الأربعاء 29 مايو 2024

الجزائر وعبد الناصر.. الدعم المتبادل

20-3-2017 | 13:58

بقلم – د. السيد فليفل

منذ فترة مبكرة من تاريخ ثورة ٢٣ يوليو استبان للمتابعين أن جمال عبدالناصر هو قائدها، وإن برز غيره فى الصورة، وصعد إلى سطح الأحداث. وبعد أيام قليلة أدرك المتابعون للحراك الثورى أن الذى يأخذ القرارات هو جمال عبد الناصر، وأنه حتى من سمى بقائد الثورة السيد اللواء محمد نجيب كان ينقل الأسئلة التى يطرحها عليه الصحفيون إلى جمال بك فيسأله: يتساءلون ماذا نصنع بالملك، فيرد جمال فى حضور الصحفيين: الملك سيرحل فى يوم ٢٦، وقد أعطى ذلك مؤشرا واضحا على أنه كما قال خالد محيى الدين: الصانع الرئيسى للأحداث، فهو الذى جمع الثوار وهو الذى اختارهم وهو الذى ولاهم الأدوار، أو على حد قوله: إنه يعرفنا جميعاً، ولا يعرفه منا إلا من احتكوا به من قبل، وإنه عند اللقاء الأول لما سمى فيما بعد بمجلس قيادة الثورة أنه المخطط الأول لكل ما يجري.

حدد القائد فى «فلسفة الثورة» اتجاهات العمل للسياسة الخارجية المصرية عبر دوائر عربية وإفريقية وإسلامية، كما أدرك أن الثورة المصرية لا تستطيع وهى تعانى من الوجود الصهيونى إلى الشرق من أرضها أن تغفل تأثير الوجود الاستعمارى فى دول حوض النيل، أو أن تغفل وجود الدول العنصرية فى جنوب القارة. بيد أنه سرعان ما لاحظ أن الرابطة بين إسرائيل والمستعمرين كانت من الوضوح والقوة بحيث أنه بات يدرك أن السلاح الجوى الإسرائيلى المتفوق تغلب عليه الطائرات الفرنسية من طرز متعددة مثل المستير، وداسو، وفوجامستير وغيرها، وذلك دون أن يقوم الشعب الفلسطينى بالتعرض مطلقا للمصالح الفرنسية، ومن ثم فإن هذا التسليح موجه إلى دول جوار إسرائيل ومنها مصر. وأن حالة التأييد المصرى للحقوق العربية ضد القوى الاستعمارية، رغم أن مصر لم تكن قد تخلصت بعد من الاستعمار البريطانى وقواته المحتلة لأراضيها، تعامل باعتبارها عدوا لفرنسا.

وقد بلغ الأمر مبلغه ببناء مفاعل ديمونة الفرنسى كهدية للدولة العبرية دعما لتفوقها التقنى الكامل على العرب، وهنا كان من اللازم أن يكون الرد حاسما فقد أخذ اتجاهين: الاتجاه الأول هو اتجاه دعائى مثلته الإذاعة المصرية، وإذاعة صوت العرب من القاهرة، والتى جرى على أثيرها إعلان الثورة الجزائرية بقيادة حركة التحرير. أما الاتجاه الثانى فسبق ذلك وتمثل فى تدريب الطلاب الجزائريين على أعمال القتال والعمل ضد المستعمر الفرنسي، وذلك جنبا إلى جنب مع طلاب ليبيا والمغرب وموريتانيا تأكيدا للوحدة النضالية.

ولقد كان من قدر جمال عبد الناصر أن عرف معرفة شخصية أولئك المناضلين الذين جرى تدريبهم فى القاهرة، وتابعهم، وراقب دورهم النضالى العسكرى والسياسي، كما تابع بدقة عمليات المخابرات المصرية لتوصيل السلاح للثوار سواء عن طريق وسطاء دوليين من صيادين يونانيين وإسبان، حتى اكتشفت إحدى السفن المصرية فبدأ فى تهريب السلاح عبر قوافل الجمال التى تقطع الصحراء الكبرى من حدود مصر الغربية إلى قلب ليبيا بوساطة وإشراف رئيس وزرائها الأمير مصطفى حليم، كما تواصلت هذه الجهود مع الثوار التوانسة حتى تدخل القوافل إلى داخل الجزائر ليقابلها أبطال جبهة التحرير ويقومون بتوزيعها على المناطق القتالية المختلفة.

والمدهش أن لدينا تغطية وثائقية شاملة لهذه الجهود قدمها مصريون وجزائريون عبر دراسات أكاديمية رصينة ومن هؤلاء الراحلان المصريان دكتور نبيل البلاسى ودكتور عودة الشوكي، فضلا عن الباحث الجزائرى الفذ الأستاذ الدكتور صالح لميش. وقبل هذا كله فإن الرجل الذى ائتمنه جمال عبد الناصر على مسئولية ملف تحرير الوطن العربى من محيطه إلى خليجه، وهو السيد فتحى الديب رحمه الله، أصدر كتابا وثائقيا قيما هو كتاب عبد الناصر وثورة الجزائر والذى يعد المصدر الأساسى لدور مصر فى دعم الثورة الجزائرية بقلم صانع الأحداث الذى استقبل قادة التحرير ودرب الشباب ورتب لرحلاتهم ذهابا وإيابا وتابع انتصاراتهم فى ميادين القتال والسياسة.

