بعد أسابيع من الضغوط المتزايدة للتخلى عن السلطة، أعلن جاستن ترودو استقالته من رئاسة وزراء كندا وزعامة الحزب الليبرالى الحاكم منهيًا بذلك فصلًا سياسيًا طويلا هيمن فيه على مقاليد السلطة لمدة 10 أعوام. الفراغ القيادى وعدم اليقين السياسى يترك العاصمة الكندية «أوتاوا» بلا خطط واضحة لمواجهة الأزمات الاقتصادية التى تعصف بكندا. ويبقى السؤال الأبرز، هل تتمكن كندا من تشكيل إدارة جديدة قادرة على التعامل مع التهديدات المتكررة للرئيس الأمريكى المنتخب دونالد ترامب؟
جاءت استقالة «ترودو» متوقعة فى ظل تراجع الدعم السياسى من داخل حزبه الليبرالي، بما فى ذلك استقالة نائبة رئيس الوزراء ووزيرة المالية السابقة كريستيا فريلاند، التى كانت من أقرب حلفاء ترودو، احتجاجًا على سياساته الاقتصادية مما أحدث حالة من الفوضى. فضلا عن تراجع شعبيته بين الكنديين بعد فشله فى حل مجموعة من القضايا، بما فى ذلك أزمة الإسكان، ارتفاع تكلفة المعيشة، زيادة معدلات الهجرة، تحسين نظام الرعاية الصحية، والتعليم. وبالرغم من الاستقالة، إلا أنه سيظل يمارس مهامه إلى أن يختار حزبه زعيمًا آخر. حتى الآن لا يوجد خليفة واضح، ولكن الاختيار سيتم من خلال «عملية تنافسية قوية على مستوى البلاد». ومن بين الأسماء البارزة التى تم طرحها، نائبة رئيس الوزراء ووزيرة المالية السابقة كريستيا فريلاند، التى لعبت دورًا مهمًا فى حل العديد من القضايا الرئيسية، لا سيما التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية «نافتا»، خلال إدارة ترامب الأولى. كذلك تعد ميلانى جولى، وزيرة الخارجية المعروفة بحنكتها الدبلوماسية، مرشحة قوية لتولى المنصب. وهناك مرشح آخر محتمل وهو مارك كارني، الذى شغل منصب محافظ بنك إنجلترا ومحافظ بنك كندا فى السابق.
وفى محاولة لكسب الوقت لليبراليين، تمكن «ترودو» من تعليق البرلمان حتى 24 مارس المقبل فى أعقاب إعلان أحزاب المعارضة الثلاثة أنها ستعمل على إسقاط حكومة الليبراليين بتصويت بحجب الثقة فى أول فرصة، مما قد يؤدى إلى إجراء انتخابات مبكرة قبل موعدها المقرر فى أكتوبر المقبل. وهذا يعنى أن لدى الليبراليين فرصة حتى نهاية مارس للعثور على زعيم جديد. وسيتم انتخابه من قبل أعضاء الحزب الليبرالى فى جميع أنحاء البلاد، ويمثل الحزب فى الانتخابات العامة. وتحتاج الحكومة إلى دعم أغلبية أعضاء البرلمان البالغ عددهم 338 عضوًا فى التصويت على حجب الثقة، والليبراليون أقل بـ 17 مقعدًا مما يعنى أنهم فى حاجة إلى دعم من أعضاء الأحزاب الأخرى. ومن جانبه، أعلن الحزب الديمقراطى، الذى كان مواليا للحزب الليبرالى، بعد استقالة «ترودو» أنه سيصوت لإسقاط الحزب الليبرالى. حيث قال زعيم الحزب جاجميت سينغ: «إنهم لا يستحقون فرصة أخرى»، وفقًا لـ «بى بى سي». مما يضع الحزب الليبرالى فى مأزق كبير قد يطيح بهم من عرش السلطة.
