الأحد 5 اكتوبر 2025

مقالات

الملحمة والإبداع

  • 5-10-2025 | 12:27
طباعة

لم تكن هزيمة حزيران الحزين عام 67 نهاية المطاف، بل كانت مجرد محطٍ كابوسي يمكن تجاوزه والتغلب عليه، بهدف تحقيق انتصار جامح يشهد له الأعداء قبل الأصدقاء، ليبدأ بناء قواتنا المسلحة المصرية وفق معطياتٍ جديدة؛ تدرس أساليب العدو القتالية، وتضع نصب أعينها أسلحته وقدراته ودعائمه، وفي الوقت نفسه تسعى جاهدة إلى تعويض خسائرها، وإعادة ترميم ما تصدَّع منها، وتنويع مصادر أسلحتها، والقيام بمناوراتٍ وأعمالٍ تدريبية ترفع من كفاءة الجندي إلى أعلى مستوياته في القتال والتَّحَمُّل، ليبقى مستعدًا في انتظار قرار التحرك والعبور وتحقيق النصر.

بعد الخامس من يونيو 1967 أطلق الأعداء على الجيش الإسرائيلي لقب "الجيش الذي لا يُقهر"، وروَّجت وسائل الإعلام الغربية بأنه الأسطورة، وأكد كثيرون من الخبراء العسكريين أن مصر في حاجة إلى عقود طويلة كي تتمكن من شن هجومٍ على إسرائيل يعيد إليها أرضها وكرامتها، وأن سماء مصر ستظل مستباحة لسنواتٍ غير قليلة.

لكن الإعداد لقواتنا المسلحة كان يسابق الزمن، وأساليب الخداع التي اعتمدتها المخابرات المصرية صارت – فيما بعد – أُسوة حسنة وأنموذجًا يُحتذى به، وعملت الدولة بقيادة الرئيس السادات – ومن قبله عبدالناصر – على تهيئة الشعب لضرورة خوض الحرب وتحقيق النصر المبين.

وفي السادس من أكتوبر 73 انطلقتْ شرارة الحرب بانطلاق أسرابٍ من الطائرات المقاتلة على ارتفاعاتٍ منخفضة؛ مهاجمةً لقواعد العدو في سيناء المحتلة، ومستهدفةً مطاراته ودُشَمه وخنادقه وقواته، تلك القوات التي فقدت توازنها إثر هجومٍ لم يتوقعه أحد، ودوَّت المدافع المصرية على شط القناة تشاطر طائراتنا الضرب المكثف والمركَّز على مواقع العدو الواقعة على مرمى النيران.

وهنا بدأت ملامح النصر تتشكل في سماء الوطن، وراحت الجماهير المصرية تتابع – عبر الإذاعة والتلفاز – بيانات الانتصار وأجواء المعارك في نشوة وفرحة غير مسبوقتين، فها هي الثقة تعود لقواتنا العربية على الجبهة المصرية والسورية، وها هي أسطورة الجيش الذي لا يقهر تتحطم على صخرة شجاعة قواتنا وبسالة أبطالنا عبر ملحمةٍ كبرى، وضعتْ الكيان الصهيوني الغاصب في حجمه الطبيعي المتضائل وقدراته الهشة.

كانت أيام الحرب عصيبة على الإسرائيليين، وأصابتهم بالخوف والذعر والأمراض النفسية، ورأى قادتهم الهزيمة في أبشع صورها، ولم يجدوا مفرًا من الاعتراف بها والإقرار بتقصيرهم.

تقول جولدا مائير (رئيسة الوزراء آنذاك) في مذكراتها: إنها فكرتْ في الانتحار في الأيام الأولى للحرب، فقد سبق أن صرَّحت أكثر من مرة – قبل حرب أكتوبر – أن مصر لا تملك القدرة على شن حرب، ولا يوجد في مصر القائد الذي يستطيع اتخاذ القرار، أو أن يرسل شعبه للهلاك.

ويعترف وزير الدفاع موشي ديَّان بأن: حرب أكتوبر أثبتت للعالم أننا لسنا أقوى من مصر، كما أن هالة التفوق الإسرائيلي التي أوهمت إسرائيل بها العالم بأنها أقوى من العرب عسكريًا وسياسيًا، قد انهارت تمامًا يوم السادس من أكتوبر عام 1973.
ويضيف بحسرة: لقد أسأتُ فهم قدرة القوات المصرية على بناء الجسور والعبور بكفاءة خلال ساعاتٍ قليلة إلى الضفة الشرقية للقناة.

ويسترسل: إن إسرائيل فقدتْ أيَّ أملٍ في القيام بهجوم مضاد لتُجبر به مصر على التراجع عن الأراضي التي حررتها شرق القناة.

