تحدد يوم 3 يوليو القادم موعدًا لافتتاح المتحف الكبير ليكون الأكبر والأضخم من نوعه بالنسبة للمقتنيات المصرية، الرئيس عبدالفتاح السيسى وجّه دعوات لعدد من كبار زعماء وقادة العالم لحضور الافتتاح، فضلا عن عدد من ملوك ورؤساء الدول العربية الشقيقة، وهناك لجنة برئاسة د. مصطفى مدبولى لمتابعة التجهيز للافتتاح، وزير السياحة والآثار من جانبه يعمل بجد فى الخطوات والإجراءات التنفيذية.
لمتحف الكبير ليس فقط مجرد متحف ضخم، لكن استتبع ذلك شق طرق وإقامة جسور، وتهيئة المنطقة بأكملها التى يقع فيها المتحف، لتكون منطقة جذب عالمية، تيسِّر على الزائر، سواء كان سائحًا أجنبيًا أو زائرًا مصريًا الوصول إلى المتحف، جهد سنوات متواصلة تجاوزت عشر سنوات، فنيون وأثريون ومهندسون من مختلف التخصصات، متابعة دقيقة للمشروع من رئيس الجمهورية بنفسه، حتى وصلنا إلى هذه اللحظة، التى يجرى العمل والإعداد على أن تكون مبهرة للعالم، يرى فيها المجتمع الدولى الحضارة المصرية ورقى المصريين القدماء والمحدثين أيضًا، بُناة المجد عبر التاريخ.
ومع اقتراب موعد الافتتاح بدأت الذئاب الإلكترونية فى الهجوم على المشروع، وهذه المرة لسنا بحاجة إلى ذكاء شديد ولا إلى خبرة تاريخية لنقول بملء الفم، إن غلمان جماعة حسن البنا الإرهابية هم أساس ذلك الهجوم.. وبعض الحملات التى تُشن منذ فترة على المشروع كان وراءها أسماء عُرف عنهم الانخراط فى تلك الجماعة، الأسباب والدوافع معروفة.
هذه الجماعة تحمل عداءً لكل مظاهر القوة الناعمة المصرية، لذا هاجموا بضراوة د. طه حسين، وحاولوا اغتيال نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل، وهاجموا كذلك أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، ناهيك عن أنهم فكروا فى اغتيال الفنان المبدع عادل إمام.. مشروع جماعات الإرهاب يقوم على إبادة القوة الناعمة، باغتيال رموزها، معنويا ثم ماديا، ومحاولة إثارة النفور منها، ووضع القوة الناعمة فى مواجهة مع الدين، والحق أنها مواجهة مع مشروع الإرهاب والإرهابيين، أما الدين فهو براء من تلك الدعاوى ومنهم.
وقد لا يلتفت كثيرون إلى تميز المساجد المصرية بتاريخها وبنائها المعمارى، جامع أحمد بن طولون يتميز بمئذنته الملوية ذات السلم الخارجى، أى يمكن الدخول إليها من خارج المسجد، سلم وبوابة خاصة، ولم يكن لا مثيل سوى جامع سامراء فى العراق، وهدمه الدواعش. جامع السلطان حسن مدخله يشبه معماريًا مداخل الكثير من المبانى الأثرية القديمة، وهكذا الحال فى كثير من المساجد والبيوت الأثرية فى القاهرة الإسلامية، لأن روح البناء واحدة فى الحالتين، الاختلاف فى الطابع الحضارى والدينى لكل منشأة من هذه المنشآت.
بعض المعابد المصرية القديمة تحولت إلى كنائس فى الحقبة القبطية، وبعضها صارت مساجد فى العصر الإسلامى بلا غضاضة.
أما التركيز على رموز الحضارة القديمة مثل رمسيس الثانى والادعاء أنه فرعون الخروج، فقد أكدت الدراسات أن فرعون الخروج لم يكن مصريًا بل كان أحد حكام الهكسوس.. أى الذين طردهم المصريون وتحرروا منهم، بعض الغوغائية يخلط بين الأمرين للتشويش على التاريخ المصرى كله، وهذا جزء من التشويش على القوة الناعمة المصرية، بدءا من محاولة تحريم الغناء إلى تحجيم فن الدراما وحصره فى قضايا بذاتها، هو فى النهاية له هدف بعيد، وهو إضعاف القوة الناعمة المصرية وهزيمتها.
حاولوا ذلك كثيرا، لكنهم فشلوا، ويكررون المحاولة هذه المرة عبر الذباب الإلكترونى، ويستهدفون المتحف الكبير.
وحين تذهب سيدة -لم تكن مصرية- إلى المتحف لزيارته وتصور فيلمًا هناك، ثم تشير إلى تمثال رمسيس، وتقارنه بآية قرآنية بناء على فهم مغلوط، فنحن هنا لسنا بإزاء عمل علمى ولا جهد بحثى، لكننا أمام سيدة تحاول التشويش على هذا الإنجاز الضخم والتهوين من شأنه، وقد قام أنصار تلك الجماعة بمحاولة التهوين من كل إنجاز، بدءًا من مشروع ازدواج القناة سنة 2014، وحتى بناء العاصمة الإدارية الجديدة، وصولًا إلى افتتاح المتحف الكبير.
يحاولون بالشائعات والمعلومات المغلوطة مرة والأكاذيب الدائمة وأحيانًا بالحروب المباشرة، ما يحدث بخصوص المتحف هو حرب مفتوحة، حرب على الحضارة والتاريخ المصرى قبل أن تكون حربًا على المتحف نفسه.
جزء من الهجوم أن القوة الناعمة إذا كانت قوية وفاعلة، فسوف يتبدد مشروع الإرهاب، ولن يكون له وجود على الأرض، ففى زمن تألق أم كلثوم وعبدالحليم كانوا أقرب إلى خفافيش الظلام.
المتحف المصرى الكبير هو درة القوة الناعمة المصرية التى يكن لها هؤلاء عداءً وجوديًا وحقدًا دفينًا، وهناك شيء إضافى أعمق بكثير يعبر عنه المتحف.
جماعة الإرهاب تصر على أن تحذف من ذاكرتنا التاريخ المصرى القديم وهويتنا العميقة، ويصرون بجهل مطبق على أنه كان تاريخًا وثنيًا، وأن الآثار القديمة ليست سوى أصنام، ثم ذهب البعض منهم إلى تأويلات بعض الآيات القرآنية للوصول إلى إدانة تاريخنا القديم.
ينسى هؤلاء جميعا أن التوحيد اختراع مصرى قبل أن تأتى به الأديان السماوية، وأن هذه الأرض مشى عليها أنبياء الله، من أبى الأنبياء سيدنا إبراهيم الخليل وصولا إلى سيدنا موسى الذى تربى وعاش هنا، ثم السيد المسيح الذى جاءت به والدته السيدة العذراء مريم، ليهربا من الاضطهاد الرومانى، وجدت العائلة المقدسة فى مصر وبين المصريين الأمن والأمان، ومصر كذلك توقف فيها البراق النبوى ليلة الإسراء والمعراج فى سيناء بمنطقة جبل الطور، وفى نفس المنطقة بسيناء تجلى الله جلّت قدرته، وخاطب موسى الكليم، لم يحدث ذلك فى أى بقعة بالعالم.
تاريخنا القديم نعتز به وهو جزء أصيل من هويتنا، جماعات الإرهاب تريد محو هذا التاريخ، لتبدو مصر بلا جذور وبلا أصالة، فتكون سهلة، ليّنة طيّعة أمامهم.
إنشاء هذا المتحف فى جانب منه تأكيد على الاعتزاز بتلك الهوية والتمسك بها، حين بنى المصرى القديم التماثيل والمعابد، لم يكن يشيّد أوثانًا، لم يعبد المصريون يوما ما أوثانًا، كانت أعينهم وقلوبهم إلى السماء دائما، تبحث عن الإله الواحد الأحد، حتى اكتشفوه مع إخناتون.. المصريون كانوا دائما يبحثون عن الإيمان ويصلون إليه، قد لا يعرف بعضنا أن بناء الكعبة وقت أن كان نبى الله شابًّا، فى واقعة الحجر الأسود، كان البنّاء قبطيًّا مصريًّا، وكانت إعادة البناء فكرته، فقد غرقت سفينة كانت متجهة من السويس (القلزم) نحو ميناء جدة، وكان ذلك القبطى هو مَن اقترح الاستفادة من خشب تلك السفينة الغارقة فى إعادة بناء الكعبة، فقد رأى أن بناءها بحاجة إلى التجديد (الواقعة بتفاصيلها فى تاريخ الطبرى).
ومن اليوم وحتى يتم الافتتاح فى الثالث من يوليو القادم علينا أن نتوقع تلك الهجمات الإلكترونية، هل نذكر واقعة متحف الحضارات حين تم نقل المومياوات الملكية إلى المتحف، وكان الرئيس السيسى بنفسه فى استقبال الموكب.. وقتها شنوا حملات ضارية، اعتبروا ذلك نوعا من نبش القبور، ونوعا من عدم احترام الموتى، قالوا كلاما كثيرا، حتى إنهم احتجوا على أن إحدى المومياوات كانت مكشوفة الشعر، ولم تكن محجبة، إلى هذا الحد كان الهجوم ولنفس السبب، هم ضد أى مظهر من مظاهر الحضارة المصرية القديمة وآثارها.
هذه الحضارة تقول بوضوح إن مصر متراكمة الهوية، متنوعة التكوين، ولا يمكن اختزالها فى جانب واحد، ولا يصح شطب جزء أو مرحلة من مكوناتها، كما لا يجوز اختزالها فى تصور أصولى قديم، غير متفق عليه حتى بين أبناء الدين الواحد.. مصر المتنوعة والمتحضرة ترفض ولا تستوعب أن يكون هؤلاء هم لسان حالها، ناهيك عن أن يحكموها، وتلك عقدتهم مع تاريخنا القديم ومن ثم مع المتحف المصرى الكبير.
وأن تقف الدولة المصرية بقضِّها وقضيضها خلف هذا المشروع، بدءًا من رئيس الجمهورية بنفسه، فهذا يعكس الوعى العميق بالثقل التاريخى والحضارى المصرى، ومن الخيانة للوطنية المصرية أن نتجاهل هذا العمق أو أن يحاول أحد شطبه من الذاكرة، على الأقل تحويله إلى منطقة مدانة فى الضمير الدينى الإسلامى ومؤثمة فى الذاكرة الجمعية.
فى معظم وكبرى جامعات العالم هناك تخصص علمى كامل اسمه «علوم المصريات» مؤسس حوله كليات ومراكز بحثية كبرى، ونحن لدينا كليات الآثار فى مختلف الجامعات، سواء كانت حكومية أو أهلية أو خاصة... وهذا يعنى أن التاريخ لا يمكن مسحه، والحضارة لا يمكن إسقاطها أو وضعها فى خانة النسيان.
وسبق فى مراحل التاريخ المختلفة أن حاول البعض تجاهل تلك الحضارة أو الحديث عنها بما لا يليق وذهبوا جميعا إلى النسيان، لا يذكر التاريخ مواقفهم تلك إلا للتهكم وللتنديد بها، وبقيت الحضارة والآثار قائمة تتحدى النسيان والتجاهل.
ولماذا نذهب بعيدا؟، نابليون بونابرت وجّه مدافعه نحو أنف أبو الهول، فما سقط أبو الهول، لكن نابليون فشل، وباء بازدراء وسخرية المؤرخين والسياسيين.
المتحف المصرى الكبير، مشروع ضخم جدا، دعنا من تكاليفه الآن والجهد الذى بُذل فيه، لكن المهم الإرادة الوطنية والمعمارية التى وقفت خلفه، وذلّلت الصعاب حتى اكتمل، ونستعد الآن لافتتاحه فى حفل عالمى مهيب، وأعلن عدد من كبار زعماء العالم أنهم سوف يكونون فى الافتتاح، مثل رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، ورئيس وزراء إسبانيا، وغيرهما.
اهتمت الدولة فى السنوات الأخيرة بإنشاء المدن الجديدة وبناء الجسور والطرق وتأسيس الجامعات، صار لدينا أكثر من مائتى جامعة، فضلا عن مراكز الأبحاث، وتؤسس محطة الضبعة النووية، ولكن إلى جوار ذلك، لم تتجاهل الدولة المنشآت التى تحمى تراث وتاريخ هذا الوطن.
سنة 2021 افتُتح متحف الحضارات بالفسطاط، ويجتذب عشرات الآلاف من السياح سنويا، وفى العاصمة الإدارية هناك مدينة ضخمة للفنون وللثقافة، والآن يكتمل بناء المتحف المصرى الكبير، وتمت بنجاح عمليات نقل القطع الأثرية إليه.
أما المتحف السابق الكائن فى ميدان التحرير فسوف يظل يعمل، به قطع أثرية ويستقبل الزوار أيضا، أى أن المتحف الكبير لن يكون على حساب المتاحف القائمة، بل هو تتويج لها، باختصار مصر أكبر وأعمق من تصورات الإرهابيين وأحفاد الحاقدين، ويرى العالم وتشهد الإنسانية مَن الذى يسعى إلى البناء والتأسيس، ومَن يريد الخراب والهدم.. مَن يقيم الحضارة، ومَن يسعى نحو البربرية.


