الأحد 25 اغسطس 2024

قصص دار الهلال النادرة| «الحاج شلبي» قصة مصرية لـ محمود تيمور

الحاج شلبي قصة مصرية لـ محمود تيمور

كنوزنا25-8-2024 | 14:33

بيمن خليل

يزخر أرشيف مؤسسة دار الهلال منذ تأسيسها عام 1892م، بالعديد من القصص النادرة، والكنوز الأدبية، المكتوبة على أيدي كتّابًا بارزين، وبعد مرور عقود، قررت بوابة "دار الهلال "، إعادة نشر هذه التحف القصصية النادرة من جديد، والتجول في عوالم سردية مختلفة ومتنوعة، من خلال رحلة استكشافية في أرشيف دار الهلال العريق.

في عددها الصادر 1 يونيو 1927، نشرت مجلة الهلال قصة مصرية للقاص الكبير محمود تيمور، بعنوان "الحاج شلبي" هذه قصة قصيرة تدور حول شخصية الحاج شلبي، وهو رجل قاسٍ وعنيف يستغل زوجاته كمرضعات في بيوت الأغنياء للحصول على المال، القصة تصور معاملته القاسية لزوجاته وإهماله لأطفاله، فمن هو الحاج شلبي؟

نص القصة:

خرج الحاج شلبي من القهوة التي يتردد عليها عصر كل يوم، قاصدا إلى منزل "أم الخير" الكائن بجهة المناصرة، والمسافة طويلة ما بين القهوة ومنزل أم الخير، ولكنه اعتاد أن يقطعها بلا تذمر ولا تعب وأن يستبدل ركوب الكهرباء وسيارات الأمنيبوس أو سوارس التي تجرها البغال، بركوب قدميه الشديدتين داخل بلغته الصفراء القديمة

خرج الحاج شلبي من القهوة، بقامته الطويلة وجثمانه الضخم ووجهه العريض ذي الشارب الغزير، يحملق فيمن حوله بعينيه الواسعتين المظللتين تحت هدبيه الغليظين، فكان الناس جميعا ينظرون إليه بحذر نظرات التعليق والمداهنة، متجنبين أذاه خاشين شره وقسوته، وكيف لا يخشون شره وأذاه والكل يعلمون أنه خريج "الليمان" تركه منذ بضع سنين بعد أن أمضى فيه المدة المقررة، كان متهما مع زميل له بتهمة قتل فظيعة لم تثبت عليه ثبوتا تاما وأن ثبتت على شريكه، لم يهذب "الليمان" من أخلاقه الجافة ولم يغير من طبعه الذميم ولم يخضد شوكة قسوته بل زاده عتوا وجبروتا وميلا إلى التخريب والهدم وحبا لسفك الدماء.

خرج من معتقله كما يخرج الليث الغضوب من قفصه وقد برح به الحرمان وهو أشد شهوة إلى الفتك والتهام الفرائس، وهل ينسى زبائن هذه القهوة وسكان جهة "السيوفية" ظهور الحاج شلبي بينهم في موكب كبير على أثر خروجه من "الليمان"، لقد كان معتليا هو وجمع من "الفتوات" الأشرار زملاءه سطح عربة من عربات "الكارّ" يضجون بالأغاني البلدية وصياحهم الضخم العريض تردده الآفاق، وبين فترة وأخرى يقوم الحاج شلبي واقفا بين أصحابه الجالسين يطلب الرقص فيوسعون له مكانا على سطح العربة فيخلع شال عمامته ويحزّم به خاصرته ويرفع نبوته إلى أعلى ويبدأ يرقص بسكون وهو مسبل الأجفان يلتوي بنشوة ذات اليمين وذات الشمال ويقرع الأرض بتمهل بإحدى قدميه، تنمُّ ملامح وجهه على شعور باللذة عميق يشبه شعور مدخن الحشيش أو الأفيون وهو في غيبوبة الأحلام، والكل حوله يصفقون بشدة على ضرب واحد، يرددون بصوت أجش كريه: "عطشان يا صبابا دلوني على الطريق" ولفيف كبير من "أولاد البلد" العاطلين وصبيان الأزقة وأطفالها يحيطون بالعربة من كل جانب يشاركون "الفتوات" غناءهم وتصفيقهم بضجة كبيرة.

لقد كان الحاج شلبي اليوم أكثر الناس جذلا وسرورا، يعد خروجه من الليمان انتصارا عظيما أحرزه في ميدان جهاده، تنم كل إشارة من إشاراته وكل كلمة تخرج من فيه أنه بطل هذا العصر لا يدانيه في جبروته وشدة بأسه أحد، ولا ينسى الناس بعد ذلك ما أثاه هذا الرجل من ضروب القسوة والظلم، وخروجه فائزا بعد كل مشاجرة أو مقاتلة، لا تمتد عليه يد القانون ولا يقتص منه سيف العدالة

ليس الحاج شلبي متقدما في السن إذ لم يتخط بعد ربيعه الثامن والثلاثين، ولا هو بالرجل الورع الطاهر النفس شأن الذين يزورون الأماكن المقدسة، يغسلون فيها آثامهم وخطاياهم ثم يعودون إلى بلادهم حاملين لقبها الطاهر - هو مسلم على طريقة أهل فئته "الفتوات" يدين بالإسلام ويفخر بانتسابه إليه، ويعتقد أن كل ما يأتيه من المحرمات والمنكرات سيغفره الله له في الآخرة بشفاعة النبي (صلعم) إذ المسلم - مهما أتى في دنياه من موبقات وآثام ـ له الجنة مفتوحة الأبواب يلجها بطمأنينة وسلام في يوم القيامة، بعد عذاب يسير، لذلك استهان بأوامر الدين ونواهيه وانتهك حرماته جهارا وبلا حساب، إذا غضب لم يمسك لسانه عن سب "الدين" غير هياب ولا وجل.

لم يقم بفرض الصلاة إلا في صباه عملا بإرادة والده الذي كان يرهبه ويخشى أذاه، ولم يصم يوما واحدا في رمضان منذ أن وجب عليه الصيام، هو مستهتر جدة الاستهتار، يأتي المنكرات جهارا غير مبال بشيء، ومن نوادره أنه إذا وقف على قبر ولي من أولياء الله يناشده أن يجيب له سؤله ثم إذا أخفق بعد ذلك في أمره اتهم الوليَّ بإهمال مسألته وإنهال عليه شتما، يبصق بوقاحة على "مقامه" ويحرض الناس اضطرارا على مقاطعته ثم يستولي على صندوق النذور غنيمة باردة ويخص به نفسه دون سواه.

وبالإجمال كان الحاج شلبي هذا خارجا على "الدين" رغم انتسابه إليه، يتبرأ "الدين" منه وممن هم على شاكلته.. فمن أين جاءه إذن هذا اللقب الصالح وكيف دعوه الناس بالحاج

كان ذلك قبل اعتقاله في "الليمان" ببضع سنوات، إذ سافر في ركب المحمل إلى الأقطار الحجازية بصفة حلاق لركاب الدرجة الثالثة، فلما عاد الركب رجع معه الأسطى شلبي وقد نال غير مكسبه من مال وبضاعة هذا اللقب الصالح الذي لصقته به هذه "الحجة" إلصاقا شرعيا لم يفارقه ولن يفارقه حيا ولا ميتا

كان في ذلك الوقت في شرخ صباه، يبلغ من العمر العشرين، ولكنه لم يكن قد ضخم واستطال كما هو الآن، كان حلاقا في جهة "السيوفية" ورث حانوته وصنعته وزبائنه عن أبيه بعد وفاته وسار في صناعته في بادئ الأمر سيرا يبشر بالنجاح، فازدحم محله بالزبائن وانهال، عليه الربح الوفير، ولكن طبعه غلب تطبعه، فلم يستفد من الحج ولا من مؤازرة زبائنه له، وبدأ حياة ضالة مرذولة أتت على مكسبه ثم التهمت حانوته من بعد واتخذ اللصوصية مهنة خفية يكسب بها عيشه في الحياة متظاهرا أمام الناس بحياة البطالة والكسل، ولكن أمره شاع بين الجميع فنفر منه صحابه الأولون وتجنبه الآخرون، والتف عليه جماعة من "الفتوات" المرتزقة يعيشون معه كالطفيليات على خير غيرهم

وهكذا يعيش الأسطى شلبي "الحلاق" سابقا، والحاج شلبي "والفتوة" الآن، عيشة لا يجد فيها غضاضة ولا ألما بل بالعكس يجد فيها شهوة غريزية وهبتها له الطبيعة والقدر