ويُقر ديان: إن إسرائيل خسرت في الحرب عددًا هائلًا من الطائرات والدبابات والجنود، فقد كان هناك سوء تقدير للموقف على كل المستويات، لقد كنا – جميعًا – نعتقد أنه يمكن صد المصريين في اليوم الأول للحرب وإعادتهم إلى الضفة الغربية للقناة.

لا شك أن الأحداث التاريخية الكبرى من شأنها حث الذائقة الإبداعية على تناولها بطرائق شتى وسبل مختلفة وزوايا متباينة، وكلها تصب في صالح الحدث وتؤرخ له، ليظل نبراسًا في عقول الأجيال؛ جيلًا تلو الآخر، ويبقى فخرًا في قلوب العرب جميعهم.

لذا فقد حرص كثيرٌ من الأدباء على إبراز هذا الانتصار، ليسطع في سماء الثقافة العربية، وقد كان النصيب الأكبر – في هذا الصدد – للرواية، ربما لأنها الأنسب في التعبير بحرية جمَّة، والأرحب من حيث المساحة المتاحة، والأقوى بقدرتها على سبر أغوار النفس الإنسانية في لحظات الانتصار، والأكثر تعبيرًا عن المشاهد والشواهد وأجواء المعارك، والشاهدة على تحرير الأرض وحفظ العِرض، والشاهدة على عودة الثقة المفقودة والكرامة المنشودة لأمتنا العربية من المحيط إلى الخليج.
نذكر من الروايات التي احتفت بنصر أكتوبر واحتفلت بأحداثه الكبرى: الرصاصة لا تزال في جيبي لإحسان عبدالقدوس، والرفاعي لجمال الغيطاني، وأيام أكتوبر لإسماعيل ولي الدين، والمصير لمحسن محسب، ودوي الصمت لعلاء مصطفى، وأشياء حقيقية لفتحي سلامة، والمرصد للأديب السوري حنا مينه، وغيرها من الأعمال الجادة.

ولنا أن نتوقف قليلًا أمام رواياتٍ ثلاث أعطتْ زخمًا ثريًا – بجانب أترابها – لحياتنا الأدبية؛ وهي: الرصاصة لا تزال في جيبي، والرفاعي، والمرصد.

في روايته الرصاصة لا تزال في جيبي يدير إحسان عبدالقدوس أحداثها حول الشخصية الرئيسة في العمل "محمد" (البطل) فقد تاه في الصحراء فترة طويلة، وفي جيبه رصاصة يحتفظ بها منذ هزيمة 1967، متطلعًا إلى استخدامها – كجندي – عندما تحين ساعة الصفر لمهاجمة إسرائيل، فهو يحلم بتلك اللحظة بُغية الثأر للدماء التي أُريقت على الأرض العربية، ليتحقق حلمه في النهاية ويعبر مع زملائه – من الجند – قناة السويس وسط أزيز الطائرات وهدير المدافع، وصليل المجنزرات، وهدير مياه القناة.

وفي رواية الرفاعي لمؤلفها جمال الغيطاني نرى المواقف البطولية التي قام بها العميد أركان حرب إبراهيم الرفاعي بمجموعته التي أسسها وأطلق عليها "المجموعة 39"، تلك المجموعة التي أدت أداءً استثنائيًا خلال الحرب الرمضانية المجيدة، وهو الأداء القتالي الذي تابعه الغيطاني من خلال عمله كمراسل صحفي على الجبهة المصرية، ليرصد تحركات الأبطال الميدانية ويحكي عن شجاعتهم في هذه الملحمة الكبرى التي خلدها التاريخ.

وتأتي رواية المرصد للأديب السوري حنا مينه، لتكشف عن معنى العنوان/ الموقع؛ فالمرصد هو موقع عسكري أقامته إسرائيل فوق جبل الشيخ، بهدف الاستطلاع والمراقبة، وجهزته بمعداتٍ حديثة، بحيث يستعصي على أية قوة اقتحامه، لكن جنود المشاة السوريين تمكنوا من اقتحامه، ليجدوا عددًا كبيرًا من الصهاينة مختبئين – بفزع ورعب – داخله.

الرواية تصف المعارك في البر والبحر والجو، بالإضافة إلى معارك الدبابات التي أثبتت قدرتها وجسارتها على اجتياز الصعاب، ليجعل حنا مينه القارئ شغوفًا – عبر الصفحات – بمعرفة المزيد من الأحداث.

صحيح أن الأعمال الأدبية والروائية لم ترقَ إلى مستوى الانتصار العظيم، لكنها – في النهاية – أضافت إلى هذا اللون من الإبداع مذاقًا حُلوًا ومستساغًا.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة