جائزة «نوبل»، هي أشهر الجوائز العالمية في حقول الإبداع والخلق والابتكار المتنوعة، وعقب نيل الجائزة للفائزين بها يتعرف عليهم العالم أكثر ويحظون بشهرة واسعة عبر قارات العالم كله، مما يدفع بنا للبحث عن رحلتهم ومسيرتهم، وإسهاماتهم للبشرية وتنميتها وتطورها.
ومع قسم الثقافة ببوابة «دار الهلال»، نحتفي معًا بحاصدي جائزة نوبل في الآداب لنسطر بعضًا من تاريخ إبداعاتهم ورحلتهم، من عقود كثيرة منذ بداية القرن بداية القرن العشرين، منح الجائزة لأول مرة في عام 1901م، في فروع الكيمياء والأدب والسلام والفيزياء وعلم وظائف الأعضاء أو الطب.
نلتقى اليوم مع «هنري برجسون»
من أشهر وأهم الفلاسفة في فرنسا في نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ذاع اسمه وأفكاره على مستوى كبير في أوروبا، اشتهر بأفكاره المتعلقة بالوجود على مستوى عالمي، وهو أول من تحدث عن الفلسفة العلمية وتخصص فيها حيث عمل على نبذ القيم الثابتة وتحدث عن دور التغير والتطور في التأثير على القيم البشرية، حضر محاضراته في باريس الأدباء والفلاسفة والطلاب بالإضافة للعلماء والفنانين ومختلف أفراد المجتمع من العامة، وقدم عدد كبير من الكتب والمؤلفات إنه أحد أهم فلاسفة العصر الحديث هنري برجسون.
الميلاد والنشأة
وُلد هنري لويس برجسون في باريس بفرنسا في 18 أكتوبر 1859م، وكان الشقيق الثاني بين سبعة أطفال لوالد يحمل الجنسية البولندية ووالدة إنجليزية، و في طفولته كان متميزًا بشكل ملحوظ ومتفوقًا في دراسته، وكانت ميوله الأولى نحو علم الرياضيات وحاز على أول جائزة له عن الحلول التي قدمها للمسألة الرياضية المعقدة التي نشرها العالم «باسكال» في عام 1877م، وكان عمره حينها ثمانية عشر عامًا.
اختار «هنري برجسون» بعدها التخصص في مجال الآداب والعلوم الإنسانية في مدرسة «إيكول نورمال سوبيريور»، وأدى اختياره هذا إلى شعور أساتذته في الرياضيات بالإحباط حيث قال له أحدهم «كان بإمكانك أن تصبح عالمًا في الرياضيات، ولكنك ستكون مجرد فيلسوف».
منح «برجسون» الجنسية الفرنسية في عام 1978 وكان بإمكانه حينذاك اختيار الجنسية الإنجليزية، لكنه اختار الفرنسية، وتابع دراسته في مدرسة «إيكول نورمال سوبيريور» بإشراف الأساتذة «جول لاتشيلير»، و«فيليكس رافايسون»، ليتخرج فيها عام 1881.
الحياة الشخصية
تزوج هنري برجسون من لويز نويبيرجر وهي ابنة عم مارسيل بروست وذلك في عام 1891م، رغم أن هنري «برجسون» يهوديًا إلا أنه كان ينجذب بشكل واضح إلى الكاثوليكية الرومانية، ولكنه في نهاية حياته رفض التخلي عن ديانته اليهودية في دليل على رفضه للنازية المعادية للسامية، قوبلت فلسفته بالنقد الشديد حيث أن تفضيله الحدس على العقل أدى لاتهامه بأن فكره غير عقلاني.
رحلة هنري برجسون
بدأ «برجسون» بعد تخرجه من المدرسة النورمالية التدريس في المدرسة الثانوسة «الليسه»، ثم انتقل إلى جامعة «كليرمون فيران» حيث استمر بالتدريس فيهما لمدة خمس سنوات.
أصدر«برجسون» أول مقال علمي له وفي عام 1886م، و يتتناول المحاكاة اللاواعية في حالات التنويم المغناطيسي وذلك ضمن مجلة «Revue»، حيث لاحظ فيما يخص جلسات التنويم المغناطيسي أن الدرسات التي قدمها «فرويد» لم تظهر نتائجها حتى عام 1896، وهذا مادفع هنري برجسون ليهتم بمجال الذكرايات اللاواعية وبلغ البحث في هذا المجال أعلى مستوى له عام 1913 م، حيث تم انتخاب هنري رئيسًا لجمعية الأبحاث النفسية التي يقع مقرها في لندن.
قدم «برجسون» رسالتين للدكتوراه في باريس في عام 1988م، وفي عام 1889م نشر كتاب «Time and Free Will» وتابع بعدها نشاطه البحثي من خلال تأليف الأطروحة اللاتينية «مفهوم أرسطو للمكان»، وفي عام 1927م اعتمد الفيلسوف «هايدجر» على هذه الأطروحة وصرح حينها أن رؤية هنري برجسون لمفهوم الزمن لا تزال في أفق الميتافيزيقيا اليونانية.
المادة والذاكرة
نشر «برجسون» في عام 1896م كتابه الثاني بعنوان «المادة والذاكرة» وأسهم هذا الكتاب في اختياره ليكون عضوًا في الجامعة الفرنسية «كولج دو فرانس».
«برجسون».. رئيس الفلسفة القديمة في جامعة فرنسا
وبعد عدة محاولات استطاع «برجسون» في عام 1896م الحصول على وظيفة مرموقة في مدرسة «إيكول نورمال» استمر فيها من عام 1898م وحتى عام 1900م، وفي هذه الفترة كانت قضية «دريفوس» في أوج استعارها ولكن هنري برجسون لم يخض في نقاشات تخص هذه الخلافات على الرغم من كونه يهوديًا، وحينها احتل منصب رئيس الفلسفة القديمة في الجامعة الفرنسية العريقة «كولج دو فرانس» وكانت لهذا المنصب دور هام في تزايد شهرته.
الأدب والتكعيبية
نشر«برجسون» في عام 1903 م، مقالًا مهما في مجلة «Revue» والتي كانت من أهم المجلات حينها المقال بعنوان «مقدمة إلى الميتافيزيقيا»، ويعتبر هذا المقال من أول أعمال برجسون» التي ترجمت إلى عدة لغات عالمية، واعتبر هذا العمل دليلًا مهمًا لقراءة فلسفته، إضافة لكونه بداية لــ «برجسون» في اختصاص الأدب والتكعيبية، وعند قراءة ويليام جيمسـ هذا المقال ظهر تأثير الفلسفة البرجسونية عللى البراغماتية الأمريكية بشكل واضح بالإضافة لبصمة واضحة له في الأدب الأمريكي.
التطور الإبداعي
ظهر التطور الإبداعي لــ «برجسون» في عام 1907م، حيث كان العقد الثاني من القرن العشرين هو بداية حقيقية لظهور فلسفته والتي تتجاوز كافة الانقسامات سواء كانت واقعية أو تجريبية أو مثالية، وانتشرت محاضرات برجسون في الجامعة الفرنسية بشكل كبير حيث خاطب جيل كامل من الطلاب الدارسيين للفلسفة والأداباء والشعراء وسيدات المجتع.
محاضرة «برجسون» في أمريكا
زار «برجسون» في عام 1913م، لأول مرة الولايات المتحدة الأمريكية، وقبل أن يلقي محاضرة في جامعة كولومبيا نشرت صحيفة نيويورك تايمز مقالًا طويلًا يتحدث عن فلسفة هنري برجسون وإنجازاته، ونتج عن هذا المقال المهم ازدحام مروري كبير في وقت إلقائه للمحاضرة حيث تهافت الناس لحضورها والاستماع إلى أفكاره، وفي العام نفسه قام «برجسون» بإلقاء خطاب للجماهير بعنوان «الأوهام للأبحاث الحية والنفسية» وذلك في جمعية البحث العلمي في لندن، وبعد ذلك وفي العام التالي أصبح هنري برجسون أول عضو يهودي في الأكادمية الفرنسية، وعمل على تنظيم دورات في مجال الفلسفة الحديثة في الجامعة الفرنسية.
وازدادت شهرة «برجسون» كثيرًا، حيث قام بإلقاء محاضرة في جامعة أدنبرة في اسكتلندا، ولكنه وفي نفس هذه الفترة عملت الكنيسة الكاثولوكية على إدانة الفلسفة التي يطرحها هنري برجسون في ما يخص معارضة نظرية التطور.
وفي فترة اندلاع الحرب العالمية الأولى دخل هنري برجسون المجال السياسي، حيث أرسلته الحكومة الفرنسية كمبعوث دبلوماسي إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليلتقي الرئيس «ويلسون»، حيث كان الاعتقاد السائد حينها أن السلام لايمكن أن يأتي إلا من واشنطن.
وعمل «برجسون» حينها مع حكومة «ويلسون» الأمريكية لتشكيل عصبة الأمم والتي استمرت حتى عام 1946 حيث حلت محلها الأمم المتحدة، وفي هذه الأثناء أصبح «برجسون» ذو شهرة واسعة بسبب أعماله في المجال السياسي أكثر من الشهرة التي حققها في مجال الفلسفة.
نشر «برجسون» في عام 1919م مجموعة من المقالات بعنوان «طاقة العقل» وهي مختصة في مجال المشاكل النفسية، وفي هذا العام أعلن عن التقاعد عن العمل في مجال التدريس، وفي عام 1922 تم تعيين برجسون رئيس للجنة الدولية في مجال التعاون الفكري برعاية من منظمة اليونيسكو، و خاض «برجسون» نقاش شهير مع «أينشتاين»، حيث أصدر كتاب حول أفكار «أينشتاين» بخصوص المدة والتزامن، وأعيد طبع الكتاب عام 1931.
نوبل للآداب .. لماذا؟
وحصل هنري برجسون في عام 1927 على جائزة نوبل للآداب، وجاء في تقرير اللجنة التي منحته الجائزة: «تقديرًا لأفكاره الغنية والحيوية والمهارة الرائعة التي تم تقديمها لهم».
وفي النصف الثاني من العشرينات في القرن العشرين عانى «برجسون» من التهاب مفاصل حاد، مما دفعه للتقاعد من الحياة العامة.
أشهر أقوال هنري برجسون
«الوجود هو التغير، التغيير هو النضج، النضج هو الاستمرار في خلق الذات إلى ما لا نهاية»، «فكر كرجل عمل، تصرف كرجل مفكر»، السؤال على وجه التحديد هو معرفة ما إذا كان الماضي قد توقف، أو لم يعد مفيدًا».
توفي هنري برجسون في 4 يناير 1941م عن عمر ناهز 81 عامًا، لكن أثره الفكري والفلسفي باقيا لكل من جاؤا من بعده.