خرج الحاج شلبي من القهوة يهز عصاته الغليظة في يده هزات الاحتقار، يسمع لوقع قدميه على أرض الحارة صوت قوي منفّر للآذان، سار ميمما جهة "المناصرة" حيث يحظى بمقابلة "أم الخير - الخاطبة" في أمر يخص زواجه الجديد، وكان الحاج شلبي إذا قصد منزل أم الخير - وكثيرا ما يقصده لهذا الغرض -  ينتقي أبهى جلابيبه البلدية فيرتديها ويتعمم على "طاقيته" بشال نظيف يلفه بعناية على رأسه، على طريقة الفتوات، ويفتل شاربه الغزير فتلا محكما ويعطر وجهه ويديه ومنديله العريض الذي يحشو به "عبه" بماء العطر البلدي، يفعل ذلك لاعتقاده أنه أصبح عريسا يستحق من فتيات ونساء أم الخير كل عناية والتفات وخيرًا وصل ووقف أمام المنزل يتأمله ليتحقق من أنه المنزل المرغوب، فوجده كما عهده منزلا محاصرا من كل جهة بدور قديمة، يتساند بعضها على بعض خشية السقوط، كائنا في نهاية الحارة "السد"، يشمخ ببابه الكبير المتآكل المعلق على حافته تمساح محنط، ويزهو على إخوته بواجهته العريضة البالية ذات الأربع النوافذ، القديمة الطراز

ودق الحاج شلبي الباب بعصاء عدة دقات وهو يتنحنح ويكح معلنا قدومه لسكان المنزل، وفتح الباب نصف فتحة وأطل من خلفه رأس الصبية "بدور" التي تبلغ الثانية عشرة، تغطي نصف وجهها الأسفل بطرحة رأسها السوداء، فعرفها الحاج شلبي وسألها قائلا:

- أمك هنا يا عرسة؟

- هنا يا سيدي، تفضل

وفتحت الصبية "بدور" الباب على آخره فسمع له صرير خشن أبحّ يفضح الداخل والخارج، وما كاد يتخطى الحاج شلبي العتبة حتى سمع خبطة شديدة رنت خلفه فإذا بالصبية تقفل الباب، ودخل صحن الدار وكان معتما لا ينيره إلا بصيص من كوة ضيقة في إحدى جوانبه، وقادته الصبية لمنظرة الضيوف فإذا هي أكثر ضوءا من صحن الدار، فاستطاع أن يرى محتوياتها، ولكن الحاج شلبي لم يكن غريبا عن هذه الحجرة فقد دخلها كثيرا وأمضى أوقاتا فيها يفاوض أم الخير في أمر زيجاته الأولى، كانت منظرة ضيقة، أرضها من البلاط المتكسر يكسوه الحصير البالي وقطعة منحولة ذاهبة اللون من السجاد، فوضع الحاج شلبي عصاته في زاوية الباب وقصد المتكأ الطويل الذي لا يوجد مقعد سواه يليق بمقامه في الغرفة، وجلس عليه بكبرياء وهو يفتل شاربه الغزير ويصلح شال عمامته، وكان أثاث الحجرة مشوش الترتيب لا يفوق السجادة البالية جدة ولا نظافة، فبعض المقاعد العادية منثورة هنا وهناك ووسادة عريضة للأرض ملقاة بإهمال خلف الباب، وصينية نحاسية صغيرة عليها بضعة أطباق من الصاج متروكة في وسط الحجرة عرضة لأن يتعثر فيها الداخلون، وبعد حين رنت في صحن الدار خلاخل أم الخير وأساورها، وعلت ضحكتها النسائية المعروفة، والذي لم ير أم الخير من قبل وسمع في هذه اللحظة رنين خلاخلها وأساورها ونغمة ضحكتها الطويلة المثناة الملتوية ذات الحرير الجميل، وحظي بشيء من كلامها الرقيق خلف الباب، ظنها فتاة من فتيات الثامنة عشرة، خلابة المحاسن ساحرة الصوت ذات دلال فاتن، فإذا هلت عليه بقوامها "البوصي" الرفيع الخالي من مميزات الأنوثة، وشاهد وجهها "العظمي" المزيف تحت طلاء المساحيق استعاذ بالله من هذه الشيطانة الكريهة، لها عينان صغيرتان منتوفتا الرموش قليلتا شعر الأهداب تصلح نقصهما بالكحل السميك وبالخطوط العريض، وخدان أصفران بشدقين غائرين، ورأس تخفي شعره الأشيب القليل بشعر مستعار غزير لونه أصفر كالذهب - ملابسها كلها ذات ألوان زاهية تنتقيها من الأنواع ذات اللمعة، تلف جبهتها بمنديل مثني من المناديل ذات الهدَّاب على طريقة "بنات البلد" الخليعات، وترسل من تحت هذا المنديل ذؤابتين منفوشتين من شعرها تغطي بهما أذنيها وجزءا من صدغيها، وتحتذي في قدميها الأعجفين العار بين المخضبين بالحناء قبقابا بجلدة حمراء ونقوش مختلفة اللون.

ولأم الخير ثروة يحسدها عليها أترابها، فهي تمتلك هذه الدار ذات التمساح المحنط، تشغل طابقها الأسفل، وتؤجر طابقها الأعلى لعائلتين من السكان، ولها بضعة حوانيت في نفس الجهة، ويشاع عنها أنها تختزن كمية لا يستهان بها من الجنيهات الذهب تخفيها تحت بلاطة من بلاط طابقها، ولديها غير هذا حلي عديدة من أقراط وأساور وخواتم وعقود وخلاخل معظمها من الذهب، تتباهى دائما بلبسها أمام الناس خصوصا أمام الزوار، وإذا علمنا أن أم الخير لم تكن في عهد صباها غير فتاة خليعة من بنات الهوى، حريصة على المال لا تصرف منه إلا بتقتير، استطعنا أن نعرف مصدر ثروتها الحالية، والسبب الذي يدعوها دائما إلى التجمل والزينة رغم تقدمها في السن ولهذه المرأة قلب نشط حي جريء ذو إرادة صلبة، وإن كان مثقلا بالخطيئة والإثم، فلما رأت ما لحق تجارتها الأولى من البوار فكرت في عمل تشتغل به وتكتسب منه، كأنها لا تريد أن تكون عاطلة في الحياة، واختارت لنفسها حرفة "الخاطبة"، فأصبحت خاطبة بالمعنى الصحيح تعمل في سبيل الزواج الطاهر، وهي التي احترفت في زمنها الأول حرفة التحريض على الفساد وقتل الشرف والطهر، وكأنها من حيث لا تشعر تكفر اليوم عن خطاياها الأولى بعد أن ملت حياة الضلال والانحطاط، وقد فكر الحاج شلبي غير مرة في الهجوم على منزلها وسلبها ما عندها من كنوز غالية، وإن اقتضى الأمر أن يفتك بها، فعل بلا تردد، ولكنه لم يستطع تنفيذ رغبته إذ كان يشعر شعورا داخليا بضعف نفسيته أمام نفسيتها وتضاؤل شخصيته في حضرتها، فأم الخير وإن كانت تماثل "عرائس الأراجوز" في ملامحها وقوامها وملابسها، فإن لها قوة معنوية تنبعث من داخل نفسها تسيطر بها على من يجالسها، وقد هتف برأس الحاج شلبي هاتف غريب كان يحذره من الإساءة لهذه المرأة وإلا أوقعه الله في محظور لن ينجو منه، وتسلط عليه هذا الشعور تسلط إضطره أن يقلع من رأسه فكرة الإساءة لأم الخير وأن يقدم لها حمايته راضيا مختارا ودخلت أم الخير الحجرة باسمة وهي تهز يديها المحملتين بمختلف الأساور، تضرب أرض الغرفة بقبقابها الملون ضربات موزونة كأنها ضرب "الصاجات"، وتقدمت نحو الحاج شلبي مسلمة ولكنها لم تكد تنتصف الحجرة حتى كادت تنبطح على وجهها متعثرة في الصينية والأطباق وصرخت مستنجدة بالحاج شلبي فأسرع إليها وحال بينها وبين السقوط، وبعد أن حمدت الله وأثنت عليه تفلت عدة مرات في صدرها، ثم أخذت تصرخ منادية على ابنتها "بدور" بصوت رن في جميع أنحاء المنزل رنينا مفزعًا، وجاءت الصبية مسرعة نحو مصدر الصوت فإذا قبقاب أمها مرسل كالقذيفة على رأسها وإذا بالسباب والشتائم واللعنات من كل لون وصنف تحاصرها من كل ناحية، تقصف حول أذنيها كالرعد وتنصب عليها إنصباب المطر المنهمل، ولما كانت الابنة قد تعودت أن تقف مثل هذا الموقف مع أمها غير مرة لم تفزع ولم تترك المكان هاربة بل ظلت خاشعة تستقبل العاصفة بصبر وانتظار، وانقشعت الغمامة رويدا فإذا بأم الخير تلتفت نحو ضيفها مرحبة به مسلمة عليه معتذرة له عن هذه الضجة، واشتبك الحديث الودي بين الضيف ومضيفته فإذا بها تقول:

- ما هذه الغيبة يا حاج شلبي.. وهل يصح أن تهجرنا كل هذه المدة الطويلة، ألا تسأل عن صديقتك أم الخير التي تعبت لك كثيرا فتعلم عنها إذا كانت بخير أو بشر

- أخبارك دائما تصلني، وأعلم عنك، ولله الحمد، كل خير ونجاح، إني مستعد لكل خدمة

- والله سلامات يا حاج شلبي، ألفين سلامات، كيف حالك وحال فتواتك الجدعان

- "الحال معدن" والأمور ميسرة، وكل شيء على ما يرام والتفتت أم الخير إلى ابنتها "بدور" ورمقتها بنظرة قاسية وقالت لها بلهجة خشن:

- احملي الصينية والأطباق خارجا، ولا تنسي أن تجمعي صحون "العاشورة" من تحت المقاعد

وانحنت الصبية "بدور" تجمع الصحون من تحت المقاعد فأخرجت أربعة أطباق بها آثار "العاشورة"، وضعتها كلها في الصينية وحملتها على رأسها وخرجت، وتكلمت أم الخير لتفسر لضيفها سبب وجود الصينية وأطباق العاشورة، وإن كان هذا من الأمور العادية الكثيرة الوقوع في هذه الأوساط.. قالت :

- عندي ضيوف من السيدات، وقد تناولنا جميعنا طعام الفطار هنا.

وكان من عادة أم الخير إذا تكلمت أن تكثر من تلعيب حاجبيها وتحريك يديها بما يناسب المقام، فلما ذكرت جملتها عن ضيوفها السيدات غمزت بعينها اليمنى غمزة ظاهرة وصحبتها بابتسامة كبيرة فهم معناها الحاج شلبي المتمرن على مثل هذه التلميحات، فانحنى عليها وكلمها بصوت منخفض قائلاً :

- بينهن عروسة تصلح للزواج؟ إذا كان الأمر كذلك فأنا لها في هذا اليوم

فرنت ضحكة أم الخير ذات الثنايا والمنعطفات والذيل الطويل الرفيع وأجابته :

- والله نيتك سليمة يا حاج شلبي

- وهل هي جميلة؟

-كالبدر

- فتية ؟

-لم تتخطى الخامسة عشرة

- ألا يمكن أن أراها؟

-على عينك يا تاجر

- بارك الله فيكي يا أم الخير، حقا اسم على مسماه، كلنا نستمد منك الخير والبركة

- أتريد الحق، إنك رجل طماع، أليس على ذمتك جليلة وزكية!

- ولكنهما غير موجودتين

- وكيف ذلك؟

- جليلة "مرضعة" بمنزل فكري بك، وزكية رحلت إلى حال سبيلها، أنها عاقر لم تلد لي ابنا ولا ابنة ولقد أهملتها بضعة أشهر فلما تحققت من فشلها طردتها من بيتي كما أطرد الكلاب.. هل يعقل أن أطعم زوجة عاقرا وأبقيها في منزلي بلا فائدة؟

وقد صدق الحاج شلبي في قوله، فلم يكن من عادته أن يعلم ويأوي زوجة عاقرا، وهو الذي يتخذ الزواج سلاما للربح لا للخسارة، وللرجل نظرية جديدة في النساء، فهو يتخذ المرأة كسلعة تأتي له بربح وفير فإذا قصرت في عملها أو انتهت مهمتها طردها بلا إمهال، وكثيرًا ما يجمع بين عدة زوجات يستغلهن لفائدته على طريقته الجديدة، فقد رأى بثاقب فكره بعد تجارب عدة أن المرأة التي تتخذ الرضاعة مهنة لها في بيوت الأغنياء تربح ربحا جزيلا، لا تربحه من أية مهنة أخرى، فقاد زوجاته إلى دور الأغنياء يعرض ألبانهن عليهم ليتخذوهن مراضع لأطفالهم، ونجح في تجارته هذه نجاحا أرضاه كل الرضا، وأوجد له طريقا للربح غير طريق اللصوصية المعروف، كان يستولي دائما على مرتب زوجته المرضع بأكمله كما يستولي على البقاشيش والهدايا التي يغمرها بها عادة والدا الطفل والمرضع دائما كما نعلم موضع العناية والكرم عند الوالدين، لا تلقى إبان رضاعتها إلا كل عطف ورعاية وإذا ما أتمت مهمتها خرجت محملة الجيب مرعية الخاطر، ويتغالى الحاج شلبي في مطالبه دائما، فيطرق المنزل - الذي تشتغل فيه زوجته - في أي وقت شاء، يدخله كأنه صاحبه لا يراعي في ذلك لأحد حرمة ولا كرامة، ويبدأ يصيح مهددا بسحب زوجته إن لم يجيبوا مطالبه، وللحاج شلبي كما نعلم هيئة المجرمين: قامة طويلة عريضة بوجه مخيف وبنية قوية وصوت خشن كله جرأة واستخفاف بالناس، فهو يفاجئ أصحاب المنزل بهذا المظهر اللصوصي، ويطالبهم جهرا ببقاشيش إجبارية أو زيادة في مرتب زوجته أو نفقة إضافية لطعام ابنه الرضيع الذي سلبوه أمه! وما شابه ذلك من المطالب غير المشروعة، ولا يعود أدراجه إلا بعد أن يحصل على بغيته، وربما تكررت هذه الزيارة الثقيلة لوالدي الطفل عدة مرات في العام الواحد، فكانا يحتملاتها على مضض لاحتياجهما للمرضع، وهما يلعنان الساعة التي عرفا فيها هذا الجلاد وزوجته.

أما أطفال الحاج شلبي الصغار تلك المخلوقات الضعيفة التي خرجت بدون إرادتها من ظلمات العدم إلى نور الحياة فكان محكوما عليها بعيشة شاقة مؤلمة بضعة أسابيع أو أشهر يعقبها موت محتم يعود بها إلى عالم الظلمات والعدم .

والحاج شلبي يَعد زوجاته دائما بأن يعتني بأمر أطفاله ويسهر على راحتهم بنفسه، يجلب لهم المراضع أو يشتري لهم الألبان، ولكنه لا يفي بشيء من وعوده، فقلبه لم يشعر في حياته بعاطفة حنان نحو أطفاله، وكان إذا انفرد بهم، يضع بصراخهم وعويلهم فيسب ويشتم بعنف وجنون، ويضرب بقسوة وفظاعة، ولم يكن يدور بخلده أن تلك المخلوقات الصغيرة لا تعي من أمر أعمالها شيئا تستحق عليه كل هذا التأديب، ولم تكن قد طلبت منه من أن يجيء بها إلى هذا، العالم ليعذبها بالحرمان من غذائها الطبيعي وحنان أمهاتها، ولعله نسى أو تناسى أن هذه المخلوقات الضعيفة المهملة هي التي مهدت له طريق تجارته الجديدة وأسبغت عليه ربحا وفيرا يحصل عليه من غير جهد أو تعب.

كان الحاج شلبي يلقي بأطفاله في يد فتاة من فتيات الأزقة الفقيرات لتقوم بخدمتهم واطعامهم، ويجلب لهم كميات ضئيلة من اللبن المخلوط بالماء وبعض المأكولات الأخرى، تستولي الفتاة الخادمة على جزء كبير منها، فغذاء ضئيل وإهمال ذريع وقسوة فظيعة، هذا ما كان يحيط هؤلاء الأطفال في حياتهم المتعبة القصيرة.

***

واعتدلت أم الخير في جلستها بعد أن شخللت بخلاخيلها وأساورها ثم مالت على الحاج شلبي بشيء من الدلال وقالت له:

- أتريد أن ترى العروسة؟

- وهل ترضي أن تظهر أمامي؟

-كلا.. بل تراها وهي خارجة، كن مختبئا خلف باب هذه الحجرة وراقبها عند خروجها.

- لا بأس، هذه يكفيني.

ثم بدات المساومة بينهما على المهر وعلى أجر الخاطبة وعلى أشياء اخرى مختصة بالفرح، وسرعان ما اتفقا على هذه الأمور إذ كان الحاج شلبي يحترم آراء أم الخير ويعمل بمقتضاها وكانت هي تعرف نفسيته ورغائبه فلا تقترح عليه إلا ما يرتاح إليه ويرضاه وخرجت العروسة فمرت أمام منظرة الضيوف - فشاهدها الحاج شلبي وأعجب بها، وامتدح ذوق الخاطبة ودفع لها ما طلبته من بقشيش

***

لم يمض شهران على هذه الحادثة حتى تزوج الحاج شلبي بعروسته (فرح) وكان كعادته يطمع في استغلالها كباقي زوجاته، فصبر على معاشرتها وهو يطعمها ويأويها ويصرف عليها من حر ماله حتى ولدت له طفلة سماها (فريدة)، ولم يجد الحاج شلبي مشقة في إقناع (فرح) بالذهاب إلى بيت من بيوت الأغنياء كمرضع وتترك له فريدة ليعتني بها، وكانت صفقة رابحة للزوج فإنه عثر على بيت سريّ من السراة الباشاوات رضي أن يمنح "فرح" مرتبا لا يستهان به، إذ وجدها قد توفرت فيها شروط الصحة وكثرة اللبن، وكان كلما طرق الحاج شلبي منزل الباشا ليطلب مطالبهُ، ألجمه الباشا بالعطاء فوق ما يريد فيخرج مغتبطا فرحا وهو يعد هذا المنزل غنيمة باردة يجب أن يحتفظ بها

وكانت "فرح" تحب طفلتها فريدة ولم تتركها إلا جريا وراء مكسب وهمي وخوفا من إثارة غضب زوجها وقد عرفته غضوبا قاسيا لا يرحمها لأقل هفوة، ولكنها استأذنت سيدتها التي تشتغل عندها بأن تسمح لها بالذهاب لرؤية طفلتها مرة كل شهر، فرضيت السيدة بذلك.. وذهبت "فرح" بعد انقضاء الشهر الأول إلى منزلها وشاهدت طفلتها، فرأتها قد تغيرت تغيرا محسوسا فأشفقت عليها وسرعان ما أرضعتها واعتنت بها، وكان بودها ألا تتركها، ولفتت نظر زوجها إلى ضعف الطفلة وتغيرها ونبهته إلى أن يزيد لها كمية اللبن أو يأتي لها بمرضع رخيصة، فانتهرها الحاج شلبي وأمرها أن تعود من حيث أتت، فعادت طائعة وقلبها يتمزق أسي على فراق طفلتها.

وانقضى الشهر الثاني فذهبت "فرح" إلى منزلها لتعود صغيرتها "فريدة" فوجدتها هذه المر في حالة أسوأ من الأولى، يخفق قلبها جزعا وعزمت أن تبقى بجانبها ترضعها وتعتني بأمرها، وعلم الحاج شلبي بذلك فهاج ثائره وانتزع الطفلة من صدرها ورماها جانبا، وأمرها بلهجة جافة كلها شراسة وعناد أن تعود حالا إلى منزل الباشا وتترك الطفلة وشأنها، فطلبت منه أن يمهلها بضعة أيام تعتني فيها بأمر طفلتها، فما كان منه إلا أن جذبها من شعر رأسها جذبة أطارت صوابها، ثم هوى عليها ضربا بهراوته الغليظة حتى أسكتها، وقامت المرأة من تحت العصا تئن كالكلب الذليل وعادت من فورها إلى منزل الباشا

وفي الشهر الثالث جاءت مهرولة تبحث بخوف وذعر عن طفلتها تخشى أن يكون قد أصابها مكروه، فلما رأتها احتضنتها بحنان كبير، ولكنها لم تكن تحتضن إلا طفلة محتضرة في آخر درجة من درجات الهزال والمرض!.. فارتاعت وأخذت تصرخ باكية، مستنجدة تارة وتارة لاعنة، وجاء الحاج شلبي فوقف أمام الأم وابنتها وقفة المتكبر العنيد، وهز رأسه استخفافا بهذا المشهد، فلما رأته هبت إليه وقد أعماها الغضب وصاحت في وجهه قائلة :

- لقد قتلت ابنتي!

فشمخ الرجل برأسه كبرا وعقد ساعدية على صدره وأجاب بأنفة قائلا:

- ابنتك أنت فقط! أوليست ابنتي أنا؟

- ولكنك قتلتها يا قاسي!

- ليس لك أن تتدخلي في أمر لا يعنيك، إن أمر هذه الطفلة في يدي أفعل بها ما أشاء! ثم رفع يده الغليظة وهوى بها على صدغها فترنحت كالشملة ثم سقطت على الأرض بطفلتها تبكي بذلة واستكانة، وطردها الحاج شلبي في الحال فخرجت عائدة إلى منزل الباشا وقلبها تأكله نيران الحزن على ابنتها.

وفي فجر اليوم التالي جاءت "فرح" لتزور طفلتها في الخفاء، ولم يكن الحاج شلبي قد عاد إلى المنزل بعد، وبحثت كثيرا فلا تجدها، فذهبت تسأل عنها الجيران فلم تحظ منهم بجواب مرض، ولما أعيتها الحيل خرجت وجلست على عتبة الباب الخارجي تنتظر رجوع زوجها، وكان انتظارا طويلا مؤلما، وأخيرا جاء الزوج في جمع من أصحابه يغنون أغاني بلدية ويصفقون، ولمح الرجل زوجته من بعيد فغضب لعودتها واستعد لمعاقبتها ولمحته هي فأقبلت عليه مسرعة تسأله بلهفة عن طفلتها وقد ساورتها شكوك عديدة فوقف أمامها وقفة الجبار ينظر إليها بعينين تلمعان بالشرور وسألها قائلا:

- لمَ جئت يا امرأة؟ ألم آمرك أمس أن تذهبي إلى منزل مخدومك ولا تعودي

فأجابت بصوت مبحوح باك فيه استعطاف وذل وألم:

-جئت لأرى طفلتي، أين هي؟ ألا تعرف مكانها؟

فلم يجيبها الحاج شلبي، والتفت إلى أصحابه وقال لهم:

- ما رأيكم في هذه المرأة الوقحة التي تريد أن تعكر مزاجي في مثل هذا الوقت؟

فنظر الجميع إلى المرأة بسخرية ولم يتكلم أحد، واقتربت "فرح" بجرأة نحو زوجها وقد أضلها الغضب وقرعت صدره بكلتا يديه وهي تقول له:

-أين ابنتي يا رجل؟ رد إليّ ابنتي

فثار الحاج شلبي غاضبا ولف ساعده على خصرها وأخذ يقرع بها الحائط تارة والأرض طورا وهو يقول لها :

- لقد اختطف عزرائيل ابنتك في الليلة الماضية وهو مستعد أن يختطفك أنت أيضا من يدي في هذه اللحظة، يا وقحة يا شريرة

وكان الأصحاب يتفرجون عليهما بدون أن يفكر أحد منهم في أن يتدخل في الأمر، وأخيرا كف الحاج شلبي عن عمله ورمى بزوجته جانبا فجرت على الأرض مغمي عليها

وفي عصر اليوم نفسه رجعت "فرح" إلى منزل الباشا مصحوبة بزوجها وقد استسلمت للمقادير استسلاما تاما

ومضى أسبوع على هذه الحادثة، وكان الحاج شلبي في حجرته متمددا على فراشه وقد بدأ النوم يداعب جفنيه، كانت الساعة الثانية بعد الظهر وكان في احتياج إلى الراحة بعد ليلة أمضاها في تعب ونصب، وقرع باب الطابق الذي يسكنه، فلم يأبه له في بادىء الأمر ولكن القرع تكرر، فقام برأسه وصرخ صرخة الغاضب:

- من أنت ؟

- فأجابه صوت ضعيف: - أنا

-أنت من؟

- أنا... فرح

وقام من فوره غاضبا، وهو يكرر هذا الاسم باندهاش وعجب، وفتح الباب، وقبل أن يأذن لزوجته بالدخول سألها بصوت فيه قسوة وغيظ: أنت التي أراها أمامي!! إني لا أصدق عيني، لا أدري كيف تجاسرت على ترك منزل الباشا مع تشديدي عليك بالبقاء فيه!

فطأطأت المرأة بضعف ولم تجب، فكرر الحاج شلبي سؤاله مهددا، فأجابت المرأة:

- لم يبق لي محل هناك فإنهم قد أخرجوني

فصرخ الحاج شلبي في وجهها مستفهما: - كيف أخرجوك، ولماذا.

-لأن لبني جف

-جف، جف.. ما شاء الله، هذا ما كنت أخشاه وما حذرتك من وقوعه، لقد أخبرتك مرارا أن حزنك السخيف على طفلتك سيؤثر في لبنك فلم تسمعي كلامي

-إن الأمر ليس بيدي

- بل لأنك امرأة عنيدة سيئة التصرف شؤم.. وبعد كل هذا تتجاسرين أن تظهري أمامي، ألا تعلمي أنك بخروجك من هذا المنزل قد قطعت عني رزقا كبيرا؟

- وهل الأمر بيدي ؟

واقترب منها الحاج شلبي وقد جحظت عيناه من شدة الغيظ والغضب وأمسك بشعرها فجذبه وإنهال عليها بالضرب المبرح وهو يقول:

- أنت تسببين لي هذه الخسارة التي لا تعوض؟!.. أنتِ تفعلين هذا الفعل المنكر؟! إذن نالي ما تستحقينه من عقاب وكان يضربها وهي تئن أنينا موجعا، وأخيرا تركها بعد أن أجهده الضرب وانتحى ناحية من الحجرة وجلس يجفف عرقه بكم جلبابه وهو يزمجر بكلمات غير مفهومة، وبعد أن استراح قليلا هب واقفا وصاح بها:

- أما زلت هنا؟ أتظنين أني سأبقيك بعد الذي عملته.. اخرجي.. اذهبي من وجهي وإلا استدعيت عزرائيل ليقبض على روحك في الحال، أنت تعرفينني إذا قلت قولا قرنته بالفعل اخرجي يا امرأة.. اخرجي حالاً وبلا إمهال

وخرجت "فرح" تجر قدميها جرا من شدة التعب والضعف والألم

 وفي اليوم التالي قصد الحاج شلبي شربه المعتاد واجتمع بصحابه فشرب معهم القهوة ودخن "الجوزة" وكان لابسا جلبابا بلديا جديدا ومتعما على طاقيته بشال غباني لم يستعمله إلا قليلاً.

وقد ضمج شاربه بالدهون وعطر وجهه ويديه ورأسه بعطر الورد البلدي، وبعد أن انتهى من لعب دوره في النرد قام وسلم على الأصحاب يريد الخروج، فالتفت إليه احدهم وقال له مداعبا بابتسام :

- إلى أين يا لعين؟

فغمز الحاج شلبي بعينه وقال باسمًا:

- إلى صاحبتك أم الخير.. ألا تعرفها..؟

- إذن سنبارك لك عن قريب

- إن شاء الله

وخرج شلبي من القهوة وهو يقرع الأرض ببلغته الصفراء اللامعة، ووجهته منزل "أم الخير" ليحظى منها بعروسة جديدة.