الأحد 25 مايو 2025

مقالات

الاستعمار الصهيوني وحتمية الزوال في ظل النظام العالمي الجديد

  • 4-5-2025 | 15:06
طباعة

انطلاقًا من الشعور باليأس من المظلومية، حاول الصحفي اليهودي تيودور هرتزل البحث عن فكرة تصبح مظلة له وليهود أوروبا تحديدًا، تمكنهم من تصدير أفكار الاضطهاد والظلم الذي يتعرض له اليهود في المجتمعات الأوروبية، خاصة بعد أن تابع قضية الضابط الفرنسي اليهودي «دريفوس»، الذي اتُّهم بالخيانة لصالح الألمان، تلك القضية التي أشعلت غضب الفرنسيين ضد اليهود وأخرجت مظاهرات فرنسية تندد بهم، مما جعل هرتزل يفكر في الصهيونية كسبيل يجمع شمل يهود الشتات الأوروبي.

بدأ في تأسيس نسق فكري قائم على العنصرية المقيتة وكراهية الآخر ورفض التعايش أو الانخراط في مجتمعات ليست يهودية، فتحولت الصهيونية الدينية إلى نمط سياسي واجتماعي، بل واقتصادي يسخّر أدواته لخدمة الأغراض الاستعمارية.

وكانت تلك الأفكار تحتاج إلى مبرر إنساني أوجده مؤسسو الصهيونية في مصطلح "معاداة السامية"، المصطلح الذي روج له اليهود استنادًا لفكرة المظلومية التاريخية لليهود.

لم يكن تيودور هرتزل هو أول من تحدث عن الصهيونية، بل تلقف الفكرة من صديقه الصحفي "ناتان بيرنباوم"، الذي أسس جمعية باسم "كديما" لدعم فكرة القومية اليهودية وأصدر أول مجلة صهيونية عام 1885، وكتب بها عددًا من المقالات التي تدعو يهود الشتات الأوروبي إلى الهجرة إلى فلسطين.

نتان، الذي كان متأثرًا بكتابات بعض المفكرين والحاخامات اليهود المتعصبين في ذلك التوقيت، انضم إلى الحركة الصهيونية التي أسسها هرتزل عام 1890، ولكنه سرعان ما انشق عنه وقرر العودة عن تلك الأفكار الاستعمارية المتسترة بالصهيونية الدينية، لينضم "بيرنباوم ناتان" إلى حزب "أغودات يسرائيل" المعارض للصهيونية والرافض لفكرة الذهاب إلى فلسطين.

وهنا اتضحت حقيقة الصهيونية كونها أداة استعمارية مقيتة تتستر تحت ستار الدين ومظلومية السامية لتحقيق هدف الاستيلاء على أرض الغير، وقد وضعت لنفسها فلسطين هدفًا ومطمعًا.

تاريخيًا، يُعد الصحفي السويسري تيودور هرتزل هو أبو الحركة الصهيونية، ويُعد كتابه "الدولة اليهودية"، الذي أصدره عام 1896، دستور تلك الحركة العنصرية القائمة على التمييز الديني والعرقي.

بل إن كتابه هذا هو أول من رسخ لفكرة الاستيطان على الأراضي الفلسطينية، حيث تضمن الكتاب فقرة يحاول خلالها إقناع يهود أوروبا بالهجرة إلى فلسطين، تنص على الآتي: "ولكي يتحقق ذلك (يقصد الدولة اليهودية) يجب التخلص أولًا من الأفكار القديمة والبالية المربكة والمحدودة من عقول الأفراد، فقد تتخيل بعض العقول البليدة أن ذلك ما هو إلا هجرة من منطقة متحضرة إلى الصحراء، إلا أن الأمر ليس كذلك، فسيتم تنفيذ الفكرة في قلب الحضارة. لن نهبط إلى مستوى أدنى، بل سنرتفع لمرتبة أعلى، لن نتخذ من الأكواخ الطينية سكنًا لنا، بل سنبني منازل أكثر حداثة وبهاء وسنمتلكها في أمان".

أفكار الصهيونية الاستعمارية، التي تكرس للاستعمار، انتقلت إلى جيل آخر سعى لتطبيق الأفكار النظرية على أرض الواقع، بعد محاولات عدة لإقناع يهود أوروبا عبر المؤتمرات الصهيونية التي بدأت بالانعقاد منذ عام 1879، حتى أتى التاريخ المشؤوم في عام 1917، حيث بعث وزير خارجية بريطانيا "جيمس بلفور" إلى اللورد ليونيل روتشيلد، أحد زعماء الحركة الصهيونية حينها، واعدًا إياه بإقامة كيان لليهود على الأراضي الفلسطينية، لتدخل الصهيونية مرحلة جديدة من الإرهاب الفكري إلى الإرهاب الدموي على الأرض، حيث إن تطبيق هذا الوعد يتطلب انتزاع الشعب الفلسطيني من أرضه، وهو الأمر الذي لا يتحقق إلا بسفك الدماء.

نُقض الفكر الصهيوني من قبل الكتاب والمفكرين على الصعيدين العربي والدولي، وأبرز من تصدوا لهذا الفكر المتطرف على الصعيد الغربي الفيلسوف الفرنسي "روجيه جارودي"، الذي ألّف عدة كتابات أبرزها كتابه محاكمة الصهيونية الإسرائيلية. وقد شرع في كتابته عقب محاكمته بسبب كتابه الأول الأساطير الإسرائيلية.

وفي مقدمة كتابه يتحدث عن تلك المحاكمة التي اعتبرها تقييدًا للحرية والفكر، ولكن الأهم أنه طرح المبرر الحقيقي الذي يدفعه لمهاجمة الفكر الصهيوني، وهو شعوره بالخطر من كون الصهيونية قادرة على إشعال حرب عالمية ثالثة مدمرة للعالم، وكتب نصًا: "أثبتت الأحداث صحة نظريتي حول مخاطر التفسير المتطرف للكتاب المقدس والتاريخ، وتحويل الأساطير إلى تاريخ، كما أثبتت الوقائع الناتجة عن سياسة نتنياهو صحة توقعاتي حول دور إسرائيل كمفجر محتمل للحرب العالمية الثالثة".

وبالعودة مجددًا إلى أساس الفكر الصهيوني وتوظيفه للدين لخدمة الفكر المتطرف، يقول روجيه جارودي في الفصل الثاني من كتابه، والذي عنونه بـ"مشروع هرتزل الاستعماري": "تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية يمثل أفضل صورة لهذا الانحطاط: تحويل الأساطير إلى تاريخ مزيف في خدمة القومية".

ولا يخفي هرتزل علمانيته، ففي مذكراته كتب يقول في ٢٣ نوفمبر ١٨٩٥: "لقد أبلغت الحاخام الأكبر في لندن، كما قلت للحاخام الأكبر في باريس، أنني لن أطيع أيا من التعليمات الدينية في مشروعي".

الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي لم يكن وحده من يخوض تلك المعركة الفكرية ضد الصهيونية، بل المفكرون العرب أيضًا كانت لهم إسهامات بارزة في تفكيك هذا الفكر السرطاني.

ويظل الدكتور عبد الوهاب المسيري أبرز من تناول الفكر الصهيوني بالنقد والتحليل، وتحديدًا في كتابه الصهيونية والحضارة الغربية، حيث تلاقت رؤيته مع رؤية الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، باعتبار أن الصهيونية ما هي إلا حركة استعمارية مقيتة.

وقد كتب المسيري في كتابه قائلًا: "الخطوة الأولى لاستيعاب وتحليل الظاهرة الصهيونية هي في وضعها في سياقها التاريخي السليم، باعتبارها ظاهرة استعمارية غربية لا يمكن فهمها إلا في سياق الاستعمار الاستيطاني منذ نهاية القرن 19م وخلال القرن 20م، وليس بالعودة إلى النصوص التوراتية والتلمودية".

ولكن الأهم في هذا الكتاب هو التأكيد على أن الغرب، عبر وعد بلفور، قد استغل الصهيونية كأداة استعمارية بديلة لتواجده المباشر. ولهذا يكتب الدكتور عبد الوهاب المسيري في الفصل الثالث تحت عنوان "الفكر الاسترجاعي": "إنّ قضية استرجاع إسرائيل أضحت مطروحة بجدّية في الساحة السياسية بعد صعود الإمبريالية، حيث لم تعد معها الصهيونية فكرة هامشية أو مجرد أشواق يهودية. فوعد بلفور صدر عن الرؤية الاسترجاعية التي ترى اليهود وسيلة للتعجيل بالخلاص، وهي رؤية تعبّر عن رغبة في التخلص من اليهود بتحويلهم إلى وسيلة لخدمة الحضارة الغربية، واعتبارهم مادة استيطانية نافعة بيضاء توطّن خارج أوروبا".

أما الكاتب الكبير عباس محمود العقاد، ففي كتابه الصهيونية العالمية، يستشرف سقوط الفكرة وزوال إسرائيل، حيث خط قلمه سطورًا يقول فيها: "الصهيونية العالمية عبارة عن شركة تبحث عن رأس مالها القديم، فتعلم أن الكثير منه قد تبدد، وأن ما بقى منه يوشك أن يضيع.

تلك هي الصهيونية في العصر الحاضر، أو في المرحلة المتوسطة بين ماضٍ عاشت فيه على استغلال الاضطهاد واللعب بأعمال الصيرفة والمضاربات وتسخير الطوابير الخامسة في المؤامرات الخفية، وبين مستقبل يجور على كل حصة من هذه الحصص التي تجمع منها رأسمالها، ويوشك أن يكشف حسابها جميعًا، إن لم يأتِ على بقية منها بعد بقية، وعلى رصيد منها بعد رصيد".

الفكر الصهيوني استعماري بالأساس، يرسخ لمفاهيم الاستيطان والمحو الديموغرافي ويستحل أدوات الإبادة الجماعية لإحلال غرباء مكان أصحاب الأرض، ما دفع الكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد لتخصيص كتاب كامل حول جرائم الصهيونية الفكرية والإنسانية تحت عنوان الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها.

وقد فكك سعيد خلال كتابه العلاقة بين الغرب والصهيونية الإسرائيلية، ومدى الترابط الذي صنعته المصلحة الأوروبية في إزاحة اليهود من دولهم، والتي تماشت مع الفكر الصهيوني الساعي للبحث عن وطن بديل لليهود.

ويستند إلى اللورد بلفور، الذي كتب عام 1919 يقول:"إن القوى الأربع العظمى ملتزمة نحو الصهيونية سواء كانت مصيبة أم مخطئة، جيدة أم سيئة.. حتى لو تطلب الأمر أذية 700 ألف عربي يسكنون الآن تلك الأرض القديمة".

وعود بلفور السخية للصهاينة لم تكن على سبيل الكرم المفرط، بل نتجت عن تشابك المصالح، الذي حاولت الصهيونية الحفاظ عليه لكسب المزيد من الوعود الغربية، لكن هذا التشابك في المصالح يتضاءل يومًا بعد يوم وصولًا إلى العصر الحالي، الذي يحدث خلاله تعارض مصالح يعزز الفجوة بين الغرب وإسرائيل.

وكأن العقاد في كتابه الصهيونية العالمية كان يستشرف المستقبل: فهي فكرة إلى زوال، وهذا ما يدركه جيدًا الداخل الإسرائيلي الآن، ولهذا يحاول إشعال حرب عالمية كما تنبأ الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي، الذي قد أدرك أن الفكر المتطرف يحتاج إلى حرب تغذيه.

وهذا ما يحدث الآن في الشرق الأوسط: حرب متداخلة الأطراف الإقليمية قد تذهب بنا إلى حرب فوضى عالمية تضمن لإسرائيل الاستمرار، ولكن هذا لن يدوم طويلًا مع تفكك المصالح وصياغة نظام دولي جديد يعيد ترتيب المشهد العالمي.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة