في فبراير القادم يكون قد مر ثلاثة أعوام على بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، والتي قالت موسكو إن من بين أهدافها نزع سلاح أوكرانيا وتوقعت القيادة الروسية إنجاز العملية في فترة وجيزة وكادت تحقق ذلك لولا تدخل الغرب الذي أقنع الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي بضرورة القتال إلى أن يتم إلحاق «هزيمة استراتيجية بروسيا».
صحيح أن روسيا لم تهزم؛ بل بالعكس تكاد تنتهى من مهمة بسط سيطرتها على أربعة أقاليم أوكرانية كانت قد ضمتها إلى أراضيها بشكل نهائى فى سبتمبر 2023 إضافة إلى شبه جزيرة القرم التى ضمتها فى عام 2014 ، وفى الوقت نفسه فإن أوكرانيا تحاول جاهدة رغم النقص الواضح فى القوى البشرية، إحداث تغيير فى ميدان القتال بعد أن تمكنت قواتها من الاستيلاء على أجزاء من إقليم كورسك الواقع فى جنوب روسيا وهى لا تضحى فقط بمئات الجنود يومياً من أجل التمسك بهذا الجزء من الأراضى الروسية؛ بل قامت بثلاث هجمات ضخمة فى جبهة القتال هذه أخيراً بهدف خلق واقع جديد يكون موضوعاً للمساومة فى حال الولوج لعملية تسوية سياسية ازداد الحديث عنها فى الآونة الأخيرة.
كل هذا مرتبط بالآمال التى تعلقها الأطراف المعنية على تولى الرئيس دونالد ترامب ولايته الرئاسية فى البيت الأبيض فى العشرين من يناير الجاري، والذى كان قد وعد بإنهاء النزاع فى أوكرانيا خلال 24 ساعة. وبالطبع فإنه من العسير أن يتمكن ترامب من إنجاز هذه المهمة خلال يوم لا سيما وأن إدارة الرئيس الأمريكى جو بايدن أغرقت اوكرانيا بالمال والعتاد، وخاصة الصواريخ بعيدة المدى من أجل تعقيد مهمة ترامب وإرغامه على مواصلة دعم الحرب الهادفة أولاً وأخيراً إلى استنزاف روسيا بغض النظر عن عواقبها بالنسبة لأوكرانيا.
وستواجه روسيا هذا العام أزمتين حادتين أولاهما، فى جورجيا التى ستتواصل فيها الاضطرابات نتيجة عدم اعتراف المعارضة الجورجية المدعومة من الغرب بنتائج الانتخابات التى أطاحت بالرئيس سالوما زورابشفيلي، وهى سيدة جورجية تحمل الجنسية الفرنسية، والثانية فى مالدوفا التى تقودها سيدة أخرى هى مايا ساندو، والتى يدفعها الغرب إلى افتعال نزاع مع إقليم بريدنستروفيه ذى الأغلبية الروسية الذى انفصل عن مالدوفا فى بداية التسعينيات من القرن الماضي، وهدف هذا النزاع يتمثل فى فتح جبهة أخرى لتوريط روسيا وتشتيت جهودها العسكرية وزيادة الضغوط عليها للتراجع فى أوكرانيا.
وثمة قلق فى الدوائر السياسية الروسية من احتمال أن تتكرر محاولات الغرب للتدخل فى الشأن البيلاروسى من خلال إثارة الاضطرابات فى العاصمة مينسك ومدن أخرى فى الصيف القادم، أو جر بيلاروسيا إلى الحرب الدائرة حالياً فى أوكرانيا بهدف الإطاحة بنظام الرئيس إلكسندر لوكاشينكو الذى اعترف بأن بلاده قد «لا تصمد فى مثل هذه الحرب».
ومن المعروف أن بيلاروسيا لا ترتبط بروسيا بمعاهدة اتحادية فقط؛ بل بعلاقات ووشائج استراتيجية ربطت مصير البلدين بشكل وثيق. وستؤدى أى محاولة غربية للتدخل فى بيلاروسيا إلى جانب المعارضة التى قد ترفع رأسها مجددا هذا العام إلى اضطرار روسيا للتدخل عسكرياً بهدف حماية حليفها الاستراتيجى الوحيد فى الفضاء السوفيتى السابق .
إضافة إلى ذلك أنه وبالرغم من إعلان الرئيس فلاديمير بوتين خلال مؤتمر صحفى موسع عقده نهاية العام الماضى أن روسيا لم تخرج ضعيفة من سوريا؛ إلا أنه ليس فى وسع موسكو إنكار حقيقة أن التطورات التى شهدتها منطقة الشرق الأوسط خاصة سقوط النظام السورى أدت إلى حدوث تغييرات جوهرية فى الساحة الإقليمية والدولية.
وهذه التغييرات تتمثل بصورة أساسية بأن محاولة إقامة عالم متعدد الأقطاب تعثرت بصورة جدية لأن العوامل البشرية والاقتصادية والثقافية والتكنولوجية وحدها ليست كافية من أجل احتلال موقع قطب مستقل فى العلاقات الدولية إذا لم ترتبط هذه العوامل باستعداد الدول المعنية للدفاع عن حلفائها ومصالحها فى العالم بالقوة العسكرية كما فعلت الولايات المتحدة التى تدخلت بشكل مباشر وشامل فى الصراع الأخير فى الشرق الأوسط وساهمت فى تغيير وجه المنطقة لمصلحة حليفتها إسرائيل وضيقت الخناق على المصالح الروسية .
وحقيقة فإن مصير القواعد العسكرية الروسية البحرية فى طرطوس والجوية فى حميميم لا يزال مجهولاً، والكثير بات يعتمد على قدرة موسكو للتوصل إلى صيغة للتفاهم مع تركيا التى باتت تملك اليد العليا فى الشئون السورية، من أجل التوصل إلى تفاهم من شأنه أن يضمن بقاء هذه القواعد التى قال الرئيس بوتين نفسه إن بلاده مستعدة لتكريسها من أجل تسهيل «مهمة وصول المساعدات الإنسانية التى تحتاجها سوريا».
لكن تركيا قد لا تكون فى عجلة من أمرها لتقديم مثل هذه المساعدة لروسيا بدون مقابل مجزٍ، صحيح أن روسيا وتركيا ترتبطان بعلاقات اقتصادية وتجارية وجيوسياسية هامة للغاية؛ لكن البلدين يتنافسان فى العديد من المجالات وليس آخرها ليبيا التى تتطلع حكومة الوحدة الوطنية فيها إلى إمكانية تفعيل الاتفاقية التى توصلت لها مجموعة الخمسة بضرورة إخراج القوات الأجنبية من هناك بما فيها القوات الروسية التى ترابط شرق ليبيا . وقد يكون هذا أحد الأسباب التى دفعت وزير الخارجية الليبى إلى القيام بزيارة لدمشق وإجراء مباحثات مع القيادة السورية الجديدة. أضف إلى ذلك أن أنقرة تريد أن تستثمر وجودها فى سوريا من أجل ضمان مصالحها فى مجال الطاقة خاصة عبر مد خط أنابيب الغاز عبر الأراضى السورية إلى تركيا والمستهلكين الأوروبيين وخلق بديل عن الغاز الروسى الذى يتدفق إليها عبر خط السيل التركى إذا اقتضت الحاجة .
وربما تكون روسيا مستعدة للتخلى عن قواعدها فى سوريا لأسباب عديدة أهمها عدم وجود قدرات لضمان سلامة هذه القواعد على المدى البعيد ولكن الوضع مختلف بالنسبة لوجودها العسكرى فى ليبيا نظراً لما لهذا الوجود من أهمية بالنسبة للاستراتيجية الروسية فى القارة الإفريقية وخاصة فى جمهورية إفريقيا الوسطى ومالى وغيرها من الدول التى تعير أهمية كبيرة لتطوير علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع موسكو .
وفى المقابل فإن موسكو التى قد تجد نفسها مضطرة للتضحية بعلاقاتها مع سوريا، فإنها ستعمل جاهدة على تطوير علاقاتها مع المملكة العربية السعودية والإمارات ومصر لعدة أسباب أولها: المصالح الاقتصادية المتنامية مع هذه الدول والحرص على استمرار العمل باتفاقية «أوبك زائد»، وثانياً: أن سياسة هذه الدول مقروءة وقابلة للتنبؤ وغير مرشحة لتطورات مفاجئة، وثالثاً: نضوج الحوار السياسى مع عواصم هذه الدول الذى لا يسمح فقط بتبادل الرأى والمشورة حول قضايا المنطقة بل وكذلك بلورة مواقف ووجهات نظر متطابقة أو متقاربة حيالها .
وبالنسبة لمصر فإن روسيا تعمل على تنفيذ مشاريع ضخمة ذات جدوى اقتصادية ملموسة فيها أبرزها، مشروع المنطقة الصناعية فى السويس ومشروع المحطة الكهرو ذرية فى الضبعة، ناهيك عن العلاقات التاريخية العميقة التى تربط موسكو والقاهرة ورهان الكرملين على تنامى الدور الذى يمكن أن تلعبه مصر فى القارة الإفريقية والشرق الأوسط والأهمية التى توليها موسكو للحوار مع الجانب المصرى حول تطورات الوضع فى ليبيا والسودان.
لكن التحدى الأكبر الذى ستواجهه موسكو فى العام الجديد يتمثل فى النهج السياسى الذى ستتبناه الإدارة الأمريكية برئاسة ترامب الذى لا تنسجم وعوده مع أقواله فى العلاقة مع روسيا.
وأود أن أذكر أن ترامب لم يستطع ترميم علاقات بلاده مع موسكو خلال ولايته الأولى رغم الوعود التى أطلقها بل بالعكس قام بفرض موجات متتالية من العقوبات النوعية مالياً واقتصادياً وتجارياً ضد عشرات الشركات والشخصيات الروسية.