علاوةً على ذلك، تشير استطلاعات الرأى الأخيرة إلى أن فرص الليبراليين فى الفوز بالانتخابات المقبلة تبدو ضئيلة. ففى أحدث استطلاع أجراه معهد «نانوس» للأبحاث، حصل الليبراليون على دعم بنسبة 21 فى المائة فقط مقارنة بـ47 فى المائة لصالح حزب المحافظين المعارض. ويرى العديد من المحللين أن زعيم المحافظين بيير بواليفير هو الأرجح فى تولى منصب رئاسة وزراء كندا فى المرحلة القادمة. بواليفير، البالغ من العمر 45 عامًا، هو سياسى شعبوى حرص على مهاجمة سياسات «ترودو» بشراسة، وأظهر اهتمامًا كبيرًا بالقضايا التى فشلت حكومة ترودو فى التعامل معها مثل قضية الهجرة، وتكاليف المعيشة المرتفعة، كما تعهد بإلغاء ضريبة الكربون وسحب التمويل من هيئة الإذاعة الكندية. ومع ذلك يظل غير واضح ما إذا كان بواليفير قادرًا على التمسك بتقدمه فى استطلاعات الرأى خاصةً بعد اختيار الحزب الليبرالى زعيما جديدًا.
وتأتى الاضطرابات السياسية فى وقت عصيب بالنسبة لكندا الذى تشعر بالقلق إزاء تعليقات ترامب الساخرة بإشارته إلى كندا بالولاية الأمريكية رقم 51، وترويجه المستمر على منصته «تروث سوشيال» أنه فى حالة الاندماج لن يكون هناك تعريفات جمركية، وستنخفض الضرائب بشكل كبير، وسيكونون محميين تمامًا من تهديد السفن الروسية والصينية التى تحيط بهم باستمرار. حتى أنه شارك منشورًا حديثًا على وسائل التواصل الاجتماعى حول دعم رجل الأعمال الكندى كيفن أوليرى لهذه الفكرة.
كذلك تهديدات ترامب بفرض رسوم جمركية بنسبة 25 فى المائة على الواردات الكندية تخلق مجموعة مستمرة من التحديات المتعددة للاقتصاد الكندى الذى يعانى بالفعل من ركود، مما قد ينعكس على الشراكة التجارية الوثيقة بين البلدين. ومع دخول كندا مرحلة انتقالية كبرى فى سياستها الوطنية، يتعين على الشخص الذى سيصبح رئيسًا للوزراء فى الأسابيع أو الشهور المقبلة أن يكتشف كيفية التعامل مع ولاية ترامب الثانية - والتهديد الوجودى الذى يشكله على كندا - بطريقة أكثر فعالية بكثير من الطريقة التى تعامل بها الليبراليون تحت قيادة ترودو.
وفى هذا السياق، أوضح الدكتور إحسان الخطيب، أستاذ العلوم السياسية فى جامعة مورى ستايت، وعضو الحزب الجمهورى الأمريكى أن العلاقات الأمريكية الكندية ممتازة، وهناك تبادل تجارى ضخم بينهما. مشيرًا إلى أن استقالة ترودو سببها الرئيسى يرجع إلى الأزمة الاقتصادية وأزمة السكن والهجرة التى تعانى منها البلاد. وأن الحديث عن ضم كندا هو شغب كلامى من ترامب.
وتابع «الخطيب» قائلًا إن كندا بلد مستقل لكن بالفعل اقتصاده يعتمد بشكل كبير على أمريكا. وعبر السنوات عانت كندا من تهريب السلاح من أمريكا وعانت أمريكا من تهريب المخدرات عبر الحدود. إضافةً إلى أن كندا ثانى أكبر شريك تجارى لأمريكا بعد المكسيك، وهذا التبادل التجارى ميزانه لصالح كندا. حيث تصنع الشركات الأمريكية فى كندا لما لها من ثروات طبيعية كبيرة وحقول غنية بالنفط، وتبيع فى أمريكا وهو ما لا يعجب ترامب. وبالتالى كل أقوال ترامب تهدف إلى رفع سقف المفاوضات مستغلًا الفراغ السياسى نتيجة استقالة ترودو للضغط عليهم. ولا مجال أمام كندا إلا محاولة استرضاء ترامب. وبالتأكيد بعد الانتخابات الكندية ووجود رأس للدولة يكون وضع كندا أقوى.