ومن الناحية السياسية فقد مهد الرئيس عبدالناصر لقادة الكفاح الجزائرى على الصعيد الدولي، فقدمهم لقادة الدول حديثة الاستقلال كما قدمهم للاتحاد السوفيتى والصين والهند، بل وضمهم إلى الوفد المصرى بالأمم المتحدة مما يمكنهم من عرض قضيتهم أمام العالم أجمع، وبمساعدة مباشرة من دول الحياد الإيجابى ودول عدم الانحياز.

بذا بلغت القضية الجزائرية شأناً دولياً بعيداً وصارت معروفة على المستوى الدولي، وصارت صورة فرنسا أيضا صورة سلبية باعتبارها قوة استعمار تتصادم مع القانون الدولى ومع مواثيق الأمم المتحدة.

ولعل الرئيس عبد الناصر فى زيارته للجزائر بعيد الاستقلال بشهور قليلة قد حظى باستقبال هائل ومتدفق تواصل فيها نبضه مع نبض الشارع الجزائرى فى ترجمة واضحة لدوره النضالى الكبير ودوره الإنسانى والأخوى فى دعم الأشقاء.

هذه هى الصورة التى يعرفها المصريون عن الثورة الجزائرية، بيد أن هنالك صورة أخرى مقابلة يجب أن يعرفها المصريون عن الدولة الجزائرية ودورها فى دعم مصر فى السنوات العجاف من ١٩٦٧ حتى حرب أكتوبر ١٩٧٣.

ما كادت أنباء هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧ تصل إلى أسماع الشعب الجزائرى حتى ساد حزن كبير مقرون بألم السؤال الصعب: كيف حدث هذا؟ وأين كان عبد الناصر؟ إذ يقع العدوان بهذه النتيجة الكارثية التى فقد فيها المصريون سيناء الحبيبة بمساحتها الشاسعة التى تزيد على ٦٠ ألف كيلو متر مربع، ومما زاد من قلق الجزائريين طنطنة الإعلام الغربى وفرحته بهزيمة الجيش المصري، وتأكيد أن سماء القاهرة صارت مفتوحة أمام الطيران الإسرائيلى اليد الطويلة التى صارت لها الكلمة العليا فى سماوات الشرق الأوسط.

استدعى الرئيس المناضل هوارى بومدين أخاه وزير الخارجية «عبد القادر»، وهذا هو الاسم الحركى لعبد العزيز بوتفليقة، حيث طلب إليه السفر عاجلا إلى القاهرة كى يقوم بأمرين: الأمر الأول هو إعادة طرح السؤال الجزائرى كيف وقع ما وقع وأين كان عبد الناصر؟ ثم أن يتعهد له بتقديم الجزائر دعماً أخوياً للجيش المصري. ومن فوره تحرك الوزير عبد العزيز بوتفليقة إلى القاهرة، حيث استقبل فى مطارها استقبالا رسميا وتوجه من فوره للقاء الرئيس جمال عبد الناصر، واستعد لتوجيه السؤال المحرج لكنه عندما التقاه بكى بكاء مرا وصرخ: أن الجزائر تضع كل إمكانياتها تحت تصرف سيادتك، وعندما عاد إلى الجزائر سأله الرئيس بومدين ماذا قال لك الزعيم عبد الناصر فى إجابته عن سؤال كيف وقع ما وقع وأين كان، فرد الوزير بأننى لم أستطع أن أنظر فى عينيه ولا أن أسأله هذا السؤال، بل إننى فقط أبلغته أن الجزائر تضع تحت تصرف فخامته كل مقدراتها وإمكانياتها. فسأله الرئيس: لكننى طلبت إليكم أن تسأله فلماذا لم تفعل؟ فقال فخامة الرئيس إننى أفضل أن تسأله فخامتك بنفسك. كان ذلك تعبيرا إنسانيا نبيلا عن المكانة التى شغلها عبد الناصر فى عقل ووجدان أشقائه الجزائريين، كما كان تلبية لنداء قومى مقدس فقد والت الجزائر منذ هذه اللحظة توفير ما يتطلبه الأمر لدعم الجيش المصري، وكانت المبادرة الأولى هى تحرك لواءين مدرعين بكامل دباباتهما من شرق البلاد عبر تونس وليبيا إلى مصر. كما جرى إرسال أنواع متعددة من الأسلحة برا أيضا وبحرا وجوا، كأنما مسار القافلة السابقة قد ارتد عكس الاتجاه لتأدية مهمة تحرير الأرض المصرية، مثلما كان الهدف من قبل تحرير الأرض الجزائرية.

وبالموقف لمحات إنسانية لا يستطيع مصرى إلا أن يقف معها محيياً الجزائر قيادة وحكومة وشعباً، فقد حلت وحدات نوعية من الدفاع الجوى الجزائرى إلى أرض مصر متخذة مواقع فى المناطق الحساسة دفاعا ضد سلاح الجو الإسرائيلي، وأمكن لهذه القوات أن تصد عادية هذا السلاح وأن تمنعه من التمتع بالسماء المفتوحة من بعد ٥ يونيو. والأمر الذى يذكره كاتب هذه السطور ولا ينساه أبدا أن إحدى وحدات الدفاع الجوى الجزائري، كانت ضمن القوات المصرية التى تحمى عبور وحدات من كتائب الاستطلاع المصرى مع المشاة لقناة السويس جنوب الإسماعيلية، ولقد كان مقاتلو الجزائر فرساناً أشاوس، وكانوا فخراً لبلادهم وللعروبة، وكان أداؤهم مما أكد رفقة السلاح ووحدة المصير ورابطة الدم النضالى العربى.