مكفولة للجميع على حد سواء، فهي لا تستحق اسمها ذاته...». (الكتاب الأول، فقرة 31).

«إن القانون هو القيد الذي يربط بين أفراد المجتمع المدني، وحيث إن عدالة القانون تسري على الجميع، فأي عدالة يمكنها توحيد جموع المواطنين بينما لا توجد مساواة في الظروف الشخصية بين المواطنين؟». (الكتاب الأول، فقرة 32).

«أن أفضل دستور للدولة هو الذي يمزج بشكل متوازن الأنماط الثلاثة المذكورة: الملكية، والأرستقراطية، والديمقراطية، والذي لا يغذي الروح الجامحة والشرسة للمواطنين وذلك من خلال الخوف من العقاب». (الكتاب الثاني، فقرة 23).

«كيف تحول الملك إلى طاغية مستبد، وكيف أنه بسبب رذيلة رجلٍ واحد تحول نظام الدولة من نظام جيد إلى أسوأ نظام؟ لدينا هنا سيد على الشعب، من الذين يسميهم الإغريق طاغية؛ لأنهم يرون أن الملك هو من يرعى مصالح الشعب كأبٍ لهم، ويوفر لرعياه أفضل مستوى معيشة... الملك بمجرد أن يميل نحو حكم أكثر جورٍا، فإنه يصبح على الفور طاغية...». (الكتاب الثاني، فقرة 26).

«فكر أفلاطون وتحدث عن دولة يجب أن يُنظر إليها على إنها مثالية أكثر من أن يُنظر إليها على أنها يمكن تحقيقها على أرض الواقع، وقد جعلها على أصغر مساحة ممكنة. وعلى الرغم من أن هذه الدولة لا يمكن إقامتها، فإن النظرية التي تنظم العلاقات المدنية فيها يجب أن يُنظر إليها بعين الاعتبار، على أية حال، إن كان باستطاعتي أن أحقق هدفي، فإنني سأحاول جاهدًا أن أتبني نفس النظرية التي وضعها أفلاطون وأقوم بتوضيحها، ليس على دولة حقيقة ومن وحي الخيال، بل على دولتنا مترامية الأطراف. سأفعل ذلك لكي أبدو لك بأنني أشير بإصبعي إلى أسباب الصلاح والفساد السياسي في الدولة». (الكتاب الثاني، الفقرة 30).

«والحق أنهما (أفلاطون وأرسطو) لم يفتقرا إلى الرغبة في تعظيم العدالة؛ لأن ذلك كان الدافع الوحيد لديهما للكتابة عنها، فإن لم يكن هذا، فماذا كان الغرض من الكتابة عنها؟ لم يكن ينقصهما الذكاء، ففي هذا المضمار يتفوقان على كل الناس، إلا أنهما لم ينجحا في إقناع الآخرين بقضيتهما بسبب قلة حماسهما وافتقار قدراتهما البلاغية على التأثير. لأن العدالة التي نتناقش بشأنها هي شأن مدني، ولا علاقة لها بقوانين الطبيعة، فلو كانت جزءًا من الطبيعة، فإن العدالة والظلم، مثل الحرار والبرودة، ومثل المرارة والحلاوة، سيكونان متساويان عند كل البشر». (الكتاب الثالث، الفقرة 8).

«هناك قانون حقيقي ألا وهو المنطق الصحيح الذي يتفق مع الطبيعة، وهو يسري على جميع البشر، ولا يتغير وخالد؛ وتحث أوامره البشر على أداء مهامهم، وتمنع نواهيه البشر من ارتكاب الشرور؛ على أية حال فإن الرجال الصالحين يلتزمون بأوامره ونواهيه، أما الفاسدون فلا تجدي معهم نفعًا». (الكتاب الثالث، فقرة 22).

«لا يوجد شيء في الدولة به من الفساد العظيم مثل التصويت في الانتخابات والتعبير عن الرأي، فإنني لا أفهم لماذا الرجل الذي يفسد الجماهير بالمال يستحق العقاب، في حين أن الشخص الذي يفسدهم بفصاحته يحظى بالمديح. يبدو لي حقًا أن الرجل الذي يخدع القاضي قدراته البلاغية يرتكب جريمة أسوأ من الشخص الذي يفسده من خلال الرشوة؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يفسد الرجل الحكيم بالمال، ولكنه يستطيع بحسن البيان». (الكتاب الخامس، فقرة 9).

حاول شيشرون في كتابه هذا أن يقدم فيه صورة لوطن نموذجي مثلما فعل أفلاطون في محاورة «الجمهورية»، وكان يسلط الضوء على الماضي، من أجل أن يتماثل مع الدستور الروماني في عصر سكيبو كأفضل شكل للدولة. ويطرح فيه مسألة نظام الحكم واضعًا نصب عينه الجمهورية الرومانية، وهو يفضل نظامًا يجمع بين أنظمة حسنات أنظمة الحكم الثلاثة المشهورة: الملكية، والأرستقراطية، والديمقراطية، والدولة التي يتمناها هي الصورة المثالية للجمهورية الرومانية.

ورغم الأهمية البالغة لهذا الكتاب، لِمَا يحويه من نظريات ورؤى سياسية تهتم بتنشئة وتنظيم الدولة، إلا أنه مُنذُ صدوره في عام 54 ق.م وحتى الآن أي بمرور عشرون قرنًا، لم يسبق له الترجمة إلى اللغة العربية، حتى اتخذ هذه الخطوة كما ذكرنا آنفًاالمُترجِمان،الدكتورعلي عبدالتواب علي، والدكتور جمال الدين السيد، وهما متخصصان في الدراسات اليونانية واللاتينية.

والشيء بالشيء يُذكر،ووسط الكم الهائل من الترجمات العرجاء، لقيام الهواه والغير متخصصين بالعبث بتلك النصوص، والتي أصابت جموع الباحثين بفطور علمي وايضًا القراء، لتدني مستوى هذه الترجمات.فكما تبين لنا من قراءة تلك الفقرات المختارة السابقة،أنها ترجمة رصينة وجديرة بالقراءة والدراسة ايضًا، لأنها خرجت من تحت ايدي أستاذين متخصصين. لذلك ادعو المنشغلين ومحبي قراءة الفكر الفلسفي عامة، وخاصة الفلسفة السياسية، بقراءةهذا المُؤلف لعذوبة ترجمته التي نادرًا ما نجد ترجمة سليمة بهذا الشكل.

Dr.Randa
Dr.Radwa